اخترنا لكم

خالد الغنامي: العنصر الفلسفي في فكر فيبر

كتاباته لم تقتصر على تشريح البنى الاقتصادية والسياسية

رغم أن ماكس فيبر لم يقدّم نفسه بوصفه فيلسوفاً، فإن إرثه يتضمّن مساهمات فلسفية عميقة في فهم العقلانية الحديثة، وأخلاقيات الفعل، وإشكالية المعنى في عالم متفكك. فقد سبق كثيراً من فلاسفة الوجود في تحليل مأزق الإنسان الحديث، وطرح مفهوم «نزع السحر عن العالم» بوصفه تشخيصاً أنطولوجياً لانهيار المرجعيات العليا. وأسهم فيبر في نقد الحتمية التاريخية، وبيّن أن التاريخ لا تحكمه غايات عقلية بل صراعات قيم لا نهائية، مؤسساً بذلك لرؤية تعددية للحداثة. ومن خلال تأملاته في العلاقة بين الدين والعالم، كشف عن التوتر بين الخلاص الفردي وبناء المؤسسات، رابطاً بين التديّن والعمل كشرط أنطولوجي جديد. كذلك، مهّد لفلسفات القلق الأخلاقي، حيث لا يمكن للفعل أن يكون بريئاً أو يقينياً في عالم تراجيدي.

من يمعن النظر في كتاباته لا بد أن يكتشف خلف هذا الوجه العلمي نظاماً فلسفياً متيناً يتعامل مع أسئلة المعنى والحرية والمصير بوصفها جوهر الوجود الإنساني. ففكر فيبر لا يقتصر على تشريح البنى الاقتصادية والسياسية، وما جرى اعتباره في حقل علم الاجتماع، بل يتوغّل في الطبقات العميقة للحداثة كتحوّل أنطولوجي عاشه الإنسان الغربي، كاشفاً عن الثمن الباهض للعقلنة، وحدود التقدم، ومأساة الفاعل في عالم خالٍ من القداسة. ولعلّ أبرز ما يميز رؤية فيبر وعيُه الحاد بأن العقلانية الحديثة، التي نظّر لها كعملية تنظيم متزايد لحياة البشر وفق معايير الكفاءة والحساب، لا تؤدي بالضرورة إلى حريّة الإنسان، بل قد تكون طريقه إلى نوع جديد من العبودية؛ عبودية لآليات بيروقراطية صمّاء تفرغ الوجود من كل مضمون روحي أو ذاتي.

فالمجتمع الحديث، في سعيه لإخضاع العالم إلى أدوات الضبط والسيطرة، أنشأ ما سمّاه فيبر: القفص الحديدي، حيث يفقد الإنسان علاقته المباشرة بالعالم، ويغدو ترساً داخل آلة لا تكلّف نفسها عناء سؤاله عمّا يشعر به أو يؤمن به. إن هذا التحوّل لا يُختزل في بعده التقني أو الإداري، بل هو تحوّل في ماهية الوجود نفسه؛ إذ لم يعد العالم مكاناً مأهولاً بالأرواح والمعاني، كعالم لايبنتز الكامل بزعمه، بل أصبح شيئاً خارجياً، محايداً، تقنياً، لا يتفاعل مع الإنسان بل يُخضِعه.

من هنا جاء مفهوم «نزع السحر عن العالم»، الذي لا يعني مجرد تراجع الخرافة أو سيادة العلم، بل انهيار النظرة القديمة التي كانت ترى في الكون كياناً مشبعاً بالرموز والمقاصد والمعاني، واستبدال نظرة حسابية بها ترى في الأشياء أدوات، وفي الإنسان وحدة إنتاج أو إدارة. وبهذا، يجد الإنسان الحديث نفسه في عزلة وجودية، محروماً من المعنى، مطالباً باختراع ما يبرر حياته في ظل انهيار المرجعيات العليا، سواء كانت دينية أو ميتافيزيقية. فيبر لا يعرض هذه النتيجة بفرح تقدّمي، بل بشعور تراجيدي، إذ يعتبر أن الإنسان لم يعد قادراً على الإيمان بوحدة قيمية متعالية، وأن الأخلاق نفسها قد انقسمت إلى اتجاهات متضادة، أبرزها أخلاق القناعة وأخلاق المسؤولية. الأولى تلتزم بالمبدأ المجرد دون نظر في نتائجه، أما الثانية فتعترف بتعقيد الواقع، وتتحمل مسؤولية النتائج حتى لو خالفت المبدأ الأصلي.

