قضايا
سليم جواد الفهد: الأساس الأخلاقي للإلزام السياسي

نظرية العقد الاجتماعي نموذجاً
لو سألت سنياً عراقياً هل تلتزم أخلاقيا بالنظام السياسي الذي يرأسه سياسي شيعي؟
لأجابك بالنفي!
والأصل في المخالفة هو البعد الطائفي.
ولو سألت شيعياً عن الأمر نفسه لأجابك: تريد دائما عمر يحكم عبد الزهرة!
والأصل في المخالفة أيضاً هو البعد الطائفي.
ونسأل أليس هناك نظام سياسي يجمع عبد الزهرة وعمر ويلتزمون فيه التزاما أخلاقيا؟
والجواب نعم قولاً واحداً أنه (العَلمانية) نظام المواطنة نظام الحقوق والواجبات وآليته الديموقراطية التي تعني التداول السلمي للسلطة.
وشعارها العظيم "الدين لله والوطن للجميع".
وإذا أحرزنا هذا القول وآمنا به وهو حق نقول: يتمحور موضوع الأساس الأخلاقي للإلزام السياسي حول واجب المواطنين الأخلاقي في طاعة قوانين الدولة والسلطة السياسية وهو موضوع فلسفي يربط بين الأخلاق والسياسة.
بحسب الدراسات الفلسفية وأخلاقيات السياسة هناك نوعان رئيسيان من الأسس الأخلاقية للإلزام السياسي:
الأول: الأسس الفردانية:
وتشمل مبادئ مثل الإنصاف والتعامل بالمثل (عدالة) والرعاية أي اهتمام الفرد بالآخرين وحقوقهم. على هذا الأساس يلتزم المواطن بالقوانين لأن ذلك يعود بالنفع على الجميع من حيث العدالة والرعاية المتبادلة.
الثاني: الأسس الملزمة:
و تشمل الانتماء للجماعة والولاء للسلطة والاحترام والتمسك بالقيم الأخلاقية التي تكبح الشهوات والأنانية لأجل بقاء النظام واستمراره. هذا النوع من الأسس يؤكد أن الالتزام بالقانون ينبع من الارتباط الجماعي والاحترام للسلطة السياسية الشرعية.
تاريخياً ارتبط مفهوم الالتزام السياسي بأخلاقيات القوانين وموضوعات مثل العدالة والشرعية والسلطة. وهناك توجهات فلسفية ترى أن الإلزام السياسي يكتسب قوة أخلاقية من وجوب الحفاظ على النظام والحقوق المشروعة للمجتمع وهو واجب أخلاقي ينشأ من ضرورة النظام الاجتماعي وحق الدولة في المطالبة بالطاعة من مواطنيها.
بشكل عام يمكن القول إن الأساس الأخلاقي للإلزام السياسي يقوم على مزيج من العدالة الفردانية والولاء الجماعي واحترام السلطة بهدف تحقيق نظام سياسي يضمن الخير والمصلحة العامة ويُحترم من قبل الأفراد بوصفه واجباً أخلاقياً مستنداً إلى قيم العدالة والاحترام المتبادل والمصلحة الاجتماعية العامة.
وهناك حجج فلسفية لفرض الطاعة للسلطة تستند إلى عدة مؤسسات ونظريات مركزية في الفلسفة السياسية من أهمها وأبرزها:
1.الضرورة الاجتماعية والنظام:
تفترض هذه الحجة أن البشرية بطبيعتها الأنانية تميل إلى التنازع والاستحواذ وتخلق الفوضى بدون سلطة مركزية تفرض النظام.
فوجود السلطة يحقق النظام والاستقرار الضروريين للحياة الاجتماعية المستقرة وهذا يلزم طاعة السلطة للحفاظ على النظام ومنع الفوضى.
