قضايا

حاتم حميد محسن: الذكاء الإصطناعي والعقل المستعار

تحذير تولستوي

في قصة تولستوي (موت ايفان ايليتش)، يموت قاضي بعمر 45 عاما، مدركاً بعد فوات الاوان انه لم يعش حقا. حياته استعيرت لأنها تشكلت وفقا للاتفاقيات وليس وفق الأصالة. هو لم يدرك المسؤولية الاجتماعية للمعنى، واعترف بالحقيقة المذهلة فقط عند عتبة الموت : هو تنازل عن حياته لتوقّعات الآخرين. قصة تولستوي، وحتى العنوان، مثيران للقلق. هي ليست قصة حول الموت، انها حول الحياة. رواية تولستوي تلقي ضوءاً على حياة شخص أمضاها في ظروف مستعارة. انها حياة لم تُختبر، لم تُستجوب، وفي التحليل النهائي لم تُستعاد. ايفان ايليتش كان محترما، وناجحا، لكنه لايزال رجلا فاضلا يُترك على فراش الموت مع القليل من التأمل الداخلي المعذب.

اليوم تخاطر البشرية بمصير مشابه. ليس فقط بحياتنا وانما بعقولنا لأن الذكاء الاصطناعي يغرينا لإستخدام مصدر خارجي لتفكيرنا.

صعود الذهن المستعار

الأذهان المستعارة ليست جديدة، بل ان التاريخ مليء بها. الناس منذ وقت طويل وثقوا بالمؤسسات لتقوم بالتفكير نيابة عنهم، سمحوا للدوغما وللايديولوجية السائدة في تلك اللحظة لتحل محل الشك. الإمتثال كان دائما ملاذاً يقدم راحة الإنتماء على حساب الفردية.

لكن الشيء الجديد هو الحجم الهائل لإغواء الفهم المستعار في عصر الذكاء الاصطناعي. اليوم، يمكن للمكائن تقليد الافكار بسهولة وطلاقة. هي تستطيع صياغة رسائل البريد الالكتروني، والمختصرات القانونية والرسائل الودية التي هي عادة ما تكون مصقولة ومقنعة وعميقة. مع ذلك هناك تحت السطح لا يكمن أي شيء – لا فهم، لا قصدية، لا روح.

هذه كلها ضد الذكاء، آداء للمعرفة دون فهم. وبعبارة اخرى، انه ادراك مزيف. في ذاته هو تقليد ذكي، ليس اكثر تهديدا من ببغاء تردد بضع كلمات. الخطر يأتي عندما نحن البشر نقبله بلا نقد، ونستبدل طلاقته بكفاحنا الفكري . في تلك اللحظة، نحن لم نعد فقط نستعير افكارا، بل نستعير أذهاننا.

لماذا نستعير أذهانا؟

لماذا نحن نقوم بذلك؟ لأن التفكير شاق، والخلق هو غير مؤكد. أدمغتنا تتلهف للكفاءة، والذكاء الاصطناعي يقدم كفاءة بحجم لم نشهد له مثيلا من قبل. في ثواني، يُرفع عبء التأمل وبتأكيد ظاهر. اذن، لماذا نصارع مع الغموض عندما يمكن لنموذج لغة كبير إعطاء إجابة أنيقة ومرتبة؟ لكن الصراعات التي نحاول التغلب عليها  - من الشك الى الدهشة – هي ما يجعل التفكير حقا لنا. هي بالضبط نسيج من الادراك وعدم الاتفاق الذي يولّد أصالة. محوه يعني محو الانسان.

تجربة عملية عن الصراع مع الذكاء الاصطناعي

يقول جون ناستا John Nosta منظّر الابتكار ومؤسس المعهد الفكري (نوستالاب) انه يدرك هذا التوتر منذ البداية. انه استعمل الذكاء الاصطناعي، اختبر الافكار، وحتى حلل البيانات الطبية. في أحسن الاحوال، كان عدسة تشحذ المنظور. يساعده ليرى  نماذج في البيانات، يصوغ الحجج من زوايا جديدة، او يستجوب تحيزاته الظاهرة والخفية. باستعمال هذه الطريقة، هو محفز ومحرض لكن إغواء الاستعارة هو دائما سهل جدا.

وربما الأكثر خطورة هو انه عادة يعمل بدون تحديات. ويضيف الباحث انه لو ترك الماكنة تقرر استنتاجاته، هو لم يستعر فقط كلماتها وانما استعار عقلها. وفي هذا السياق، هو فتح بابا واحدا للحقائق المنظمة والارقام لكنه ضيّق او أغلق ابوابا اخرى – أغلق الذهن الذي يجعله هو. هذه هي المفارقة التي نواجهها جميعا. الذكاء الاصطناعي يمدد تصوراتنا لكنه لا يجب ابدا ان يصبح بوصلتنا. العدسة توضح ما نرى. اما البوصلة تخبرنا أين نذهب. الاولى تعزز الفكر. الثانية تستبدله.

درجات الاستعارة

ليس كل الاستعارات متساوية. بعض أشكالها حميدة وحتى مفيدة لكفائتها في مجالات مثل التصحيح الإملائي، الترجمة، او التلخيص، حيث يمكنها بالتأكيد توفير الوقت بدون ازالة الملكية. لكن استعارة الحكم والتفسير او المعنى سيكون كارثيا. الذهن المستعار ليس دائما مطلقا لكن انحداره زلقا. كلما قمنا بالاستعانة بمصادر خارجية لأجزاء التفكير الصعبة كلما قلّت ملاحظتنا لتغيّر صوتنا الداخلي وضعفه.

استعادة تفكيرنا

تولستوي يترك ايفان ايليتش مع ومضة أخيرة من الوضوح، كان متأخرا جدا لإستعادة حياته لكن يكتفي فقط ليموت بصدق. مهمتنا هي ان نستعيد ذلك الوضوح وسط العيش ضمن او بين نشاز التكنلوجيا. هذا يعني إدخال المعارضة عن قصد وبهدف مقاومة راحة الأجوبة الفورية. عندما ينتج الذكاء الاصطناعي جوابا أنيقا،علينا استجوابه.  نسأل من أين جاء، ماذا أخطأ فيه، ومن المهم جدا ان كنت تستطيع الدفاع عنه بدون وجود الآلة. عندما تشعر بإغراء السلاسة، عليك ان تتذكر ان الأصالة غالبا ما تكون خشنة في البداية وحتى محرجة. الصراع والمراجعة ليسا من عدم الكفاءة التي يمكن تحسينها، هما بصمة الذهن غير المستعار.

استنتاج نهائي

الذهن المستعار هو أسوأ من الموت لأنه ذاته يتظاهر كحياة. انه يتحدث ويقنع لكنه أجوف. وحالما يتم قبوله، يكون الاستسلام بارعا وربما غير مرئي. قد لا تدرك انك كشفت سرا عن نفسك حتى يصبح الصمت في الداخل مزعجا ولا يمكن انكاره . الموت يأخذ الجسد. اما الذهن المستعار يميتنا ونحن لانزال على قيد الحياة. الموت حتمي بينما الذهن المستعار خيار. هذه هي التراجيديا الحقيقية لعصرنا، تراجيديا أسوأ من الموت. 

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم