قراءات نقدية

عبد الله بن أحمد الفَيفي: من المانويَّة اللُّغويَّة إلى السيميولوجيا!

ناقشنا في المساق السابق بعض المزاعم التي أدلَى بها صاحب كتاب «الصاحبي في فقه اللُّغة»، (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، ـ395هـ= 1004م)(1)، الذاهبة إلى أنَّ اللُّغة الإنسانيَّة توقيفيَّة، محتجًّا بإجماع العلماء على ذلك. فسألتُ مولانا (ذا القُروح):

ـ عن أي لغةٍ يتحدَّث؟

ـ هو يتحدَّث عن لُغة العَرَب وحدها، وكأنْ ليست في الكون لُغة سِواها. وكأنَّها هي اللُّغة التوقيفيَّة الوحيدة. والتوقيفيُّ منها: ما عاصر نزول «القرآن» فقط، لا ما قبله ولا ما بعده من لُغة العَرَب أنفسهم!

ـ كأنَّما (ابن فارس) هذا لا يُعمِل عقله، كما ينبغي أن يُعمِله أقلُّ الناس عقلًا وفكرًا وثقافة. ومع هذا يُعَدُّ إمامًا في اللُّغة! وهذا برهان ثقافةٍ تُصَنِّم أحبارها ورهبانها، ولو كانوا لا يعقِلون شيئًا ولا يهتدون!

 ـ والخطُّ توقيفيُّ لديه كذلك!(2) وهو يخصُّ هنا كذلك الخطَّ العَرَبي، دون سِواه.

ـ والنحو العَرَبي؟

ـ لم يقل إنَّه توقيفي، لحُسن الحظ، لكنَّه بزعمه كان معروفًا لدَى العَرَب في الجاهليَّة، فلا فضل لـ(أبي الأسود الدؤلي)، ولا لغيره ممَّن تلاه من النُّحاة، سِوَى في التذكير بعِلم النحو العَرَبي الجاهلي!(3)

ـ وعِلم العَروض؟

ـ لم يقل إنَّه توقيفي، لحُسن الحظ أيضًا، لكنَّه كذلك زعمَ أنْ لا فضل لـ(الخليل بن أحمد) في وضعه؛ فقد كان يعرفه العَرَب قبل الإسلام، لكنَّهم لم يدوِّنوه!(4) بالرغم من أنَّ الخطَّ العربيَّ توقيفيٌّ معروفٌ منذ آدم، أي قبل أن يوجَد العَرَب أصلًا!

ـ ظلماتٌ فارسيَّةٌ بعضها فوق بعض!

