اخترنا لكم

السيد ولد أباه: ما بعد الحداثة والنظام الليبرالي العالمي

في مقال هام مؤخراً لأستاذَيْ العلوم السياسية الروسيين، ارتيوم لوكين وارترير كورول، في مجلة «روسيا في الشؤون العالمية» (تصدر بالروسية والإنجليزية) حول ما بعد الحداثة في علاقتها بالسياسة ما بعد الليبرالية، نقرأ معالجةً طريفةً لتوجهات النظام الدولي الحالي من منظور ما اعتبره الكاتبان نهايةَ السيطرة الفكرية الغربية على رؤية العالم وبروز قوى حضارية جديدة ستحقق التوازن المنشود في العلاقات الدولية.

 مقولة «ما بعد الحداثة» postmodernism ظهرت، كما هو معروف، في نهاية السبعينيات، على يد الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار، وقد عرّفها بأنها «نهاية السرديات الكبرى للحداثة»، وهو يعني هنا الوعي الذاتي، والعقل التجريبي، والتاريخ الغائي والدولة العضوية.

 ما يبينه الكاتبان الروسيان هو أن هذه الفكرة عُرفت على نطاق واسع بأنها يسارية تتعلق بنقد العقلانية الأداتية وكشف مظاهر التداخل بين المعرفة والسلطة ومحاربة الأيديولوجيات التاريخانية والوضعية، كما هو جلي في أعمال ميشال فوكو وجاك دريدا وريتشارد رورتي.. بيد أنها في الحقيقة تعود للسياق المحافظ وليس للوسط اليساري الذي افتكها لاحقاً. لقد ظهرت موجة نقد التنوير والحداثة مع كانط وهيغل في مجهودهما للجم حركية العقلنة المناوئة للدين والتقليد، وبلغت أوجها لدى نيتشه وهايدغر وفيتغنشتاين.

ما يخلص إليه الكاتبان هو أن التركة الأساسية لحركية ما بعد الحداثة، هي النقد الجذري للمركزية الثقافية الغربية وللتصور الأحادي للتاريخ والتأكيد على الأبعاد غير العقلانية في الوجود والتفكير، وعلى عرضية واحتمالية الواقع بدل خضوعه لمبادئ وقواعد حتمية يحددها العلم التجريبي.

إن هذه الأفكار، وإن تبناها اليسار، هي في حقيقتها أفكار قومية محافظة، وقد عادت اليوم بقوة عبر الموجة ما بعد الليبرالية التي تجتاح العالمَ راهناً، في ما يشبه نشوء ثورة محافظة شاملة.

بيد أن ما يهم الكاتبين هو ما يتعلق بنهاية السردية المركزية الغربية ونشوء أقطاب ثقافية استراتيجية بديلة، تتمحور حول الصين والهند وروسيا.

في الصين تدور تجربة التحديث الاقتصادي والتقني حول هدف خَلقِ «شكلٍ جديد من الحضارة الإنسانية» يتجاوز نموذج الحداثة الرأسمالية. ومع أن للنموذج الصيني خصوصياته المحلية، إلا أنه يطمح ليكون بديلا عالمياً، كما يظهر من مقولة «المجموعة العالمية ذات المصير المشترك».

وإذا كان النموذج الصيني هو مزيج من الاشتراكية الماوية والتقانة الرأسمالية في سياق حضاري كونفوشيوسي دون حريات ليبرالية، فإن التجربة الروسية حسب الكاتبين قادرة بصفة أقوى على مواجهة الغرب النيوليبرالي بوصفه «عدوانياً» و«غير متسامح»، متناغمةً مع الديناميكية المحافظة العارمة التي تجتاح العالَم الغربي حالياً. النظام المحافظ التقليدي في روسيا يغدو عندئذ بديلاً جذاباً عن الفوضى الغربية، وخياراً ناجعاً يتلاءم مع القيم الحضارية الأصلية للغرب.

أما الهند فهي حسب الكاتبين «أفضل نظام أيديولوجي ممكن» باعتبارها دولة ديمقراطية وإن كانت غير ليبرالية، كما أنها دينية وإن كان نمط إيمانها يختلف عن الديانات ذات البعد الثنائي، وقد يصبح نموذجها الروحي الأيديولوجي مسلكاً مغرياً للجنوب الشامل.

والخلاصة التي يصل إليها الكاتبان هي أن التعددية الروحية والأيديولوجية أصبحت اليوم سمة العالَم الراهن، ولم يعد بإمكان أي قوة دولية أن تتحكم في مصيره، بما يفرض نمطاً جديداً من المنظومة الجيوسياسية المتوازنة الضابطة للعلاقات الدولية. هذه التعددية القيمية والروحية هي المضمون الفعلي لفكرة ما بعد الحداثة، بما يعزز مكانةَ ودورَ روسيا من حيث هي القوة ما بعد الحداثية الأولى في العالَم. تفرض علينا هذه الأطروحة التي لخصناها، في سماتها الأساسية، ثلاثَ ملاحظات كبرى:

أولاً: رغم أن الحداثة كمفهوم وتجربة نشأت في العالم الغربي، إلا أنها تميزت بكونها قامت منذ ظهورها على ادعاء الطابع الكوني الإنساني، بدل أن تعبر عن هوية ثقافية أو تاريخية خصوصية. ولا شك أن محددات العقلانية والموضوعية والحرية غدت اليوم ميراثاً بشرياً عالمياً مهْما كان الخلاف حول انعكاساتها الفعلية العملية.

ثانياً: من غير الدقيق إرجاع حركية ما بعد الحداثة إلى فلسفة نيتشه وهايدغر، رغم كونهما اضطلعا بدور أساسي في نقد الذاتية والعقلانية الأداتية، لكون هذه الحركية نشأت أساساً في إطار الابستمولوجيات ما بعد الوضعية وأزمة الأيديولوجيات التاريخانية وبصفة خاصة الماركسية، وبالتالي فهي بمنأى عن الجدل اليساري المحافظ الذي يتحدث عنه الكاتبان.

ثالثاً: لا شك في أن الثقافة الليبرالية الغربية لا تزال جاذبةً ومغريةً على الصعيد الكوني، ومن الصعب اليوم منافستها ببدائل حضارية أخرى من منظور حقوق التنوع الثقافي والحضاري الذي هو في نهاية المطاف مفهوم حداثي غربي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 يوليو 2025 00:26

في المثقف اليوم