قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية لنص الشاعر معين شلبية بعنوان: في المقهى
تُعد قصيدة «في المقهى» للشاعر الفلسطيني معين شلبية نموذجًا بارزًا للشعر الحديث الذي يجمع بين التجربة الحسية المكثفة والانفعال النفسي العميق، ويستحضر البعد الرمزي والوجداني للمكان والزمان. في هذه القصيدة، يتحول المقهى إلى فضاء شعوري مركب، يجمع بين الواقع والخيال، بين الذات والآخر، ويصبح مسرحاً للتجربة العاطفية والروحية. ينفتح النص على أبعاد متعددة؛ فهو لا يكتفي بوصف الحضور الجسدي للمرأة، بل يضفي على التفاصيل اليومية مثل الضوء، الصوت، والحركة، دلالات رمزية تعكس الانكسار والحنين، والشغف والانتظار، لتتحول كل لحظة إلى حدث شعوري مكتمل.
إن هذا النص، من منظور هيرمينوطيقي وسيميائي، يعكس شبكة علاقات معقدة بين الذات والآخر والزمن والمكان، ويطرح سؤالًا جوهريًا عن تجربة الحب والوجود في فضاء الغربة والحنين، مما يجعله نصاً خصباً للتحليل الأسلوبي، الرمزي، والجمالي، ويتيح قراءة متعددة المستويات: النفسية، العاطفية، الوطنية، والدينية.
أولًا: السياق العام للنص:
قصيدة «في المقهى» تأخذ القارئ إلى فضاء داخلي وحسي مكثف، حيث يجتمع الواقع بالمخيال، والعاطفة بالوعي الوطني والوجداني. المقهى هنا ليس مجرد مكان جغرافي بل يصبح رمزًا للذاكرة الإنسانية، للحنين، وللمرصد الذي يراقب الوقت والغياب والحضور، ويستحضر تجربة العاشق المتلهف. النص يفتح أفقاً شعورياً معقداً يعكس حالة الاغتراب النفسي والاجتماعي، ويجعل من المكان مسرحاً للروح والجسد والخيال.
ثانيًا: المنهج الهيرمينوطيقي والتأويلي
عند قراءة النص من منظور هيرمينوطيقي:
١- المعنى الكامن: المقهى يتحول إلى مرآة للذات، ومساحة زمنية متوازية حيث يستعيد الشاعر ذاكرتَه العاطفية والوجدانية.
٢- الدلالة الرمزية: الرصيف، الكرسي، الزجاج، الضوء والظل، كلهم رموز للانتظار والاغتراب واللقاء المرتقب، ويشتركون في بناء فضاء شعوري داخلي يعكس انفعال الشاعر.
٣- البعد التأويلي: المكان يتحوّل إلى «أرخبيل شعوري» حيث تتقاطع الذكريات بالرغبات، وينصهر الواقع بالمخيلة، فيصبح الانتظار فعلًا شعريًا يمس الذات والآخر.
ثالثًا: التحليل الأسلوبي
التكرار والتراكم الشعوري: استخدام التكرار في «وحدي، وحدي…»، و«قطرة، قطرة» يخلق إيقاعاً متسلسلًا يحاكي تدفق الزمن البطيء للانتظار.
١- التصوير الحسي: وصف الأصوات («وقع كعبها العالي»، «رذاذ صوتٍ عمّدته الآلهة») والروائح («نشر عطري») يجعل النص تجربة حسية متكاملة.
٢- لغة النص: مزيج من الوصف الواقعي والمجاز البلاغي، حيث يتحول الكائن والأشياء إلى شخصيات فاعلة، مثل «الكرسي يعرف شكل خيباتي»، و«الزمن يقطر من ثريته».
رابعًا: المستوى الرمزي
١- المرأة: ليست شخصية واقعية فحسب، بل رمز للحنين، والجمال، والانتماء العاطفي، وحيّز التجربة الروحية.
٢- الوقت: يُجسَّد بطرق مجازية متعددة، «الوقت يقطر»، و«قطرة… قطرة»، ليصبح موضوعًا شعوريًا ونفسيًا، يعكس الانفعال الداخلي للمتحدث.
٣- المقهى: رمز للاحتكاك بالآخر، وللشهود على التجربة الإنسانية، وللمكان الذي يحتفظ بالأسرار ويشهد على الانتظار والشغف.