2. العقد الاجتماعي:
حسب فلاسفة مثل "توماس هوبز" و"جان جاك روسو" فإن الأفراد يتنازلون عن جزء من حرياتهم لصالح سلطة سياسية مُنظمة في سبيل تحقيق الأمن والسلام وبالتالي فإن طاعتهم للسلطة تأتي من موافقتهم وتعاقدهم الاجتماعي الضمني.
3. الشرعية الأخلاقية:
من الطبيعي أن السلطة تكتسب حق فرض الطاعة إذا كانت تحقق المصلحة العامة والخير المشترك للجماعة فإذا انحرفت السلطة عن تحقيق هذه الأهداف تفقد شرعيتها وحق المطالبة بالطاعة.
4.السلطة والقوة:
من المهم التمييز بين القوة والسلطة حيث القوة هي القدرة على الإكراه في حين أن السلطة هي القدرة التي تستند إلى القبول والرضا والشرعية الأخلاقية ومن هنا لا يكفي وجود القوة لفرض الطاعة بل يجب أن تستند السلطة إلى قيم أخلاقية ومعتقدات تعزز قبول المحكومين لها.
5. المصدر الإلهي أو الميتافيزيقي:
تتخذ بعض النظريات موقفا يقيم السلطة على أساس ديني أو إلهي كما في النظريات الثيوقراطية التي تمنح السلطة مشروعية مطلقة استناداً إلى أن الحاكم ينفذ مشيئة إلهية- كما هي سلطة ولي الفقيه في إيران وسلطة ولي الأمر في السعودية وسلطة أمير المؤمنين ملك المغرب- وهو ما يبرر وجوب طاعته حيث يدخل عصيانه في باب المحرمات ومعارضته تكون كفراً بالله وسننه.
كيف تبرر نظرية العقد الاجتماعي وجوب الطاعة تبريراً عقلياً؟
نظرية العقد الاجتماعي تبرر وجوب الطاعة للسلطة على أساس أن الأفراد يتخلون طوعا وبكامل إرادتهم بشكل صريح أو ضمني عن بعض حرياتهم وحقوقهم الطبيعية في مقابل حماية بقية حقوقهم والحفاظ على النظام الاجتماعي. هذا التنازل الطوعي هو جوهر العقد الاجتماعي الذي يؤسس شرعية السلطة السياسية.
وتؤكد أنه في حالة الطبيعة الأولى أي قبل وجود سلطة سياسية تُنظم الحياة كان الأفراد أحراراً لكن معرضين للفوضى والاقتتال ولا يمكن أن تستمر الحياة في الفوضى لذا يوافقون على تأسيس سلطة قوية تفرض النظام وتحمي الحقوق. فطاعة السلطة تأتي من قبولهم للعقد الاجتماعي الذي يضمن لهم الحماية والنظام وهو شرط لاستمرار السلطة وشرعيتها.
(جان جاك روسو) مثلاً يرى أن العقد الاجتماعي يقوم على "الإرادة العامة" وهي مصلحة المجتمع ككل التي ينبغي على الأفراد الإلتزام بها طواعية حفاظاً على الحرية المدنية التي تكافئ الحريات الطبيعية المقيدة بالتعايش المنظم. وعندما تفشل السلطة في تحقيق هذه المصلحة يجوز للمواطنين عدم طاعتها أو تغييرها.
بهذا توضح نظرية العقد الاجتماعي أن وجوب الطاعة ينبع من الموافقة الطوعية الإرادية للعقد الذي يكفل النظام والبقاء الاجتماعي وهو عقد بين الأفراد والدولة لضمان حقوقهم الأساسية وأمنهم ويُفقد الشرعية إذا لم تفِ الدولة بالتزاماتها تجاه المواطنين.
واجهت نظرية العقد الاجتماعي اعتراضات على مبررات الطاعة تتمحور حول نقاط نقدية جوهرية تشمل:
أولاً: خلافية مفهوم الموافقة الطوعية:
تعتمد النظرية على فرضية أن الأفراد يوافقون طوعاً على العقد الاجتماعي لكن الواقع يشير إلى أن غالبية الأفراد لم يبرموا اتفاقاً صريحا مع السلطة وبذلك يكون انضمامهم للسلطة قسريا أو مفروضا مما يثير مشكلة عدم وجود موافقة حقيقية أو اختيار حر.
