نصوص أدبية
نضال البدري: نصف امرأة

كانت تطالع وجهها في المرآة، تتأمل خطوط الزمن وقد ارتسمت بوضوح على ملامحها. كل تجعيده، كل ظل تحت عينيها، يشهد على ما مرّ بها من ألم وذكريات ثقيلة. مدت يدها إلى صدرها، تتحسس الجهة اليسرى، حيث بقيت الندبة شاهدةً على قرار مصيري.
همست لنفسها:
"هل يُعقل أن كل هذا قد مرّ؟ وأنني ما زلت هنا، على قيد الحياة، كنت أظن أنني سأصمد أكثر من عام أو عامين؟، وأن من يضع الزهور على قبره.. هو أنا؟ أغلبنا يموت، لكن الموت لا يُعدّ انتصارًا، آه يا زوجي العزيز... لا تجوز على الأموات سوى الرحمة".
كان يحتضنني باكيًا يوم عِلم بمرضي، يقول: "لو حدث لكِ مكروه، لن أعيش من بعدك. أنتِ زوجتي التي أحب."
كان قرار استئصال أحد ثديي مؤلمًا، لكن الموت كان أقسى. اخترت الحياة، وسندت نفسي على وعوده وكلماته الحنونة.
يومها، كان صوته يداوي جراحي، وحبه يخفف من شعوري بالنقص.
حين سقطت آخر شعرة من رأسي، بعد أن تساقطت الواحدة تلو الأخرى، استعنت بشعر مستعار أخفي تحته رأسي الحليق. وأخبئ به اّلمي من نظرات الشفقة والعطف، التي كانت تلاحقني في كل مكان.
مرّت الشهور قاسية، لكنني قاومتها، وخرجت من التجربة بخسائر كبيرة، وشعور دائم بأني لم أعد كاملة... بل أصبحت نصف امرأة.
لكن الحقيقة لم تتوقف عند الجسد، تغيّر هو أيضًا... صار بعيدًا، غريبًا، لا يقترب، لا يهمس، ولا يضم.
لم يعد ذاك العاشق الذي يغفو على صدري كطفل صغير، بل صار جسدًا ساكنًا في فراش بارد. بدأ يتهرب من لمساتي، يلجأ إلى النوم مبكرًا بحجج واهية، ويتحاشى النظر في عيني، لكن فجأة، حدث ما لم يكن بالحسبان !؟
حين سمعته ذات ليلة يهمس في الهاتف، لامرأة غريبة، قائلاً لها: "لن أنسى فتحة الصدر" التي كشفت عن المرمر الخزفي المخبأ تحته، بلدانته ورقته، وجسدك الباذخ الذي انتشلني من شعوري بالقرف، ذاك القرف الذي لم أعد احتمله معها.
ثم خطّطا للقاءٍ حميميٍّ آخر معًا... لم أصرخ، لم أعترض. اكتفيت بالصمت، أصبحت كـ ورقة خريف بكفّ ريحٍ هوجاء. لن أمني النفس بالقول إنه يحبني، فكل شيء بات واضحًا أمامي. تجرعت كأس الخيانة، وأخفيت هزيمتي أمامه، أدمن الخمر والنساء، و استساغ طعم الخيانة وتلذذ بها.
لكن تلك النشوة لم تدم طويلا، بل سرعان ما تلاشت، مخلفة حطام رجل مهزوم. فجأة، أصابته حمى شديدة، وإعياء لم يجد له تفسيرًا... تهاوى جسده، كما تهاوت وعوده.
كان طريح الفراش لشهور عده، ضعيفًا، ينظر إليّ بعينين خائفتين، بعد أن ساءت حالته كثيرا، وتدهورت صحته بشكل ملحوظ، عكسها لون بشرته التي أصبحت أشبه بالموت .
فتح فمه الناشف، كفم وطواط يحتضر، أخذ نفسًا عميقًا على مهل، ثم قال: " لا تتخلي عني..."، وقفت عنده لكني، لم أقترب كثيرا، مددت يدي وعدّلت الغطاء فوق جسده،
ثم همست بهدوء: " أشفق عليك... لا لأنك زوجي، بل لأنني بشر."
وخرجت من الغرفة بخطى ثابتة، كمن دفن خيبته الأخيرة.
***
نضال البدري – قاصة عراقية