خامسًا: السيميائية
العنصر الوظيفة في النص:
١- المرسل الشاعر المتأمل، العاشق المترقب
٢- المرسل إليه المرأة الحاضرة/الغيبة، موضوع الانتظار والحب
المفعول الإحساس بالحنين والوحشة والشغف
الفاعل المرأة في حضورها أو غيابها، أو الزمن ذاته الذي يتحرك
المستقبل النص نفسه والقرّاء، الذين يستشعرون التجربة
٣- الأدوات/الوسائل المكان، الضوء، الصوت، الرائحة، الكرسي، الفنجان، الزجاج
٤- الشفرة لغة الشعر، المجاز، الصور الحسية.
باستخدام هذا التحليل، يظهر النص كشبكة تفاعلات متشابكة بين الذات، الآخر، المكان، والزمن، حيث كل عنصر يؤثر ويُتأثر.
سادسًا: البنى النفسية والدينية
١- البنية النفسية: الانفعال العاطفي، الشعور بالغربة والانتظار، الانكسار الداخلي والفرح المتزامن، هي عناصر تُبرز الشاعر كذات واعية تتفاعل مع شعورها بالحب والحنين.
٢- البعد الديني: إشارات رمزية مثل «عمّدته الآلهة» تضفي بعدًا روحانياً على الحدث الشعوري، مما يحوّل التجربة الإنسانية إلى فعل تكاملي بين الأرض والسماء، الجسد والروح.
سابعًا: الأنساق المعرفية
النص يجمع بين المعرفة التجريبية (الوصف الحسي للمقهى، الألوان، الأصوات)، والمعرفة الرمزية (المرأة، الضوء، الزمن)، والمعرفة الشعورية (الحنين، الشغف، الوحدة)، ليخلق تجربة متعددة الطبقات للمتلقي.
ثامناً: مقارنة بالمستويات المختلفة (مع قصيدة "في المقهى" لنفس الشاعر).
المستوى تحليل النص الحالي تحليل نص "في المقهى"
الانفعالي انفعال عاطفي مركب، حنين وارتجاف داخلي مشاعر متدرجة: الانتظار، الدهشة، الإعجاب، الشغف
التخييلي/الخيالي تحويل الواقع إلى فضاء شعوري داخلي (الكرسي يعرف خيباتي) الخيال متسع: المرأة تتحرك كجوقة، المكان يصبح حيًا
العضوي/الحسي إحساس بالألوان، الصوت، الرائحة، الحرارة تصوير ملموس للحواس، حركة الجسم، الصوتيات
اللغوي تراكيب معقدة، جمل طويلة، صور حسية ومجازية أسلوب سلس، صور حسية، إيقاع متدرج، تشبيهات مبتكرة
النتيجة: النصان يتشابهان في العمق الشعوري والرمزي، ولكن النص الحالي أكثر تكثيفًا للانفعال الداخلي، بينما «في المقهى» أكثر تفصيلاً في التخييل المكاني والزمني.
في هذه القصيدة يقف الشاعر عند تخوم الشعر الخالص، حيث تتداخل البلاغة بالصورة، ويغدو المقهى فضاءً وجوديًّا لا مجرد مكان. مفرداتها وتحولاتها الدلالية تكشف عن حساسية شعرية عالية، تعتمد على الإيقاع الداخلي، وعلى استدعاء الضوء والظلّ والوقت والأشياء الصغيرة لبناء مشهد لا يُرى بالعين بقدر ما يُستشعر بالنبض.
رأيي النقدي في المفردات ومحورها التحليلي داخل النص:
1. لغة مشبعة بالحسّية والسينمائية:
المفردات في هذه القصيدة ليست أدوات وصف، بل عدسات تصوير. كلمات مثل المساء الأرجواني، مقاعد محشوة بالغيم، الوقت ينقط من ثريّته، الضوء يَشهق، كعبها العالي يهلّ—كلها تحوّل المشهد إلى فيلم بصري-عاطفي، حيث اللون والظل والصوت عناصر تُبنى عليها الحكاية.
هذه اللغة تكشف عن شاعر يكتب بحواس خمس مستنفرة.
2. هيمنة "الانتظار" كحالة وجودية:
معظم المفردات تدور حول الانتظار، الباب، الوقت، القهوة الباردة، الطاولة التي تُمسَح مرارًا، الثريا التي تقطر—وكلها تنتمي إلى حقل دلالي واحد: اللايقين، الترقب، القلق الهادئ.
وهذا يضعنا أمام رجل يعيش "المقهى" كقيمة رمزية للتيه، لا كمكان صالح للصدفة العابرة.
