اخترنا لكم
لطفية الدليمي: اشتباك الفلسفة مع السياسة والآيديولوجيا

خدمت أغراضاً مشخّصة في حقبة الحرب الباردة بخاصة
يمرُّ بي في قراءاتي اليومية المنتظمة حشدٌ من الأسماء في شتى الألوان المعرفية، ولو أردتُ الاستزادة في حقل من تلك الحقول المعرفية فلا بدّ من القراءة المعمّقة فيها. أوّلُ ما أفعله عند القراءة هو البحث في السيرة الخاصة بالكاتب. لو قرأتُ موضوعاً من غير معرفة مقبولة بكاتبه لما استساغت نفسي القراءة ولحسبتُها منقوصة وغير منتجة. المثيرُ أنني وجدتُ أنّ معظم من قرأت لهم -من علماء أو اقتصاديين أو سياسيين، إلخ- حازوا تدريباً فلسفياً -أو على الأقلّ ذائقة فلسفية رصينة- أعرف أنّها لن تكون مطواعة للمرء بغير كثير دراسة وقراءات متمرّسة. وكثيراً ما تساءلت: كيف للفلسفة التي يراها معظمنا حبّاً مجرّداً للحكمة أن تكون مطمحاً لكثيرين؟ ما سرُّها المكنون؟ كيف لهذا المنشط البشري المفترض فيه أن يتعالى عن الانشغالات العادية لمعظم البشر أن يكون جاذباً للدراسات الجامعية في عصر صارت الجامعات فيه تشكو قلّة تخصيصاتها المالية في حقل الإنسانيات عامةً وصارت منساقة لمتطلبات التقدم التقني الصارمة؟ بدا لي منذ زمن بعيد أن ثمّة قصوراً معرفياً مخفياً في فهمنا لكيفية تشغيل الماكينة الفلسفية في عصرنا. بعض أسباب هذا القصور قصديٌّ لا يُراد الكشف عنه لأنّه جزء من ألاعيب السياسة. نعم، الفلسفة ليست بنية فكرية معزولة عن السياسة والآيديولوجيا، وكثيراً ما خدمت أغراضاً مشخّصة في حقبة الحرب الباردة بخاصة.
لو استثنيْنا الجغرافيا الأميركية -بسبب خصوصية موضوعاتها ومقارباتها الفلسفية- من الخريطة الفلسفية العالمية فستكون الفلسفة متوزّعة بين اثنتيْن: الفلسفة القارية Continental Philosophy، والفلسفة التحليلية Analytic Philosophy. الفروقات بين الفلسفتيْن جليّة واضحة: الفلسفة القارية لها تقاليدها المطبوعة بمواريث الفلسفتين الألمانية والفرنسية، حيث يُسمعُ صدى الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) والميتافيزيقا والتمثلات الرمزية للمعرفة واضحاً؛ في حين أنّ الفلسفة التحليلية ادّعت -أو أراد لها آباؤها المؤسّسون- أن تكون الفلسفة الحقيقية، وكلّ ما سواها زيف ووهمٌ كبير. شاعت تقاليد الفلسفة التحليلية في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما زالت مواريثها فاعلة في المشهد الفلسفي العالمي حتى اليوم.
سعى الآباء المؤسسون للفلسفة التحليلية لتكون الفلسفةَ الطاغيةَ في جامعات العالم الأنغلوساكسوني كما في فضاء الثقافة العامة تحت مسمّيات شتى: الفلسفة الوضعية المنطقية - فلسفة التحليل اللغوي... إلى جانب تأكيد هؤلاء الآباء أنّ الفلسفة التحليلية هي الفلسفة الوحيدة التي تستحقُّ أن تكون فلسفة علمية (أو داعمة للعلم ومحفّزة للتفكير العلمي)؛ فقد ادّعوا أنّ تقاليد الفلسفة التحليلية متعالية على الواقع ومجاوزة له، وذات صبغة حيادية تجاه المتغيرات السياسية والاجتماعية؛ وبالتالي فهي خالدة وأبدية على العكس من الفلسفات الأخرى التي تنشأ من النزوعات الفردية أو التأمّلات الشخصانية أو الدوافع المصطبغة بلون آيديولوجي محدّد المعالم والتوجّهات. الفلسفة فوق السياسة والآيديولوجيا ومحايدة في التعامل معهما: هكذا ادّعت الفلسفة التحليلية على لسان مؤسسيها.
