تقارير وتحقيقات
يوسف جزراوي: كاهنٌ عراقي في البيت الأبيض

قرب حديقة The White House تلتقط مجموعة مِنَ الصور التذكاريّة والفيديوهات دونَ مضايقاتٍ أو ممنوعات، بينما النّاس المُحتشّدة مِن مختلف الولايات والبلدان كأنّها في مُظاهرة عيدٍ!. بعضهم يحملون أعلام بلدانهم والبعض الآخر يصدح مع مكبرات الصّوت نشيد بلاده الوطني، ويخفق في الأعالي علم أمريكا احتفالاً بنهاية الحرب في شرقنا.
لم يكن الرئيس ترامب متواجدًا في مقر إقامته، سُمحَ لنا التصوير عند أقرب بوابة وأمام الشرفات المُطلّة مِن سكناه!، ليس كما يحدث في العراق وبلدان الشّرق العربي، حمايات وعنتكات- مشقات، ومحاذير وومنوعات وأسوار مرتفعة وعوائق واحتياطات أمنيّة، وربّما اعتقالات وسفك دماء!!.
تّعرّجُ فيما بعد إلى or tours Washington Monument وتدلّف على الشاطئ، هُناكَ ودنما شعور تفتح الذّات وتستنشق جرعة هواء واشنطيًّا نقيًّا!.
هكذا تزور ولايّة DC Washington ، للبقاء بضعةِ أيامٍ لتطير فيما بعد إلى وجهتكَ الّتي تصبو إليها.
حلاقة شعر الرأس تضامنًا
في الصّباح الباكر، تطأ قدمكَ دروب عاصمة أمريكا للرياضة وأنتَ تتلو في سِركَ صلاتكَ الشخصيّة.
ولمن لا يعرف، تعود تسمية هذه الولاية نسبة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق جورج واشنطن 1791. في واشنطن وغيرها مِن مدن العالم، لم يعد تنوع الشّعوب أمرًا غريبًا، ولكن هذه الولاية لا تمت بصلةِ شبهٍ إلى سان دييغو أو نيوورك أو أريزونا ومشيغان.. على خلاف ما يُشاع بين تشابه الولايات الجغرافي والسكانيّ!.
ثمّة مناطق بحريّة جذابة ومساحات خضراء تشرح صدركَ، النّاس هُنا ودودة، الكثير منهم يُعاني البدانة، بسبب شيوع الأكلات السريعة، ربُّما لأنَّ رخصَ ثمنها يحفز على شرائها!!. الطرقاتُ نظيفةٌ والخدمات جميلة، والأمكنة أنيقة والمعالم المعماريّة مُدهشة. القطارات والباصات متوفرة بكثرة كأستراليا وأوروبا، ثمن التذاكر رخيص للغاية، كما هي الحال مع ايجار السيارة اليومي؛ بينما ثمن الوجبات في المطاعم العربيّة والافغانيّة جنوني ومبالغ فيه، وليسَ على غرار المطاعم الأمريكيّة أو المكسيكيّة...
لم يصادفني الكثير مِن ناطحات السّحاب كما خُيّل لي، وإنّما الأبنية المعماريّة لها تصاميم هندسيّة وجماليّة. ما لفت انتباهي تبادل التحيّة مع الفنانة (شمس الكويتيّة بعبارة حبيبي شلونكَ)، لعلَّ قد يخلق مِن الشبه أربعين!!.
وكذلكَ ثمّة مؤسسة إنسانيّة نصبت خيمتها وطاولتها في ركن شارعٍ سقط مِن ذاكرتي في حي SQ MCPHERSON في " السيتي" وضعت بضع كراسي لحلاقة شعر المارة (zero) في الهواء الطلق، تضامنًا مع مرضى السرطان ودعمًا لهم، لاسيّما الأطفال. شيءٌ ما في داخلي دفعني لحلاقة شعر رأسي بِلا تفكيرٍ أو ترددٍ! لعلّها إنسانيّتي أو نزعة كهنوتيّة اعتدت عليها، ومِن ثُمَّ عانقتهم بودٍّ والتقطتُ حزمة مِنَ الصورِ مع ثلّة مِن الأطفال والبالغين المتساقط شعرهم بسبب هذا الداء اللعين.
ولا مشاحة أن قُلتها صريحة واضحة بالفمِ الملآن، لا لبس فيها: إعلاميًّا للبيت البيضاوي هيّبة تصنُّ وترنُّ، قد يفتقدها على أرض الواقع!!.