3. المرأة كمركز طقسي لا كشخص:
المفردات التي تُحضر المرأة:
وقع كعبها، إشراق على الأرضية، الجسم سرب من الأبيض الماسي، جوقة في واحدة، الضوء ينهار، نافذتان خضراوان
تُظهر أن الشاعر لا يرى امرأة بل «ظهورًا»، تجلّيًا، كأنها معبود لحظي أو كائن نوراني.
هذا يُدرج القصيدة ضمن شعر التجربة الوجودية الغرامية، حيث الحضور الأنثوي يهزّ الكيان لا العاطفة فقط.
4. إيقاع منضبط تنتجه المفردات المتكررة:
تكرار كلمات مثل:
خطت… خطت… خطت
قطرة… قطرة
وحدي… وحدي
يصنع إيقاعًا يشبه نبضًا متسارعًا، يوازي اهتزاز الداخل أمام حدث يتجاوز قدرة اللغة على الإمساك به.
5. استعارات تجسّد الداخل لا الخارج:
في قوله:
كما يرقب حارس ليلي طلقة لم تولد بعد
الوقت ينقط من ثريته
تعرقت نوافذ المقهى
تتحول المفردات إلى ثقل نفسي: ضيق الانتظار، ارتجاف الروح، اختناق اللحظة.
هنا تتكفّل الاستعارة بالكشف عن بنية الانفعال، لا عن شكل الأشياء.
6. موقع القصيدة تحليليًا داخل النص:
القصيدة يمكن تصنيفها ضمن شعر المشهد الداخلي ، لأنها لا تقدم قصة بقدر ما تكشف حالة وجودية:
١- رجل يجلس في مقهى يتأهب للقاء
٢- الوقت يتشظى
٣- الأشياء تُصاب بالشيخوخة
٤- المرأة تأتي كحدث كوني
وينتهي كل شيء في دائرة الوحدة التي تبدأ حيث تنتهي.
وهو ما يجعل النص أقرب إلى مونودراما شعرية: شخصية واحدة تختبر عالماً كاملاً عبر الحواس.
المفردات هنا ليست مفردات حب، بل مفردات رجفة. القصيدة تبني عالمًا رقيقًا ومعقدًا من التفاصيل، يضع القارئ في قلب اللحظة، حيث كل شيء في المقهى يتنفس، يشيخ، يهتز، ويُضاء، بينما يظل الشاعر وحيدًا في النهاية، كمن خرج من طقس مقدس لا يتكرر.
تاسعًا: الاستنتاج:
قصيدة «في المقهى» تمثل نموذجًا للتجربة الشعرية الفلسطينية التي تمزج بين الانفعال الشخصي والبعد الجمالي والوطني، وتستحضر الأنساق النفسية والدينية. باستخدام التحليل الهيرمينوطيقي، السيميائي، والأسلوبي، يمكننا قراءة النص كنسيج متكامل من الانفعالات، الرموز، والإشارات التي تعكس تجربة الإنسان في الحب والغربة والانتظار. النص يحقق توازنًا بين التخييل الشعوري والتجربة الحسية، ويترك للقارئ مساحة للتفاعل الفردي مع الصور، الإيقاعات، والرموز، مما يتيح قراءة متعددة الطبقات لكل مستوى من مستويات النص.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
..........................
في المقهى – معين شلبيّة
في ذاكَ المساءِ الأُرْجُوَانيِّ
توهَّجتِ الأَرواحُ بِلَوْنٍ لا يَراهُ إِلَّا العاشقونَ
وَهَدْهَدَتْ أَثَرًا للحالمينَ على مقاعِدَ
مَحْشُوَّةٍ بالغيمِ والغُرباءِ.
هناكَ في المقهَى الرُّومانسيِّ القديمِ
جلستُ حيثُ الطَّاولاتُ تشيخُ قبلَ الزَّائِرينَ
والكراسِي تَحْجِبُ الأَنوارَ عنِّي
وتعرفُ شكلَ خيباتِي وظَنِّي
وطعمَ نبيذِي
وأَوجاعِي
ونَشْرَ عِطْرِي
وجنونِي؛
جلستُ أَراقبُ البابَ
كما يرقُبُ حارسٌ ليليٌّ
طلقةً لمْ تُولَدْ بَعْد.
