قضايا
محمد الربيعي: منع العلماء هو قتل للعلم.. فهل نريد جامعات بلا علم؟

اذا كان العلم نورا، فان الحرية الاكاديمية هي الهواء الذي يحمله. واذا كانت الجامعات مصانع العقول، فان تقييد حريتها هو اغلاق لتلك المصانع، وحرق للمخزون الفكري، وتدمير متعمد لمستقبل الوطن. فكيف يعقل ان نطالب بالابتكار والتميز في التعليم العالي، ثم نكمم افواه العلماء، ونمنعهم من مشاركة افكارهم؟ اهذه ازدواجية مقصودة؟ ام انها سياسة ممنهجة لخنق المعرفة، وتجفيف منابع الابداع؟
ما الذي تخشاه الانظمة من كلمة عالم؟ وما الذي يهددها من محاضرة او ندوة؟ لماذا يعتبر استضافة الباحثين والمفكرين جريمة تستوجب المنع؟ اليس العلم ملكا للانسانية؟ ام ان بعض القيادات تريد علما مسيسا يروج لاجنداتها ويحرم ما عداها؟ ان منع العلماء من القاء المحاضرات ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة من التعتيم الفكري، سياسة مقصودة لفرض الوصاية على العقول وابقاء الاسوار حول الافكار.
انها ليست مجرد "اجراءات احترازية" او "حماية للخطاب الرسمي"، بل هي اعلان صريح بأن الجامعات لم تعد فضاء للبحث والنقاش، بل ساحات للترويج والتلقين. فاذا كان الطلاب يمنعون من سماع اراء خبراء العالم، فكيف سنبني جيلا قادرا على المنافسة العالمية؟ كيف سننتج بحثا علميا جادا اذا كنا نرفض حتى الاستماع الى من قد يختلفون معنا؟
الحرية الاكاديمية ليست ترفا، بل هي شرط اساسي لبقاء الجامعات حية. فبدونها، تتحول قاعات المحاضرات الى مقابر صامتة، والاساتذة الى موظفين ينقلون معلومات جافة بلا روح، والطلاب الى مجرد ارقام في سجلات رسمية. ان سحق حرية التعبير داخل الحرم الجامعي هو اجهاض للابداع وتكريس للجهل وتدمير منهجي لأي امل في التقدم.
والاخطر من ذلك، ان هذه السياسات ليست سوى جزء من حرب شاملة على العقل. فكلما ضاقت دوائر الحوار، اتسعت دوائر التلقين. وكلما منع العلماء من الكلام، سيطر المتطرفون والجهلاء على الساحة. انها معادلة واضحة: لا حرية = لا علم = لا مستقبل.
التعليم العالي الحقيقي لا يزدهر الا بالتنوع، ولا ينمو الا بالاختلاف. فالعلم لا يعرف حدودا سياسية ولا يبنى بالشعارات. اذا اردنا جامعات تخرج مبتكرين، فلنفتح الابواب للنقاش الحر، ولنستقبل كل صوت يحمل فكرة جديدة، حتى لو كانت مزعجة للسلطة. فالحضارات تبنى بالحوار، لا بالاملاء.
اما اذا استمرت سياسة التكميم، فسنكون امام جيل من الطلاب بلا اسئلة وباحثين بلا جراة وجامعات بلا روح. عندها، لن نكون امام ازمة حرية فحسب، بل امام كارثة تعليمية تهدد وجودنا كامة قادرة على اللحاق بركب الحضارة.
الوقت يحترق، والمستقبل يسرق من بين ايدينا. اما ان نختار الحرية الاكاديمية طريقا، فنسمح للعلماء بالكلام، وللطلاب بالسؤال، وللافكار بالتصادم، او ان نستسلم لثقافة الخوف، فندفن في سرداب التخلف، ونترك وراء قطار التقدم.
الخيار ليس صعبا... لكن الجبناء فقط من يخافون من الحرية.
***
ا. د. محمد الربيعي