نصوص أدبية
شادي مجلي: القتلى الغرباء

يُروى أن قبل مئات السنين، في زمن لم تُسجَّل أحداثه في الكتب، كانت هناك قرية صغيرة يلفّها الضباب، كان الناس يتناقلون فيما بينهم همسًا عن غرباء جاؤوا في ليلة عاصفة. لم يعرف أحد من أين أتوا ولا إلى أين يقصدون، كانوا ثلاثة رجال بملابس بالية وعيون لا تنظر مباشرة في وجوه الناس.
لم يتحدثوا مع أحد، واكتفوا بالمبيت قرب أطلال طاحونة قديمة مهجورة.
في الصباح التالي، وجدهم الأطفال مرميين بلا حراك، كأنهم سقطوا في نوم لا نهاية له، لم يكن على أجسادهم أثر دم أو جرح، فقط وجوه جامدة تشبه الأقنعة.
اجتمع أهل القرية حولهم مرتبكين:
من قتلهم؟
لماذا ماتوا جميعًا دفعة واحدة؟
هل جلبوا لعنة معهم؟
دفنوهم في طرف المقبرة، لكن الحديث عن هؤلاء الغرباء لم يتوقف، في كل ليلة، كان يُسمع وقع خطوات قرب الطاحونة القديمة، وأصوات خافتة تشبه الأنين، بعض الرجال أقسموا أنهم رأوا الغرباء الثلاثة يمشون بين الحقول، وجوههم بلا ملامح، يبحثون عن شيء ما لم يجدوه.
مرت السنوات، وبقيت القرية تحمل اللغز، لم يُعرف سر موتهم، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من الطاحونة القديمة بعد الغروب، صار يُقال: إذا مررت بتلك الأرض، لا تلتفت خلفك… لأن القتلى الغرباء ما زالوا يسيرون هناك، يبحثون عن حقيقة موتهم.
وبعد سنوات من تداول الحكاية، كبر جيل جديد من أبناء القرية، وكان بينهم شاب اسمه حسن، جريء أكثر مما ينبغي، لم يكن يصدق قصص الجدات، وكان يسخر قائلًا: إنها مجرد خرافات لتخويف الأطفال من السهر.
في ليلة مقمرة، قرر حسن أن يثبت للجميع أن الطاحونة ليست سوى أطلال حجارة، حمل مصباحًا زيتيًا وتوجه إلى هناك وحده، كان الهواء ساكنًا بشكل غريب، والضباب يزداد كلما اقترب، عند الباب المتآكل، لمح ثلاث ظلال طويلة واقفة كأنها تنتظره.
ظنّها وهمًا من الضوء، لكنه حين خطا خطوة للداخل، سمع همسًا بلغة لم يعرفها، فجأة تحركت الظلال، وتجمّعت أمامه، ثم تلاشت تاركة وراءها حجرًا دائريًا في وسط الأرضية، محفورًا عليه نقش غريب يشبه دوامة.
حين لمس النقش، ارتجّت الأرض، وانبعث ضوء أزرق من الدوامة، فرأى حسن مشاهد غريبة: مدنًا لم يعرفها، أنهارًا من نار، وأصواتًا تناديه باسمه، عندها أدرك الحقيقة: الطاحونة لم تكن مكانًا عاديًا، بل بوابة بين عالم الأحياء وعالم الأرواح.
الغرباء الثلاثة لم يكونوا مسافرين ضائعين، إنهم حرّاس البوابة، الذين خانوا عهدهم وحاولوا العبور.
موتهم لم يكن موتًا، بل عقابًا: أرواحهم حُبست بين العوالم، تبحث عن بديل يفكّ قيدها.
أسرع حسن بالهرب، لكن منذ تلك الليلة تغيّر، كان كلما نظر في المرآة، يرى خلفه ثلاثة وجوه باهتة تحدق به.
لم يبح لأحد بما رآه، خوفًا من أن يُتهم بالجنون، غير أن الشيوخ لاحظوا أن الطاحونة القديمة عادت تُصدر صوتًا خافتًا يشبه التنفس… وكأنها تستيقظ من سباتها الطويل.
***
الكاتب: شادي مجلي سكر