*
الوقتُ كانَ يُنَقِّطُ من ثُرَيَّتِهِ المُعَلَّقةِ
في السَّقفِ ما قبلَ الأَخيرِ
قطرةً… قطرةً
وكلُّ قطرةٍ
تُحدِثُ في شِبَاكِ صَدرِي هزَّةً
تترُكُني وحيدًا على مَقعدِ الصَّمتِ
كأَنَّ المكانَ يعِجُّ
في احتفالٍ لا يَحْضُرُه أَحَد.
*
فِنجانُ قهوتِي باردٌ
وسيجارتي تَعِبَتْ
والنَّادِلةُ
تَمْسَحُ نَفْسَ الطَّاولةِ خمسةَ عَشْرَ مرَّةً
لأَنِّي كنتُ أَنظُرُ إِليها خمسةَ عَشَرَ دهرًا.
*
طَقْ… طَقْ… طَقْ…
وكلُّ شيءٍ غامضٌ ومثيرٌ
وقعُ كعبِ حذائِهَا العَالي يَهُلُّ
ونبضٌ هائِجٌ يَعلو ويهبِطُ
كما يَدْخُلُ كُونشيرتو المساءَ
رذاذَ صوتٍ عَمَّدَتْهُ الآلهَة.
*
لم أَرَهَا أَوَّلَ أَوَّلَا
سمعتُ إِشراقًا على أَرضيَّةِ المقهَى
فارتجفتُ
كما يَرتجفُ وترٌ في الكَمانِ.
كانتْ واقفةً
والضَّوءُ ينأَى ويدنُو
يَقيسُ المسافةَ ما بينَ ظلِّهَا والرُّخام
والجسمُ سربٌ من الأَبيضِ الماسِيِّ تهيَّأَ
كما تتهيَّأُ الأَيامُ والأَحلام.
*
خَطَتْ خُطْوَةً
فمالتِ الأَرضُ قليلاً
خَطَتْ ثانيةً فارتبكَ الهواءُ
خَطَتْ ثالثةً فأَدركتُ أَنِّي لا أَنتظرُ امرأَةً
بل أَستقبلُ
جوقةً في واحِدَة
تَبحثُ عنِّي
تَتبعُني
على قلقٍ تَجَرِّحُنِي
بنعومةٍ قاتِلَة.
*
وَصَلَتْ
فانهارَ الوقتُ مُعْتَصَرًا
في رُكامِ العالمِ الطَّقسِيِّ
وراحتْ في الطَّريقِ البَيْضَوِيِّ.
*
جَلَسَتْ والنُّورُ يَشهقُ بينَ نافذتينِ خَضراوينِ
فأَغمضَ المقهَى مصابيحَ الضَّبابِ
لسيِّدةِ الرُّخامِ الأُنثويِّ
ثمَّ أُسْدِلَتِ السِّتارةُ
تُظَلِّلُ ما بينَ وجهِي ونجمةٍ تَقْبَعُ في الظَّلامِ
لمْ أَقُلْ شيئًا ليؤْنسَ حَيرتي
وبينما همَّتْ تُرَتِّبُ شَعْرَها الخَمريَّ على كتفِ الرَّحيلِ
كنتُ أُرَتِّبُ ما تبقَّى من زمانِي.
*
هَمَسْتُ لها:
تأَخَّرتِ كثيرًا على مدخلِ اللَّيلِ
فانتظرِي قليلًا قليلَا
لا أُريدُ منَ الوقتِ غيرَ النِّهايةِ
وأَنتِ على عجلٍ قُبَيْلَ السَّفَر
فاحمرَّتْ كوردةٍ في غيرِ موعدِهَا وقالتْ:
كلُّ شيءٍ فاضحٌ في الانتظارِ
أَنا امرأَةٌ لا أَتأَخَّرُ أَبَدًا
أُدلِّلُ نَفْسِي بينَ واقِعي وخيالِي
فالوقتُ يركضُ أَبطأَ
حين أَمشي بكعبيَ العالِي.
*
لمْ يبقَ وشمٌ من دموعِ الوقتِ
في هذا المَدَى الخشبيِّ المُوَشَّى
بخيطِ السَّدَى
فبقيتُ وَحدي في الغيابِ
بكلِّ ما أُتيتُ من رَجْعِ الصَّدَى
أَشقُّ طريقًا في السَّرابِ
كأَنَّ نوافذَ المقهَى القديمِ
تعرَّقتْ من جَرَّةِ الأَشواقِ
فمضيتُ وَحدي في الطَّريقِ الدَّائِريِّ
آهِ يا وَحدي وَوَحدي.






