قضايا
غالب المسعودي: داياكراما سرديات الاستعمار

الاستعمار ظاهرة تاريخية معقدة تجمع بين الأبعاد السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية. لفهم أعمق لهذه الظاهرة، يمكن النظر إليها عبر محورين رئيسيين السرديات التاريخية للشعوب المستعَمرة والسرديات الاستعمارية (الطريقة التي يتم بها تأطير وتفسير الاستعمار عبر الزمن). هذه السرديات غالبًا ما تتلون بطبيعة القوى المسيطرة، وتختلف بين المستعمِرين والمستعمَرين. قدمت القوى الاستعمارية سرديات تبريرية تدعي أن هدفها الرئيسي هو "تمدين" الشعوب المستعمَرة، ونشر التعليم والدين، وتطوير البنية التحتية، كانت هذه السردية أداة لتبرير السيطرة والقمع على جانب آخر مع اختلاف السياق طورت الشعوب المستعمَرة سرديات مضادة تركز على النضال من أجل الحرية والاستقلال، وتدحض الحجج الاستعمارية التي صورتها كشعوب "بدائية" أو عاجزة ،وذلك بالاعتماد على سرديات تاريخية وهمية ومضللة ،وهذا يعود إلى عدة عوامل، تسعى العديد من الشعوب إلى استعادة هويتها الثقافية والتاريخية مما يؤدي إلى تأليف سرديات جديدة تعزز الشعور بالانتماء والفخر، بعض الشعوب تسعى لتأكيد استقلالها من خلال سرد تاريخ مختلف يتجاوز الروايات المتداولة و مختلقة لتأكيد قوة الإرادة ، مما يجعلها تروج لأحداث تاريخية أو شخصيات بطولية غير دقيقة ،كما يمكن أن تُستخدم سرديات تاريخية كأداة لتوحيد مجموعات اثنية ضد "الآخر"، مما يؤدي إلى خلق روايات تفتقر إلى مصادر تاريخية موثوقة (كثير من السرديات التاريخية التي تناولت الشعوب المستعمَرة تم إنتاجها من قبل مستشرقين “الآخر")، مما يعني أنها تعكس وجهات نظر وأيديولوجيات استعمارية تكون غير دقيقة لكنها تعكس رغبة الشعوب في تشكيل مستقبلها بناءً على رؤية جديدة للتاريخ، حتى وإن كانت تلك الرؤية تحتوي على عناصر من الخيال.
دوافع الاستعمار
كان الاستعمار ولا يزال مدفوعًا في المقام الأول بالطمع في الموارد الطبيعية والأسواق الجديدة حيث الدول الاستعمارية استغلت الأراضي التي سيطرت عليها للحصول على الذهب، الفضة، القطن، النفط، وغيرها من الموارد، القوى الاستعمارية استخدمت تفوقها العسكري والتقني لبسط سيطرتها على الشعوب الأخرى. هذا التفوق كان مدعومًا بتقنيات مثل السفن الحربية والأسلحة المتقدمة كما ارتكز أيضًا على نشر الدين والثقافة الغربية. هذه العملية لم تكن عشوائية، بل كانت موجهة لتغيير الهوية الثقافية للشعوب المستعمَرة. خلال فترات الاستعمار، ظهرت أفكار عنصرية تصنف الشعوب المستعمَرة على أنها أدنى مرتبة "جينيًا" أو "بيولوجيًا"، مما ساعد على تبرير سياسات القمع والاستعباد. سرديات الاستعمار لم تكن حيادية، بل كانت انعكاسًا للأسس الهيكلية التي بني عليها الاستعمار. هذا الفهم يساعد في تفكيك الآليات التي لا تزال تؤثر على العلاقات الدولية اليوم، حيث يمكن أن نجد أشكالًا حديثة للاستعمار في التبعية الاقتصادية والثقافية ويمكن ربط الاستعمار بالصراعات الدولية المعاصرة بشكل مباشر وغير مباشر، حيث إن العديد من القضايا الجيوسياسية والاقتصادية الحالية تنبع جذورها من الحقبة الاستعمارية.
الصراعات الدولية المعاصرة
الصراعات الدولية المعاصرة ليست معزولة عن التاريخ الاستعماري، بل هي امتداد له في أشكال مختلفة. فهم هذا الرابط يمكن أن يكون مفتاحًا لحل الأزمات الحالية وبناء نظام عالمي أكثر عدالة وتوازنًا يرجع ذلك إلى أن الاستعمار ترك بصمات عميقة على بنية الدول والمجتمعات المستعَمرة، وأسهم في تشكيل الأنماط الجيوسياسية والاقتصادية التي لا تزال قائمة حتى الآن. دراسة الاستعمار ليست مجرد استرجاع للتاريخ، بل هي أداة لفهم الحاضر وتفسير ديناميكيات الصراعات التاريخية. من خلال تحليل الاستعمار وإرثه، يمكننا تحديد جذور الأزمات الحالية. السرديات التاريخية المؤسسة للإيديولوجيات لعبت دورًا محوريًا في تبرير الاستعمار التقليدي، لكنها استمرت أيضًا كأداة فعّالة في دعم الاستعمار الحديث (النيو كولونيالية). هذه السرديات تُعيد إنتاج أنماط الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية بطرق غير مباشرة، مما يساهم في امتداد الاستعمار الحديث. لفهم هذا الأثر، يمكن تحليل العلاقة بين السرديات التاريخية والإيديولوجيات ودورها في تطبيع مظاهر السيطرة الحديثة، قدمت القوى الاستعمارية سردية "رسالة الحضارة"، والتي ادعت أن دورها هو "تمدين" الشعوب "البدائية" ونشر القيم الغربية، مثل الديمقراطية والتعليم هذه السردية تُعاد إنتاجها اليوم لتبرير التدخلات الاقتصادية والسياسية. السرديات التاريخية المؤسسة للإيديولوجيات الاستعمارية لا تزال تلعب دورًا حاسمًا في دعم الاستعمار الحديث. من خلال إعادة إنتاج أفكار مثل "التنمية"، "الديمقراطية"، و"التجارة الحرة “، التي تُبرر بها القوى الكبرى سيطرتها على الاقتصاد، السياسة، والثقافة في الدول النامية. لفهم مظاهر الاستعمار الحديث والتصدي لها، من الضروري تفكيك هذه السرديات وكشف علاقتها بالإيديولوجيات الاستعمارية القديمة. هذا التحليل يُسهم في تعزيز العدالة العالمية وبناء نظام أكثر توازنًا واستقلالية.