ـ ومن ثَمَّ لا زيادة لمستزيد من عِلم، ولا جديد تحت الشمس، ولا إبداع للإنسان، بل هو يعلم كلَّ شيء منذ آدم. إلى غير هذه من التوقيفيَّات، التي هي في حقيقتها محض توقُّف في ذهنٍ منطفئٍ لـ(ابن فارس) نفسه. بل هو- إنْ أردتَ الحقَّ الذي لا جمجمة فيه ولا غمغمة- اعتقادٌ مانويٌّ(5)، سُوِّق في تراثنا على أنَّه وجهة نظرٍ تأويليَّةٍ لتفسير الآية: «وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا». وكان يمكن القول إنَّ «الأسماء» هنا لا تعني  «الأسماء» في مقابل «الأفعال»، حسب التصنيف الاصطلاحي النحوي، الذي إنَّما وُجِد في مرحلةٍ لاحقة، ولكن بمعنى «العلامات» الإشاريَّة إلى الأشياء، أو ما يُسمَّى في عصرنا (السيمائيَّة).  من حيث إنَّ كلمة «اسم» في العَرَبيَّة أصل معناها: «وَسْم»، أي: علامة. وقد تطرَّق إلى هذا ابن فارس(6) نفسه، ولكن دون رأيٍ مستقلٍّ أصيل، بل هو مقلِّد مردِّد. فقال في «باب القول على الاسم من أيِّ شيء أُخذ؟»: «قال قوم: الأسماء سِماتٌ دالَّة عَلَى المُسَميَّات، ليُعرَف بِهَا خطاب المخاطب.» وهذا ما نراه نحن وقلناه. ثمَّ أردفَ: «وهذا الكلام محتمِل وجهين: أحدهما أن يكون الاسم سِمَة كالعلامة والسِّيماء. والآخَر أن يقال: إنه مشتق من (السِّمَة).» هكذا قال. و(العلامة)، و(السَّيماء)، و(السِّمَة) شيءٌ واحد، فالوجه في الأمر وجهٌ واحدٌ لا وجهان؟! ولذا كنَّا قد اقترحنا في بعض بحوثنا مصطلح «السِّيْمَوِيَّة أو عِلم السِّيْمات»، بديلًا عَرَبيًّا لمصطلح «سيميولوجيا Semiology»، أو «عِلم العلامات»، ونحوهما من المصطلحات المستعملة في الترجمات العَرَبيَّة؛ لأنَّ «السِّيْمَوِيَّة» مطابقٌ عَرَبيٌّ أصيلٌ لمصطلح «سيميولوجيا»- ذي الأصل الإغريقيِّ Semion- مبنًى ومعنًى.  فـ«السِّيْمَوِيَّة» مأخوذةٌ من «سِيْمَة»، كما اتُّخِذت: «بِنْيَوِيَّة» من «بِنْيَة»، و«السِّيْمات»: جمع «سِيْمَة» أو «سِيْمَا» أو «سُوْمَة»، بمعنى علامةٍ أو «سِمَة». وقد استُخدِمت الكلمة في «القُرآن» بدِلالاتها المختلفة على أنواع العلامات، لكنَّه يُشار بها إلى تلك العلامات ذات الدلالة الفارقة. وهنا تكمن ميزةٌ أخرى لمصطلح (سيما) عن غيره، كـ(علامة)، و(إشارة)، اللَّذين يُعجِبان العَرَب والمعرِّبين اليوم. مثل قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، مِنَ النِّسَاءِ، والبَنِينَ، والقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ، مِنَ الذَّهَبِ، والفِضَّةِ، والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ». وقوله: «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِن طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ». وقال: «وعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ». كما قال: «سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ». (ويُنظَر في دلالة هذه المادَّة اللغويَّة، مثلًا: ابن منظور، لسان العَرَب، (سوم)).  حتى إنَّ عوامَّ (مِصْر) ما زالوا يقولون، مثلًا: «بين فُلان وفُلان سِيْم مُعَيَّن»، أي إشارة أو شِفرة. والمصطلح بصيغته هذه يستقلُّ أيضًا عن إلباس المصطلحات العَرَبيَّة المستعملة الأخرى، في بعض الدراسات التطبيقيَّة، مثل: «السِّيميائيَّة Semiotic».  من حيث إنَّ «السِّيميا/ السِّمياء» تُشير في تراثنا إلى ضروبٍ من الطلسمات والأعمال السِّحريَّة، تحدَّث عنها (أحمد بن علي البوني، -622هـ)، في الفصل السَّابع والثَّلاثين من كتابه «شمس المعارف الكُبرَى».  وقال (القرافي، أحمد بن إدريس الصنهاجي، -684هـ= 1285م)(7): «السِّحر: اسم جِنسٍ لثلاثة أنواع: النوع الأوَّل: السِّيمياء، وهو عبارة عمَّا يركَّب من خواصَّ أرضيَّة...».  وهو ما لا علاقة لموضوعنا به!

ـ ما هذا الاستطراد؟ لنعُد إلى (ابن فارس)!