ثانياً: تصور الوضعية الخيالية للطبيعة:
تعتمد النظرية على افتراض تصور لمشهد "حالة الطبيعة" الذي ليس له وجود تاريخي حقيقي مما يجعل بناء العقد عليها افتراضياً أو خيالياً وهذا يُضعف من مصداقية مبررات الطاعة القائمة على هذا العقد.
ثالثاً: اختلال توازن القوى والتفاوت الاجتماعي:
كذلك أن الظروف الاجتماعية والسلطوية التي تُفرض على بعض الأفراد تجعل فكرة التنازل الطوعي عن الحقوق غير عادلة أو ممكنة فالسلطة غالباً ما تكون ناتجة عن علاقات قوة غير متكافئة.
رابعاً: الافتراضات الأخلاقية والمصالح الذاتية:
تشكك بعض النظريات بأن الدافع الطوعي لطاعة السلطة مبني على الأخلاق أو الصالح العام بل هو يعبر عن مصالح ذاتية أو ضرورة اجتماعية مما يطرح تساؤلات حول واقعية هذا الالتزام ومدى شرعيته.
خامساً: عدم توافق الأطراف المتعاقدة:
هناك نقد على أن الأطراف الافتراضية في العقد الاجتماعي عادة ما تكون مثالية أو متجانسة في حين المجتمعات الحقيقية متنوعة ومتناقضة في المصالح والقيم ما يجعل افتراض توافق حقيقي على العقد ضعيفاً.
وفي النتيجة يعاني مبرر الطاعة في نظرية العقد الاجتماعي من ثغرات جوهرية تتعلق بجدوى الموافقة الافتراضية اعتمادا على تمثيل حالة الطبيعة والعدالة في فرض الطاعة على الأفراد في ظروف القوة والتفاوت الاجتماعي.
كيف ردت نظرية العقد الاجتماعي على اعتراضات مفهوم الموافقة الضمني؟
ترد نظرية العقد الاجتماعي على اعتراضات مفهوم الموافقة الضمني بأن الموافقة ليست بالضرورة أن تكون صريحة أو مكتوبة بل يمكن اعتبار الإقامة المستمرة والطوعية داخل مجتمع معين دليلاً على الموافقة الضمنية على قواعده وسلطته. لذا بمجرد أن يختار الفرد العيش في مجتمع ما والاستفادة من النظام والحماية التي توفرها الدولة فهو يوافق ضمنياً على الالتزام بالقوانين والسلطة التي تحكم هذا المجتمع.
و تؤكد النظرية أن الموافقة الضمنية تستند إلى قرار شخصي وعقلاني بالعيش في إطار اجتماعي معين مع التزام بالقواعد التي تنظمه وليس مجرد فرض قسري. كما يُعتبر القانون والسلطة شرعيين طالما أن الأفراد يستفيدون من النظام الذي يوفره العقد الاجتماعي ويُعد الالتزام به ضماناً لاستمرار الحماية والاستقرار.
وبالتالي حتى وإن لم يُعبر الفرد صراحة عن موافقته فإن اختياره للبقاء والعمل والنشاط داخل المجتمع يفترض موافقته وتنازله الضمني عن بعض الحريات مقابل المزايا التي يقدمها النظام. وفي حال رفض الأفراد السلطة أو رفضوا شروط العقد يمكنهم مغادرة المجتمع أو السعي لتغييره بطرق قانونية سلمية وهذا أيضاً جزء من رد النظرية على الانتقادات المتعلقة بالموافقة الضمنية.
باختصار النظرية تعتبر أن الطاعة والإلتزام الأخلاقي للسلطة السياسية قائم على موافقة ضمنية عقلانية تجسدها المشاركة المستمرة في المجتمع والالتزام بمبادئه للحفاظ على النظام والحماية التي يوفرها العقد الاجتماعي. وواضح الفرق بين الموافقة الصريحة والضمنية.