سرديات الصراع الحضاري
الصراع الحضاري يُستخدم كغطاء لتبرير الحروب الاقتصادية بين القوى الكبرى، مما يدعو الى ان يعزز النظام الرأسمالي العالمي سرديات الصراع الحضاري حيث يستخدم لتصوير الرأسمالية كنظام عالمي وحيد قابل للحياة، وأن أي بديل (مثل الاشتراكية) يؤدي إلى الفوضى أو التخلف ،السرديات تُستخدم لتبرير استغلال الموارد والعمالة في الدول النامية، بحجة أن الرأسمالية هي السبيل الوحيد لتحقيق التقدم والتنمية ،سردية الصراع الحضاري تساعد في خلق "عدو مشترك" (مثل الإرهاب) لتوحيد القوى الرأسمالية وتعزيز مبيعات الأسلحة، الاستثمارات العسكرية، والسيطرة الاقتصادية سرديات الصراع الحضاري ليست مجرد أدوات تحليلية لفهم المجتمعات أو الحضارات، بل تم توظيفها بشكل ممنهج لتعزيز المد الرأسمالي وترسيخ الهيمنة العالمية. من خلال هذه السرديات، تمكنت القوى الرأسمالية من تبرير توسعها، تعميق استغلالها للموارد، وتثبيت سيطرتها الثقافية والاقتصادية على الصعيد العالمي.
جذور الصراعات
لفهم جذور الصراعات الحالية، من الضروري تحليل هذه السرديات وكشف دورها في تطبيع أنماط الاستغلال والهيمنة في النظام الرأسمالي العالمي في شكله الحديث التي تعدّ مهمة معقدة لكنها ممكنة. حيث إن هذا النظام يعتمد على أسس فكرية وإيديولوجية راسخة، مثل العولمة، السوق الحرة، والتوسع الاستهلاكي. ولتفكيكه، يجب تحدي هذه الأسس وتحليلها من منظور نقدي، وصياغة بدائل فكرية تُعيد تعريف العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. النظام الاقتصادي الجديد يرتكز على سرديات مثل "التقدم"، "النمو الاقتصادي"، و"حرية السوق"، وهي سرديات تُستخدم لتبرير التفاوتات الاقتصادية واستغلال الموارد ، يمكن تفكيك وفضح هذه السرديات وإظهار أنها تخدم مصالح النخب الاقتصادية فقط، بينما تُفاقم الفقر والتفاوت الطبقي ونقد فكرة "النمو الاقتصادي غير المحدود"، التي تُصور على أنها الحل لكل المشكلات، بينما في الواقع تؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية وزيادة الفجوات الاجتماعية ،السوق الحرة تُعتبر حجر الزاوية في النظام الرأسمالي الحديث، لكنها في الواقع تمثل سوقًا تتحكم فيها الشركات متعددة الجنسيات، مما يخلق احتكارًا بدلًا من المنافسة الحقيقية .ان المطالبة بنماذج تنمية شاملة تأخذ في الاعتبار العدالة الاجتماعية والبيئية، التركيز على التنمية المحلية بدلًا من التنمية الموجهة نحو التصدير والأسواق العالمية كذلك التكنولوجيا الحديثة التي تُستخدم كأداة لتعزيز السيطرة الرأسمالية، من خلال التحكم في البيانات، الذكاء الاصطناعي، والابتكارات التكنولوجية ،بذلك يمكن تفكيك النظام الاقتصادي الجديد فكريًا من خلال نقد أسسه الإيديولوجية، فضح تناقضاته، ودعم البدائل الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. هذه العملية تتطلب جهدًا فكريًا جماعيًا يتضمن تحليلًا نقديًا للنظام الحالي، تعزيز الوعي الجماهيري، وتطوير نماذج اقتصادية أكثر عدالة واستدامة وتجاوز السرديات التاريخية الوهمية التي تروج للعنف وإعادة نمذجة السرديات التاريخية الاستعمارية وتحميلها معاني لا تحتملها من خلال المراجعة الموضوعية، رغم صعوبة المهمة فأن تفكيك النظام الاستعماري الحديث يبدأ بفهمه بعمق، وفضح أساليبه في تعزيز الهيمنة الاقتصادية والثقافية عالميًا.
***
غالب المسعودي – باحث عراقي
..........................
* داياكراما السرديات: تساعد في تحليل كيفية تشكيل السرديات الاستعمارية، بما في ذلك الصور النمطية والروايات التي تم توظيفها لتبرير الاستعمار استخدامها في هذا السياق يمكن أن يكون أداة قوية لنقد السرديات الاستعمارية وفهم آثارها على الثقافات والتاريخ.