شهادات ومذكرات
صنع الله إبراهيم" المثقف المتمرد

صباح الأربعاء الماضي، رحل عن عالمنا أحد عمالقة الأدب العربي الحديث، الكاتب والروائي المصري صنع الله إبراهيم، عن عمر ناهز 88 عامًا بعد صراع طويل مع المرض. رحيله خسارة فادحة لكاتب مبدع وضمير أدبي ظل على مدى أكثر من ستة عقود صوتًا صادحًا بالحق، وقلمًا لا ينحني إلا للحقيقة.
في هذا المقال، سنحاول قراءة مشروع صنع الله إبراهيم الأدبي الذي حول السجن إلى "جامعة" كما قال ذات مرة، وجعل من الأدب سلاحًا للمقاومة ووسيلة لكشف القبح الاجتماعي والسياسي.
"تلك الرائحة" التي غيرت مسار الرواية العربية
"السجن هو جامعتي، ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة". بهذه الكلمات لخص صنع الله إبراهيم تجربة الاعتقال التي شكلت منعطفًا حاسمًا في حياته الأدبية والفكرية. في عام 1959، اعتقل الشاب الشيوعي ضمن حملة ضد المنظمة الشيوعية المصرية "حدتو"، ليقضي خمس سنوات في السجن (1959-1964). لكن هذه السنوات لم تكن عقيمة، بل تحولت إلى بوتقة صهرت فيه روح المبدع الملتزم.
في المعتقل، وجد صنع الله نفسه بين مجموعة من المثقفين الذين سيصبحون لاحقًا أعلام الفكر والأدب في مصر: فؤاد حداد، محمد خليل قاسم، محمود أمين العالم، عبد العظيم أنيس، وآخرون. في هذه "الجامعة المغلقة"، مارس السجناء حياة ثقافية موازية، من زراعة حديقة صغيرة إلى قراءة "ثلاثية نجيب محفوظ" التي وصلتهم خلسة، وكتابة اليوميات على ورق لف السجائر. هنا بالضبط، في هذا التناقض الصارخ بين القمع والإبداع، بين القهر والخلق، ولدت بذرة روايته الشهيرة "تلك الرائحة" (1966).
"تلك الرائحة" لم تكن مجرد رواية، بل كانت زلزالًا هزّ عرش الرواية التقليدية. كتبها صنع الله بعد خروجه من السجن، وعرضها على يوسف إدريس الذي تنبأ بأنها ستكون علامة في الأدب المصري. الرواية التي كان عنوانها الأول "تلك الرائحة النتنة"، قدمت لغة جارحة، واقعية قاسية، وكشفت عن "روائح" المجتمع الفاسدة بعيني بطل خرج لتوه من المعتقل. لقد هاجمت الرواية تابوهات الجنس والسلطة والدين، مما أثار حفيظة الناقد الكبير يحيى حقي الذي هاجمها بعنف. لكن التاريخ الأدبي أعطى الحق ليوسف إدريس، فأصبحت "تلك الرائحة" مع الوقت نموذجًا للرواية الجديدة التي كسرت القوالب البلزاكية، متأثرة بأفكار همنغواي حول الكتابة عما تعرفه واللغة المباشرة والجمل القصيرة.
المثقف بين الأدب والسياسة
لم يكن صنع الله إبراهيم كاتبًا منعزلًا في برجه العاجي، بل كان نموذجًا للمثقف العضوي الذي ارتبط "كتابة وفعلاً" بالنشاط السياسي، كما وصفه الناقد محمد بدوي. لقد ظلّ طوال حياته حارسًا للضمير الوطني، يقف بشدة في مواجهة السلطة، باستثناء فترة قصيرة دعم فيها الدولة ضد حكم الإخوان المسلمين.
في أعماله اللاحقة مثل "اللجنة" (1981) و"ذات" (1992)، واصل صنع الله ابراهيم مشروعه النقدي الجذري للمجتمع والسلطة. لقد جسّد بحق مقولة أن "الأدب هو الآخر الذي لا يهادن" كما قال أدونيس. كان أدبه مرآة عاكسة للقهر والاستبداد، لكنه لم يكن أبدًا أدبًا تبشيريًا أو دعائيًا، بل ظل محافظًا على استقلاليته الفنية ونزاهته الإبداعية.
فلسفة صنع الله إبراهيم
"رفض الصوت الواحد والقمع الجسدي والرمزي والمادي"، هذه العبارة تختزل فلسفة صنع الله إبراهيم الوجودية والأدبية. لقد كان الرفض عنده ليس موقفًا سياسيًا فحسب، بل رؤية للعالم وأسلوبًا في الحياة. في "يوميات الواحات" الذي وثق فيه تجربة السجن، يروي صنع الله لحظة مفصلية حين طُلب منه وشريكه أن يشهدا زورًا في قضية استشهاد شهدي عطية. يقول: "لا أذكر أني مررت في حياتي كلها بلحظة شعرت فيها بالوحدة التامة كما كان شأني آنذاك. وشل الرعب تفكيري وإرادتي وصرت مثل الروبوت المستعد لتنفيذ كل ما يطلب منه". هذه التجربة التي وصفها بـ"بشاعة القهر" علمته أن ينظر إلى الإنسان ككل متكامل من نقاط قوة وضعف.
هذا الدرس الوجودي العميق سيطبع كل أعماله اللاحقة، حيث لم يقدّم صنع الله أبطالًا خارقين، بل بشرًا عاديين يواجهون القهر بأنواعه، تارة بالمقاومة وتارة أخرى بالانهيار. لقد فهم أن الأدب الحقيقي ليس ذلك الذي يقدم أجوبة جاهزة، بل الذي يطرح أسئلة مزعجة تبقى معلقة في ذهن القارئ.
الرحيل والخلود
رحل صنع الله إبراهيم تاركًا إرثًا أدبيًا وإنسانيًا خالدًا، كما وصفه وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو. لقد كان بحق "أحد أعمدة السرد العربي المعاصر" الذي جمع بين "الحس الإبداعي والوعي النقدي". كما عبر الكاتب إبراهيم عبد المجيد بمرارة: "كل كلام الدنيا لا يكفي تعبيرًا عن حزني يا معلمنا وصديق العمر الجميل".
لكن صنع الله إبراهيم لم يمت، لأنه -كما علمنا- الأدب الحقيقي لا يموت. سيظل حاضرًا في "تلك الرائحة" التي لا تزال تفوح من صفحات الرواية بعد ستين عامًا على نشرها، وفي "اللجنة" التي تبقى مرجعًا لفهم آليات السلطة، وفي "يوميات الواحات" التي تروي كيف يمكن للإنسان أن ينتصر على القهر بالإبداع.
في النهاية، ربما يكون أفضل ما نقدمه لروح صنع الله إبراهيم هو أن نستمر في قراءة أعماله بوعي نقدي، وأن نحذو حذوه في عدم قبول المسكوت عنه، وفي تحويل القهر إلى إبداع، والسجن إلى جامعة، والألم إلى كلمات تخلد في ذاكرة الأمة. رحم الله صنع الله إبراهيم، الذي علمنا أن الكاتب الحقيقي هو من "يعيش على حافة الهاوية، ويكتب على حافة الهاوية" كما قال ذات مرة.
***
د. عبد السلام فاروق