كريستوف شورينغا Christoph Schuringa، بروفسور الفلسفة في جامعة نورث إيسترن في لندن، والمختصّ بالفلسفة الألمانية والدراسات الهيغلية، لا يتّفق مع رؤية الآباء المؤسسين للفلسفة التحليلية، وسعى لتفنيد رؤيتهم في كتاب حديث له نشرته دار نشر Verso عام 2025 بعنوان تاريخ اجتماعي للفلسفة التحليلية: A Social History of Analytic Philosophy.
يعلن شورينغا في مقدّمة كتابه أنّ هدفه ينطوي على فحص الكيفية التي تطوّرت بها الفلسفة التحليلية لا من الزاوية الفكرية فحسب بل من سياقاتها الاجتماعية والسياسية. بكلمات أكثر تأكيداً ووضوحاً: سعى شورينغا لبيان كيف أنّ الفلسفة -التي كثيراً ما تُقدّمُ على أنها محايدة أو «خارج التاريخ» أو «خارج السياسة» لا يمكن فهمها إلا في علاقاتها بالمؤسسات، وبالهجرة، وبالسلطة، وبالآيديولوجيا -أي في سياق الحراك الاجتماعي والفعالية السياسية، وليست تمثلاً لنزوعات فكرية خالصة.
***
كثيرةٌ هي الأفكار الجوهرية التي يسعى شورينغا لتأكيدها في كتابه هذا. منها أنّ الفلسفة التحليلية ليست غير سياسية Apolitical؛ إذ يؤكّد شورينغا أنّ الفلسفة التحليلية كانت دوماً متأثرة بالقوى الاجتماعية والسياسية حتى لو حاولت الفلسفة التحليلية أن تظهر بمظهر الاكتفاء الذاتي. مثلاً، بعد الحرب العالمية الثانية، ومع فترة صعود المكارثية في الولايات المتحدة، تراجعت الأشكال السياسية والحركات اليسارية داخل الفلسفة التحليلية بسبب الخوف من الملاحقة أو الانتقام السياسي. الفكرة التالية هي أنّ أصول الفلسفة التحليلية مختلطة ومتعددة المصادر، ونتاج حركات مختلفة، ومؤثّرات متعددة -أوربية بالتحديد- قبل أن تتوحّد في شكل تقريبي لتشكّل ما تُعرف اليوم بـ«الفلسفة التحليلية» كتيار مهيمن. هذه الحركة نحو التوحيد حصلت بعد الحرب العالمية الثانية.
الفكرة الثالثة التي يؤكّدها شورينغا هي دَوْرُ المؤسسات التعليمية والمؤسسات البحثية والدور الأكاديمي للجامعات في تعزيز وإشاعة سطوة الفلسفة التحليلية، حيث أصبح هذا التيار الفلسفي جزءاً من النخبة الأكاديمية في البلدان الناطقة بالإنجليزية (العالم الأنغلوساكسوني). هكذا صار التيار الفلسفي التحليلي لا يُطرح فقط على أنه موقف فكري بل بوصفه تشكيلاً مؤسساتياً راسخاً للقوة المعرفية. ثمّ يوردُ شورينغا فكرة أخرى هي خصيصة ملازمة للفلسفة التحليلية، وتكمن في قوة الاستمرارية والتجديد الفلسفي؛ ممّا جعل هذه الفلسفة قوية وقادرة على (إعادة اختراع نفسها). ليس بالضرورة أن يحصل هذا الأمر بإطلاق تيارات جديدة شامخة؛ بل بإعادة تأطير المشكلات، وبإدخال مناهج جديدة، أو بالانفتاح على التيارات الأخرى مع المحافظة على البنية المعرفية التأسيسية الأولى. بعد هذه الأفكار يشير شورينغا إلى فكرة أساسية مفادُها أنّ الفلسفة التحليلية خدمت كآيديولوجيا الوضع الراهن Status Quo Ideology؛ بمعنى أنّ التيار الفلسفي التحليلي يخدم -إلى حد كبير- النظام السياسي القائم من خلال طريقة تفكيره، وتركيب مؤسساته، وسلطته المعرفية؛ إذ إنه غالباً ما يميل إلى دعم الواقعيات السياسية والفكرية الليبرالية بوصفها (الافتراض الطبيعي المقبول والمفيد). هذا يعني بالضرورة استبعاد -أو على الأقلّ تهميش- التيارات السياسية النقدية أو الراديكالية كالماركسية مثلاً. تحصل المقاربة التهميشية عبر المبضع التحليلي من خلال إعادة دراسة هذه التيارات السياسية لتصبح أقلّ راديكاليةً لدى الجمهور العام. الفكرة الأخرى التي يؤكّدها شورينغا في كتابه (وقد تبدو غريبة بعض الشيء) تكمنُ في أنّ الفلسفة التحليلية، بفضل هيمنتها، تمارس دور استعمارٍ معرفي؛ أي عندما تدخلُ المناهج النقدية مثل: الغزو الاستعماري، والعدالة الاجتماعية، ونظرية العرق، والتأريخ الاستعماري، فإنها تتعرض لتأطير أو إعادة تكييف بحيث لا تهدّد الأسس الفكرية للنظام السياسي القائم.