ـ (ابن فارس) سبب هذه الإشكالات. لأنه جاءك عارضًا رمحه، وهو يقول: «فإن أراد القائل أنها سِمات عَلَى الوجه الأوَّل فصحيح، وإن كَانَ أراد الوجه الثاني، فحدَّثني أبو محمد سَلْم بن الحسن البغدادي قال: سمعتُ أبا إسحاق إبراهيم بن السَّري الزَّجَّاج يقول: معنى قولنا »اسم» مشتقٌّ من »السُّمُوِّ«، والسُّمُوُّ الرِّفعة. فالأصل فِيهِ »سِمْوٌ« عَلَى وزن حِمْل، وجمعه »أسماء«، مثل قولك: قِنو وأقناء. وإنَّما جُعِل الاسم تنويهًا ودلالة على المعنى؛ لأنَّ المعنى تَحْتَ الاسم. ومن قال: إنَّ اسمًا مأخوذ من »وَسَمْتُ« فهو غلط؛ لأنَّه لَوْ كَانَ كذا، لكان تصغيره »وُسَيْمٌ«، كما أنَّ تصغير عِدَّة وصِلَة: وُعَيْدَة ووُصَيْلَة.»(8)

ـ ما يهمُّنا من هذا أنَّ أصل معنى (الاسم): «وَسْم»، أي: علامة. وقد ذكر (ابن فارس) أعلاه: أنَّه إنْ أراد القائل أنَّ الأسماء (سِمات)- عَلَى الوجه الأول، وهو أن يكون الاسم سِمَة كالعلامة والسِّيماء- فصحيح.

ـ نعم. أمَّا خلاف البصريِّين والكوفيِّين في الاشتقاق وغيره، فما أفسد اللُّغة والنحو أكثر منه. ذلك أنَّ الكوفيِّين قد ذهبوا إلى أنَّ الاسم مشتقٌّ من الوَسْم، وهو العلامة، وهو ما نراه ونفهمه ونذهب إليه، وأمَّا البصريُّون، فأبعدوا الشُّقَّة، محلِّقين في السماء، زاعمين أنَّه مشتقٌّ من السُّمُوِّ والعُلُوِّ! وجاؤوا بمَذْقٍ من الحُجج، هل رأيت الذئب قط؟!(9)

ـ لم أره، لكنِّي أتخيَّله! وهذا مبحثٌ آخر يطول. وما كان يعنينا هنا هو معنى (الاسم)، وأنه (وَسْم)، شاء من شاء وأبى من أبى! وأمَّا اشتقاق اللفظ، فليتشقَّق البصريُّون والكوفيُّون في خلافاتهم التي لا تنتهي كيف شاءا!

ـ والاسم الوَسْم ذو دلالة خاصَّة، وسِجلٍّ تاريخي، وإنْ أتَى على الناس حين من الدَّهر لم يعُد فيه للاسم معنى معلوم.

ـ ماذا تقصد؟

ـ خذ، على سبيل المثال، من أسماء النِّساء اسمًا كاسم (العَنُود). هذا الاسم الجميل، الذي لا نعرف تاريخ استعماله، ولا عهد لنا به في أسماء النِّساء في التراث العَرَبي. وهذا عجيب، مع ارتباطه الصميم بمعانٍ متعدِّدة وبديعة من اللِّسان العَرَبي والبيئة العَرَبيَّة. على حين يُعَدُّ اليوم من الأسماء النجديَّة القليلة الاستعمال نِسبيًّا، قياسًا إلى أسماء أخرى، بعضها هجين أو حتى غير عَرَبي. وأغلب الناس يفهمون هذا الاسم على أنه مشتقٌّ من العِناد. وقد يكون له من ذلك نصيب. غير أنَّ سِجِلَّه يُنبئنا، مثلًا: أنَّ العَرَب تقول: عَنَدَت النَّاقةُ: أي رَعَتْ وَحْدَها، وأَنِفَتْ أن تَرْعَى مع غيرها، تَطْلُبُ خِيَارَ المَرْتَع، وبعضُ الإبل يَرْتَعُ ما وجدَ. وفي حديثٍ منسوبٍ لـ(عُمَر بن الخطَّاب) يَصِف سياسته: «إنِّي أَنْهَرُ اللَّفُوتَ، وأَضُمُّ العَنُودَ.» قيل في شرحه: العَنُود من الإبل: الذي لا يُخالِطُ سِواه ولا يزال مِنْفَرِدًا. فأراد: مَن خرجَ عن الجماعة أَعَدْتُه. وقيل: العَنُودُ: المُتَقَدِّمةُ من الإبل فِي السَّيْر لنشاطها وقُوَّتها. ومن المجاز أيضًا: (سحابةٌ عَنُود) ، أي: كثيرة المَطَر، لا تكاد تُقْلِع، جَمْعُها: عُنُد. وقِدْحٌ عَنُودٌ: يَخْرُجُ وحدَه فائِزًا على غير جِهة سائر القِداح. وعَقَبَة عَنُود: صَعْبَةُ المُرْتَقَى.(10) وكلُّها معانٍ دالَّة على ما يُحِبُّ العَرَبيُّ من صفات المرأة.