تواصل فنّ التسكّع، المكانُ خلاّب والنّاسُ لطفاء، يلقون عليكم التحية ويوزعون الابتسامات، ولكن قلّما تجد الفرق الموسيقيّة تعزف في الطرقات.الجيش في خدمة الشّعب، أسوقُ لكم مثالاً للتوضيحِ عن هذا الأمر: ففي محطات القطارات لا يترددون في تقديم لكَ المساعدة متى ما أحتجت لها أو توجيهكَ إلى نقطة وجهتكَ. بينما الدراجات الهوائيّة بامكانكَ استجارها بشكلٍّ شخصي مِن أيّ رصيفٍ.
بعد سياقة هانئة في رحابٍ أمكنة فيها روعة بناء! تصفُّ سيارتكَ، وتترجل منها لترتادُ حديقة مُخصصة لفرحِ النّاس وللقراء، أشبه ما تكون بِدارِ استراحةٍ الالتقاط الالنفاس وتناول لقمة أو احتساء جرعة قهوة أو ماءًا أو مكانًا للتواعد وتبادل اللقاءات وأطراف الحديث أو لممارسة الرياضة...
تنتقي مكانكَ بنفسكَ كالعادةِ، تفتحَ حاسبوكَ لتدوّون مشاهداتكَ الثقافيّة، فتقع على مسامعكَ موسيقى (يا شوك) للفنان هيثم يوسف، تستطيبكَ الموسيقى والأجواء، لأنّني لستُ مِنَ المؤمنين أنَّ للكلمةٍ اشلاءًا، بل بذورًا، تزرعها في مدن العالم، كمن يغرس نبتة في تربة الوجود. وأنتَ تكتبُ تُطالعكَ عيون كثيرة لأناس تمارس فنّ التسكّع، تحدق فيكَ وهي تطلقُ شهقةُ دهشة أو تعجب، وكأنّكَ كُلّما أبتعدت عن النّاس شعرت بقيمتكَ!.
ومسكُها رحيل
وبينما كانتِ الرُيحُ تمشط الأعشاب، كنتُ قد أغمضتُ عينيِّ في لحظة استكانة، وإلاّ بعائلةٍ عراقيّة صحبة عائلة عربية أخرى، لم يجمعني بها سابق معرفة، تلقي عليَّ التحيّة دونَ سابق انذارَ، التقطت معي الصور فتشرفت بها!.
عاملة النظافة في الحديقة، أهدت لي ولسواي وردة جميلة، تكريمًا للزوار، تقبّلتها، على الرغم مِن حُبّي للورود والتعاطي بها، ولكن قناعتي أنَّ ليس بالورد وحده يحيا الإنسان، وليس بها فقط يزداد الكون جمالاً ورونقًا وإنسانيّة.
إنَّ الرسالة الّتي أريدها أن تصلُّ للقرّاء مؤادها:
أقّليّة مِن حملة القلم يشبهون نصوصهم وكتابات مُشاهداتهم الثقافيّة والأدبيّة، والقّلائل أيضًا الذين لا فصام أدبيًّا بينَ ما يكتبون ويعيشون ويقولون وينشرون...، وليس غروًا إذا قلتُ: أنا واحدٌ مِن هؤلاءِ.
حقيقةً في ولاية واشنطن العاصمة المركزيّة للولايات المتحدة، لا يطالعكَ مناظر لأناس متوترة أو مجهدة بأقاويل أو أحاديث لا طائل منها أو ضغوطات عمل أو دفوعات حياة، هكذا بعضُ المُدنِ تحبها وتعشقكَ مِنَ أولِّ نظرة ووطأة قدم وخطوة، وثمّة مدنِ بِلا وجهةٍ، ولكنّي هُنا ليس مِن منطلقِ النقد أو المغالاة أذهب للقولِ:
نحنُ ملّة الكُتّاب والأدباء والشّعراء والمثقفين... في عملية( تدوير ثقافيّة، أدبيّة، دينية...)، بحاجة ماسةٍ لأجواء، نُصدَّر فيها كتابات للقرّاء عن أدب الترحال والرحلات، " كتابات مانع حمل"؛ لكي لا يحمل إنسان الألف الثّالث ويتحمل أعباء الحياة وتنال منه تحدياتها.
وأنتَ تنهض برأس محلوقٍ وتذهب إلى سيارة BMW قد استأجرتها، تصطحبكَ للمطارِ لترحال آخر، تجد ظلّك بقي جالسًا على كُرسيّ هزازٍ رغمَ البرد، خلف شمسٍ تداعب غزالة، حمامة، زهرة...!!.
حقيقةً، واشنطن التي آسرت عقلي وقلبي، هي واحدةٌ مِنَ المدنِ وقد تعدَّ أجمل ولايّة أمريكيّة فتنتُ بها، الّتي تعلم كيفَ تستقبلكَ، فتعرف بدوركَ كيفَ يكون لكَ فيها خطوة وبصمة وكلمة!. فقط جربوا أن تزوروها.
***
الأب يوسف جزراوي