***
بعد مقدمة مكتنزة بالمعرفة وممهّدة للكتاب، يقدّم شورينغا في الفصل الأوّل مسحاً تاريخياً لبدايات وأصول الفلسفة التحليلية؛ فيؤكّد أنّ هذه الفلسفة لم تولَد كتيار متجانس بل من جذور أوروبية متفرقة (فريغه، وراسل، وفيتغنشتاين، وتيّار الوضعية المنطقية). ثمّ حصل مع الحرب العالمية الثانية أن هاجر الكثير من الفلاسفة (وبخاصة من فيينا وألمانيا) إلى بريطانيا وأميركا؛ الأمر الذي ساعد على انتشار هذا النمط من التفكير الفلسفي. النقطة الأساسية في هذا الفصل هي أنّ الهجرة السياسية غيّرت الخريطة الفلسفية.
يتناول شورينغا في الفصل الثاني المعنون «الفلسفة والسلطة بعد الحرب» كيف أصبح التيار التحليلي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية هو المسيطر في الجامعات الأنغلوساكسونية، كما حصل ترسيخٌ لفكرة أنّ الفلسفة التحليلية «محايدة» و«علمية»؛ لكن هذه الحيادية نفسها كانت خياراً سياسياً لتجنّب الصراع الآيديولوجي وتحييد الماركسية. اختار شورينغا للفصل الثالث عنوان «المؤسسات الأكاديمية»، وأوضح فيه أنّ هيمنة الفلسفة التحليلية لم تكن مجرد تفوق فكري بل نتيجة بنية جامعية. الأفكار (الفلسفة، لا فرق) لا تعيش بغير دعم مؤسساتي راسخ وبنية أكاديمية متقدّمة. ركّزت أقسام الفلسفة في بريطانيا وأميركا على التحليل اللغوي والمنطقي، وهذا بدوره عزّز سلطة النخب الأكاديمية، وأقصى التيارات الأخرى (مثل الفلسفة القارية، والماركسية، والفلسفة النقدية). بمعنى آخر: المؤسسات كرّست «الاحتكار» الفكري للفلسفة التحليلية.
في الفصل الرابع المسمّى «الاستمرارية وإعادة الاختراع» يؤكّد شورينغا استمرارية التقاليد الفلسفية التحليلية الكلاسيكية؛ لكنّه يؤكّد في الفصل الخامس -الذي اختار له عنواناً كاشفاً (الآيديولوجيا المستترة)- أنّ الفلسفة التحليلية غالباً ما خدمت النظام الليبرالي القائم لأنها تتعامل مع مشكلات معرفية وتقنية أكثر من قضايا اجتماعية-سياسية مركّبة مثل العدالة أو السلطة، ولأنّها تعطي صورة أنّ «الموضوعية» هي الحل، مما يُضعف النقد الراديكالي للمنظومة السياسية.
أما الفصل السادس والأخير في الكتاب فقد خصّصه شورينغا لمعالجة موضوعات كثيرة تقع في نطاق الاستعمار المعرفي الذي كرّسته الفلسفة التحليلية.
***
كتاب شورينغا نمطٌ من المصنّفات الفلسفية التي أتمنّى أن تشيع بدلاً من الاكتفاء بالقراءات الكلاسيكية المعهودة التي تتناول تاريخ الفلسفة في ترتيب تحقيبي زمني أو موضوعاتي أو جغرافي. ذكّرني كتابُ شورينغا بالمقولة الشائعة بأنّ الفلسفة تحرّضُ على التفكير النقدي Critical Thinking. هذا صحيح في سياق الفكرة العامة؛ ولكن ماذا لو علّمك الفلسفة في المدرسة مدرسٌ غارق في الأصولية الآيديولوجية؟ الأمر رهنٌ بكل فرد منّا في نهاية المطاف، وهو وحده من يستطيعُ تحديد شكل القراءات التي تصنَّفُ أنّها «خارج صندوق» المشغل الفلسفي الكلاسيكي. هكذا تتضح الرؤية، وترتقي الذائقة الفلسفية ويصبح المرء جزءاً فاعلاً في الحراك الفلسفي العالمي.
***
لطفية الدليمي
عن جريدة الشرق الأوسط للندنية، يوم: 24 سبتمبر 2025 م ـ 02 ربيع الثاني 1447 هـ