هذا الانقسام لا يعكس مجرد جدل أخلاقي، بل يكشف عن مأزق وجودي عميق. لم يعد بإمكان الإنسان أن يكون أخلاقياً دون أن يكون مأزوماً بالضرورة، لأن كل خيار أخلاقي أصبح محمّلاً بإمكانات الفشل والتضحية والتناقض. ومن هنا، لا يكون الفعل الأخلاقي عند فيبر سعياً إلى الطمأنينة، بل قبولاً باللايقين، وتحملاً للمخاطرة، واعترافاً بغياب الكمال.

هذه الرؤية تمتد إلى السياسة حيث يُقدّم فيبر شخصية الفاعل السياسي نموذجاً للوعي التراجيدي، الذي يعرف أنه لا يستطيع أن يحقّق الخير المطلق، لكنه يواصل فعله بوصفه مسؤولية لا يمكن التخلّي عنها. كما يكشف فيبر في كتاباته عن توتر بنيوي داخل الحداثة، يتجلّى في الثنائية بين الشخصية الكاريزمية الملهِمة التي تُحدث قطعاً مع المألوف وتؤسس قيماً جديدة، وبين الشخصية التنظيمية المحايدة التي تحافظ على النظام. فالشخصية الكاريزمية الملهِمة عند فيبر هي الفاعل الخارج عن القاعدة، التي تتلقى رؤيتها من قوة عليا، وتتكلم من موقع الإلهام لا من موقع التخصّص، وهي في ذلك تشكّل بداية جديدة، لكن هذا لا يستمر بعد موتها. ما إن تغيب، حتى تبدأ حركتها بالتقنين، وتتحوّل الكاريزما إلى نظام، أي إلى بيروقراطية.

هذا التحوّل الحتمي من الرؤية إلى الإدارة هو ما يجعل التاريخ الحديث دائرة مأساوية من الإلهام إلى الخمود، ومن الثورة إلى التقنين، وتكوّن نظام إداري وتشريعي يضمن الاستمرارية، لكنه لا يستبقي الروح الأولى. وفيبر، إذ يصف هذا التحوّل، لا يراه فساداً طارئاً، بل ضرورة تاريخية تُظهر أن العالم لا يُدار بالكاريزما، بل بالبيروقراطية، وأن الحداثة لا تحتمل الأنبياء، بل تحتاج إلى موظفين. لكن هذا الانضباط، رغم ما يمنحه من استقرار، لا يمنح الإنسان المعنى، ولا يروي ظمأه الوجودي. ولهذا فإن الحداثة، من وجهة نظر فيبر، تفتقر إلى البطل، وتنتج إنساناً فاقداً للروح، يعمل بلا شغف، ويعيش بلا رؤية. غير أن فيبر لا يسقط في اليأس، بل يرى أن ما تبقّى للإنسان هو أن يتحمّل مسؤوليته في خلق المعنى، لا عبر العودة إلى الوهم، ولا عبر التسليم للتشاؤم، بل عبر تأكيد فعله الحر، رغم إدراكه لانعدام الضمان. هو موقف أقرب إلى التراجيديا منه إلى العبث، أقرب إلى كانط منه إلى نيتشه، رغم تأثره العميق بكليهما. فلا المعنى يُعطى، ولا القيم تُفرض، بل كل شيء يُبنى من الداخل، عبر فعل حرّ، قلق، لا يضمن شيئاً إلا صدقه مع ذاته.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:  21 يوليو 2025 م ـ 26 مُحرَّم 1447 هـ

في المثقف اليوم