شهادات ومذكرات
صالح الطائي: الشيخ ضياء الخطيب.. متحف يمشي على قدمين

دعوة لتوثيق ذاكرته وتحويل مقتنياته إلى متحف دائم
في مدينة الكوت، حيث يلتقي التاريخ بسحر الذاكرة، حيث تمتد الأيام وهي مضمخة بعبق الماضي وروعة الحاضر وجمال المستقبل، يعيش شيخ تجاوز التسعين من عمره، هو بحد ذاته حكايةُ تستحق أن تُروى، بل أن يتم درسها وتدريسها في جميع المراحل الدراسية، وأن تكتب عنها أطاريح علمية ودراسات أكاديمية وبحوث تخرج ومقالات. هذا الشيخ الكريم متحفٌ نادر يمشي على قدمين لا تقويان على حمله لينفض التراب بيدين مرتعشتين عن كنوزه النادرة.
إنه الشيخ ضياء الخطيب، الرجل الذي كرّس عمره لجمع التحف والوثائق والمخطوطات النادرة والطوابع والذكريات، فكوّن بمفرده ما يشبه مؤسسة تراثية صامتة، مغلقة على أسرارها، لكنها عامرةٌ بالدهشة لمن يتاح له أن يدخلها.
منذ شبابه، راح هذا الشيخ الوقور يتجول بين الأسواق القديمة، والبيوت المتهالكة والشوارع الضيقة، يطارد آثار الزمن في القرى والأرياف والمدن، ويقتني ما لا تلتفت إليه العيون العجلى، ولا تعرف كنهه إلا العقول المتنورة. لم يكن مجرد هاوٍ لجمع القطع والطوابع والوثائق القديمة، بل كان واعيًا بقيمتها التاريخية والثقافية والعلمية والإنسانية، يُنقّب فيها كما يُنقّب العالم في طبقات الأرض، يقرأ فيها ما وراء الشكل، ويؤمن بأنها مرآةً لوجدان أمةٍ، وامتدادا لهويتها.
وما يُضاعف من قيمة هذا الجهد أنه قام به من ماله الخاص، دون أن يتلقّى دعمًا من أي جهة حكومية أو أهلية، متحمّلًا تكاليف الشراء والنقل والحفظ والتخزين والحراسة لعقود طويلة. بل إن ما هو معروض حاليًا في متحفه البسيط أو المخزن، لا يمثل سوى أقل من 10% من مجموع مقتنياته. أما الباقي، فموضوع في صناديق داخل مخازن غير نظامية، مهدد بالتلف والضياع، إن لم تبادر الجهات المختصة إلى إنقاذه فورا دون تأخير.
ولئن كان متحفه اليوم مغلقًا أمام العامة، إلا أن ما يحويه من كنوزٍ معرفيةٍ وجمالية يضاهي المتاحف الكبرى في أصالته وتفرّده. يكفي أن ترى في إحدى زواياه صورًا تجمعه بشخصيات تاريخية كبرى، لتدرك أنك أمام سيرة لا تقل أهمية عن المعروضات نفسها. سيرة رجل ظل وفيًا لذاكرة العراق، حارسًا صامتًا لجماله المهدّد بالاندثار والضياع. فهنا تجده مع ملكة بريطانيا، وهناك مع عبد الكريم قاسم، أو مع جمال عبد الناصر، أو مع أمراء العراق وكبار الشخصيات.
من هنا، نوجّه نداءً إلى وزارة الثقافة العراقية وإلى منظمة اليونسكو لتبادرا في اتخاذ الإجراءات الخاصة لحماية هذا الكنز العظيم، كما وأوجه ندائي إلى جامعة واسط وجامعة الكوت الأهلية، بأن تبادرا فورا ودون تأخير إلى تشكيل لجنة علمية متخصصة، تتواصل مع الشيخ، وتقوم بتوثيق شروحاته بالصوت والصورة، لما تحويه من معارف نادرة وتفصيلات قد تندثر إذا لم تُحفظ الآن. إنها فرصة ثمينة لحفظ هذا الإرث العظيم في أرشيف أكاديمي حي، متاحٌ للباحثين والطلبة والمؤرخين، فبادروا إليها قبل أن يأكلنا الندم.
وفي هذا السياق، تعلن مؤسسة الدكتور صالح الطائي الثقافية للإبداع عن مطالبتها الرسمية للجهات الحكومية والمحلية والشعبية وإلى منظمات المجتمع المدني، بأن تسهم في تبنّي هذا المشروع الثقافي والوطني، لتحويل المتحف الخاص بالشيخ ضياء الخطيب إلى متحف دائم مفتوح للجمهور، ليكون منارة تعليمية وسياحية، وشاهدًا حيًا على عشق الإنسان العراقي لذاكرته وهويته. ومثلما نجح مشروع الألف دينار في بناء عدة بيوت للمعدمين ممكن تنظيم حملة ألف دينار جديدة لبناء هذا المتحف.
لقد آن الأوان أن نحتفي بالأحياء الذين صنعوا المجد بهدوء، وأن نحفظ لهم مكانهم في ذاكرة الوطن. فالاحتفاء برجال من طراز الشيخ ضياء الخطيب، ليس فقط تكريمًا لهم، بل هو تكريم لعراقٍ يعرف كيف يكرّم مبدعيه قبل أن يودّعهم.
***
الدكتور صالح الطائي