ـ فلو قلنا، إذن: إنَّ من اقترح (العَنود) اسمًا للمرأة كان عالمًا سيمائيًّا نحريرًا- فطرةً أو اكتسابًا- ما كنَّا مبالغين.

ـ صحيح. وهذا معنى: الاسم الوَسْم، وسجلِّه الدِّلالي- عَلِمَه من عَلِمَه وجَهِلَه من جَهِلَه- لا بمعنى السُّمُوِّ، كما تكلَّف المتكلِّفون.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1)  يُنظَر: (د.ت)، تحقيق: السيد أحمد صقر، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه)، 6- 00.

(2)  يُنظَر: م.ن، 10- 11.

(3)  يُنظَر: م.ن، 11- 13.

(4)  يُنظَر: م.ن، 13- 14.

(5)  وكأنَّ (ابن فارس) هذا كان ينحدر عن عقيدة (مانويَّة)، وإنْ أَسْلَمَها، كانت ترى أنَّ الإنسان هو ابنٌ حنونٌ للخالق، من منطلَق الثالوث المانوي المقدَّس: الأب، وأُمُّ الحياة، وابنهما، أي الإنسان. ومن ثمَّ فلا حاجة للإنسان إلى أن يتعلَّم أو يتطوَّر، فكلُّ ما لديه توقيفيٌّ لَدُنِّيٌّ، منذ بدء الخلق. ولكَم تسرَّبت إلى تراثنا العبَّاسي من هذه الأفكار الدِّينيَّة الفارسيَّة، وأُلبِست لنا عباءات إسلاميَّة! غير أنَّ العقل- غير المعلَّب- يظلُّ يكشفها، نابيًا عن هرطقاتها، مهما لُبِّست بتأويلات وتأوَّلات، تستثمر النصوص لتحميلها ما لا تحتمل من القراءات. ومن جهة أخرى، فإن فِكرة (التوقيفيَّة) كانت تنطلق أيضًا ممَّا وردَ في (الكتاب المقدَّس- العهد القديم، سِفر التكوين، الإصحاح الثَّاني، 19): «وكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا...»، من الإسرائيليَّات التي انتقلتْ إلى الإسلام، وبها فُسِّرت آية تعليم آدم الأسماء كلَّها في «القُرآن». مع أن عبارة «سِفر التكوين» تنسب تسمية الأشياء إلى (آدم)، لا إلى (الله).

(6) ابن فارس، الصاحبي، 99. 

(7)  (2007)، كتاب الفُروق: أنوار البُروق في أنواء الفُروق، تحقيق: مركز الدِّراسات الفقهيَّة والاقتصاديَّة: محمَّد أحمد سرَّاج وعلي جمعة محمَّد، (القاهرة: دار السلام) ، 4: 1288.

(8)  ابن فارس، الصاحبي، 99- 100.

(9)  يُنظَر: ابن الأنباري، (2002)، الإنصاف في مسائل الخلاف بين البَصْريِّين والكُوفيِّين، تحقيق: جودة مبروك محمَّد مبروك؛ مراجعة: رمضان عبدالتواب، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 4- 12.

(10)  يُنظَر مثلًا: الأزهري، تهذيب اللُّغة؛ ابن منظور، لسان العَرَب؛ الزبيدي، تاج العروس، (عند). 

في المثقف اليوم