فالصريحة تتم عبر تعبير واضح وموثق للموافقة إما شفهياً أو كتابياً بحيث يكون هناك تأكيد مباشر من الطرف المعني على قبوله.
أما الموافقة الضمنية فتستنتج من الأفعال أو التصرفات التي تدل على قبول مثل البقاء في مكان معين أو استخدام خدمة ما دون تصريح.
ولتكتمل الصورة نستعرض أمثلة معاصرة لطاعة غير مبنية على العقد الاجتماعي تتضمن حالات يتم فيها الإذعان أو الالتزام بالسلطة أو النظام دون موافقة ضمنية أو صريحة مرتبطة بعقد اجتماعي وهذه الأمثلة تشمل:
1. السلطات الاستبدادية والديكتاتورية:
في دول تفرض حكومات استبدادية سلطتها بالقوة والإكراه أو القمع حيث يخضع الأفراد للسلطة بسبب الخوف وليس بموافقة أو عقد اجتماعي.
2. الالتزام بالروابط العرقية أو القبلية: حيث يتبع الأفراد سلطات أو زعماء قبليين بناءً على تقاليد وبنى اجتماعية قائمة وليس بناءً على عقد سياسي أو عقد اجتماعي حديث.
3. الطاعة الجماعية في الهياكل الإيديولوجية:
كما في حالات الجماعات الدينية المتشددة أو الحركات الأيديولوجية التي تفرض طاعة أعضائها وليس هناك دائما عقد اجتماعي أو قبول سياسي أساساً.
4. العلاقات الاقتصادية أو التبعية الاجتماعية:
مثل طاعة العمال في مواقف غير منظمة أو مناطق يحصل فيها العمال على حماية ضعيفة حيث الطاعة تنبع من التبعية الاقتصادية أو الاجتماعية وليس من عقد اجتماعي سياسي.
5. الطاعة الناتجة عن الإكراه أو الظروف القهرية:
بما في ذلك الحالات التي تكون فيها السلطة مفروضة من الخارج أو عبر تدخلات عسكرية أو احتلال حيث لا يكون هناك اتفاق أو عقد اجتماعي بين المحكومين والسلطة.
هذه الأمثلة تعكس طاعة مستمدة من القوة أو التقاليد الاجتماعية أو القسر وليس من مبررات العقد الاجتماعي التي تعتمد على الموافقة والاتفاق بين الأفراد والسلطة السياسية.
بذلك تكون نظرية "العقد الاجتماعي" هي أرقى وأفضل النظريات التي تبرعمت من عقل البشر لضمان أمن واستقرار المجتمع الإنساني وديمومته.
***
سليم جواد الفهد
...................
المصادر المستفاد منها.
1.تأويلية السيادة في الفلسفة السياسية المعاصرة - سامي الغابري.
2.الدكتور، أبو يعرب المرزوقي، الفلسفة السياسية.
3.العقد الاجتماعي الأسس النظرية وأبرز المنظرين، مكي عبد مجيد.
4.أوجه الاختلاف بين روسو وهوبز ولوك في نظرية العقد الاجتماعي، حاتم حميد محسن.
5.السلطة وطاعة الجماهير في بحوث ستانلي ميلكرام، سلام طه.
6.الدولة نظرياً وعملياً، هارولد ج. لاسكي.
7.ستنالي مليگرام، في طاعة البشر للسلطة.
8.توماس هوبز: الفلسفة الأخلاقية والسياسية.
9.فلسفة الحجاج القانوني: بين شمولية السلطة وعنف الأيديولوجيا. مقالة لـ شاييم بيرلمان ترجمها أنور طاهر.
10.إيمانويل كانط، العقد الاجتماعي، والدولة.
11.العقد الاجتماعي" لـ "جان جاك روسو"، عادل زعيتر.