اخترنا لكم
محمد البشاري: الهويّة بين وعي الذات وتحدّيات الوجود

الحديث عن الهوية لم يعد سؤالاً فلسفياً معزولاً عن رهانات الواقع، بل هو جوهر التحولات التي يعيشها الإنسان المعاصر، حيث تتقاطع فيه الموروثات العميقة مع رياح العولمة الثقافية والفكرية. إنّ الهوية، في جوهرها، ليست قالباً جامداً نحمله من الماضي كما هو، وليست كذلك قناعاً نرتديه وفق متطلبات السوق الثقافية العالمية، بل هي سيرورة مستمرة من إعادة التشكيل، تجمع بين الذاكرة الجمعية والانفتاح الواعي على الآخر.
فالمجتمعات الشرقية اليوم، وهي ترزح تحت ثقل تاريخ طويل من القيم الروحية والمرجعيات الدينية، تجد نفسها في مواجهة عقلانية حداثية غربية تشكّل خطاباً كونياً يدعو إلى الحرية الفردية، وإلى تحرير الفكر من القيود التقليدية. هذا التداخل بين المرجعيتين يولّد توتراً وجودياً وفكرياً: هل ننتمي لما كنّا عليه، أم لما نطمح أن نكونه؟ أم أنّ الانتماء ذاته فعل إبداعي لا يكتمل إلا بقدرتنا على الجمع بين الأصالة والمعاصرة؟
إنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في تعدد الهويات أو تنوّع مصادرها، بل في تحويل الدين أو التراث إلى أداة أيديولوجية مغلقة تُستعمل لتقييد العقل، وإخضاع الفنون والآداب والفكر لمنطق السياسة. فحين تتحوّل المرجعيات الروحية إلى وسيلة للصراع على السلطة، تنكمش الهوية إلى شعار، وتفقد بعدها الإنساني الشامل.
الهوية الحيّة، كما أراها، ليست انغلاقاً على الذات ولا ذوباناً في الآخر، بل وعيٌ نقدي يتيح لنا أن نتفاعل مع القيم الكونية للعقل والحرية والكرامة، دون أن نفقد صلتنا بعمقنا الروحي والأخلاقي. وهي في هذا المعنى ليست ثنائية «شرق/غرب»، بل مجالٌ رحب تتجاور فيه الرؤى، ويتقاطع فيه الإبداع الإنساني.
من هنا، يصبح التعدد خياراً وجودياً لا تنازلاً اضطرارياً، لأنّ الإنسان الواحد قادر على حمل أكثر من بعد، وعلى الانتماء إلى أكثر من أفق في الوقت ذاته. وفي زمن تتسارع فيه موجات العولمة، تظلّ مسؤوليتنا أن نحافظ على خصوصية هويتنا، لا بإغلاق الأبواب، بل بقدرتنا على أن نكون طرفاً فاعلاً في الحوار الحضاري، وأن نحوّل هذا الحوار من ساحة صراع إلى مجال للإثراء المتبادل.
إنّ تحرير الهوية من ثنائية الصدام أو الذوبان، وفتحها على أفق التعدد الواعي، هو السبيل لتجاوز الانقسامات الموروثة، ولتأسيس وعي إنساني قادر على مواجهة تحديات الحاضر دون أن يتنكر لجذوره. ففي النهاية، الهوية ليست مجرد بطاقة تعريف ثقافية، بل هي مشروع وجودي مفتوح، نصنعه نحن بقدر ما نصنع أنفسنا.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 30 سبتمبر 2025 23:25