اخترنا لكم
السيد ولد أباه: النسوية والأسرة في السياسي الراهن

دفيد غودهارت فيلسوف بريطاني بارز، غدا له صيتٌ إعلامي واسع، وقد أصدر في الآونة الأخيرة كتاباً هاماً بعنوان «معضلة الرعاية»، يتناول فيه أثر السياسات الاجتماعية القائمة على المساواة بين الجنسين على وضعية الأسرة ومستقبل الخصوبة والإنجاب في المجتمعات الغربية الراهنة. لا ينفي غودهارت المكاسبَ الكبرى لسياسة المساواة الجندرية، من قبيل استقلالية المرأة القانونية والتربوية الاقتصادية، ونفاذها لسوق العمل، بما لهذه النتائج من آثار إيجابية على المجتمع بكامله، لكنه ينبه إلى بعض الآثار السلبية للراديكالية النسوية التي يميزها عن المطالب الحقوقية للمرأة.
ومن بين هذه الآثار النظرة السلبية للمحيط الأسري المستقر، وتثبيت نظرية الدخل الأسري المزدوج أفقاً أوحدَ للاقتصاد المنزلي، وتكريس النزعة الفردية المتطرفة المفضية إلى تدمير النسيج الاجتماعي وتفكيك البنيات التضامنية الطبيعية وتراجع نسب الإنجاب في البلدان الصناعية المتقدمة إلى حد النمو السالب في جل هذه الدول بما يعرض مستقبلَها للخطر الحقيقي. ما يميز غودهارت هو كونه لا يصدر في أفكاره عن توجه محافظ دينياً أو فلسفياً، بل يدافع عن قيم الحرية والتنوير والاستحقاق، لكنه يرى أن سياسات الرعاية الاجتماعية التي هي محور النظم العمومية في البلدان الغربية المتطورة أدت إلى اختلالات عميقة في بنية الأسرة والعلاقات بين الأفراد.
وفي هذا السياق، يكشف عن التصادم القائم حالياً بين مَن يسميهم «دعاة المساواة في العناية» الذين يرون أن مواقع الرجال والنساء قابلة للتبادل دون إشكال، فلا فرق نوعياً بين الجنسين، و«دعاة التوازن في العناية» الذين يؤمنون بفكرة المساواة لكنهم قلقون من تدهور وعدم استقرار الحياة الأسرية.
ولا بد من التنبيه هنا إلى أن أطروحة غودهارت تندرج في نطاق المراجعات الفلسفية الراهنة لمسار الحداثة والتنوير، والتي تقوم على مراجعة عميقة لمثال التقدم التاريخي من حيث كونه ليس مرجعيةً معياريةً كافيةً لتقويم المجتمعات وضبطها. هذه المراجعات ليست في ذاتها جديدة، بل يمكن إرجاعها إلى عصور الأنوار نفسها (لدى جان جاك روسو خصوصاً)، كما أنها برزت بقوة في النصف الأول من القرن العشرين في إطار مواجهة التيارات التسلطية النازية والستالينية (الظاهرة التوتاليتارية بلغة حنة ارندت).
لكن ما يميز النقديات الحديثة هو العودة إلى النقاش الجوهري حول الهوية الطبيعية للإنسان والتصورات البنائية للجسم الاجتماعي التي هي الخلفية العميقة لسياسات الاستقلالية والتحرر لدى العقل الليبرالي الحديث. ما فرض هذا النقاش الراهن هو الآثار المحورية للثورة التقنية الحيوية الكبرى التي عرفتها الإنسانية راهناً، في اتجاهين متلازمين هما من جهة انمحاء الحدود الراسخة بين الطبيعة والثقافة أو بين الآلة والإنسان، ومن جهة أخرى انهيار الحواجز بين المحلية الخصوصية والكونية المعولمة.
لقد كان من تأثير هذه التحولات إعادة طرح المسألة الجندرية، لا في أفق المساواة الحقوقية الذي هو مكسب ثابت من مكاسب الحداثة، ولكن من منظور الأمن الاجتماعي والاستقرار المدني. فعندما وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لدى مستهلِّ ولايته الرئاسية الثانية القرارَ التنفيذيَّ الشهيرَ الذي يحمل عنوان «الدفاع عن المرأة من التطرف الأيديولوجي بين الجنسين وإعادة الحقيقة البيولوجية إلى الحكومة الفيدرالية»، لم يكن مذعناً للوبي الديني المحافظ الذي دعمه في الانتخابات، وإنما كان يَصدر عن الجدل المحتدم في بلاده بين موجة «اليقظة» التي قوضت كل التمييزات الطبيعية والموضوعية في الجسم الاجتماعي والحركة الحداثية التقليدية التي تعتبر أن مثل التغير والتحول لا بد أن يلتزما سقفاً معيارياً تحدده القيم الإنسانية الثابتة.
ومن هنا نستكشف الفرقَ بين الحركة النسوية الراديكالية التي اعتبرت أن التمييز بين الأجناس ليس سوى تركة ثقافية لا تقوم على محددات طبيعية، والنسوية الحقوقية التي تركز على قيم التكامل والتضامن داخل النظام الأسري. ما ترفضه النسوية الحقوقية في حركيتها الراهنة هو التضحية بمفهوم الأسرة من أجل المساواة الجندرية، بما ينعكس سلباً على وضعية المرأة ذاتها من حيث هي محور الخلية الأسرية التي هي مرتكز الاستقرار الاجتماعي.
لقد أصبح اليوم من العصي الجمع داخل المنظومة القانونية، للعديد من الدول الصناعية، بين حقوق المرأة وحقوق الطفل، بما يشكل ثغرةً خطيرة في البناء التشريعي والمعياري الراهن. الأمر هنا يتعلق بجدل لا يمكن أن يحسمه القانونيون والساسة، بل يتعين فيه الرجوع إلى القواعد القيمية العميقة للمجتمعات التي هي مستودع الذاكرة الإنسانية الطويلة.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
10 أغسطس 2025 23:45