نصوص أدبية

سعد غلام: في البدءِ كانتِ المدينةُ نارًا

(مرثيّةُ المدينةِ المُشتهى)

في البدءِ كانتِ المدينةُ نارًا،

تُقايضُ الريحَ بطفولةِ الظلالِ،

تسقي الأزقّةَ دمعَ النيونِ سَرًّا،

وتزرعُ تحتَ الجلدِ خارطةً شَرَرًا

*

كانَ علينا أن نُعيدَ ضياءَنا،

أن نبدأَ اللعناتِ من شررِ الضياءِ،

نسألُ الخرائطَ: مَن سرقَ المدى؟

فتجيءُ الشاشاتُ بإعلاءِ البُهتانِ

*

تعرجُ الريحُ من حناجرِ شرقِنا،

تُطيّرُ الخيامَ والأبراجَ والملحا،

جناحانِ من ورقٍ يخطّانِ المدى،

وأبجديةٌ تُسقطُ القِممَ نارًا

*

أُضرمُ نارًا من عودِ الحزنِ بَطَأً،

وأُسمّي ظلّي: وجهَ مَن لا يُنتمي،

أنقشُ اسمي في زجاجِ الفراغِ صَمَتًا،

وأصوغُ من خوفي قبيلةً مُفتَعَلَا

*

دُبيَ: تمثالٌ من قشٍّ محشوٌّ،

وسريرُها بينَ كثيبينِ يتمطّى،

والسقفُ سقفُ قصيدةٍ مُهجورةٍ

لم تُقرأْ، فاختفتْ في العمقِ كالصدى

*

كلُّ الحروفِ سقوطُ خطوةٍ فجّةٍ،

كلُّ الحراكِ جراحُ معنًى منطفِي،

يمينُها جسدٌ يُبدّلُ لذّتَهُ،

والبسرُ يسكبُ ذاكرةً في المقصفِ

*

ينفجرُ القفلُ، ينفجرُ الصمتُ المهذَّبُ،

الشعرُ والجنسُ والعطشُ إلى الرؤى،

يُفتّحُ كلُّ شيءٍ، ثم يُنفى القيدُ،

أقولُ: أُغري المؤتفكاتِ بصمتِي

*

لكنَّ الكلمةَ الميّتَةَ في الشفاهِ

ليستْ شِفرةً تُفكُّ إلا بفعلٍ

مُشتهى لا يُنتظرُ، لا يُرجى،

اكتبوا! لا تُقلّدوا الشكلَ المُبتذَلَ

*

ولا تنسخوا ضوءَ الحجرِ المُقفَّلَ،

من المحيطِ إلى الخليجِ لم أرَ

إلا صوتَ تصويتٍ يُقصُّ كالخبرِ،

الكلمةُ أخفُّ من جناحِ فراشةٍ،

*

وأثقلُ من قنبلةٍ تُنزَلُ في الليلِ،

الفعلُ لحظةٌ تمضي، تذروها الريحُ،

والكلمةُ زمنٌ من ملحِ الجرحِ إذا ما

جفا، وتركَ في الفمِ طعمَ البُعدِ المُريرِ

*

الكلمةُ يدٌ تُقبّلُ مفصلَ الرؤيا،

وأنا أكتشفُكِ، يا نارِ، يا عاصمتي،

يا من تُؤجَّلينَ في كلِّ صباحٍ،

أكتشفُكَ، يا شعرُ، يا شظفَ الغبارِ

*

يا سرَّ الندى، أُغري مدائنَ صالحٍ،

تلبسُني وألبسُها، نشرُدُ كالضوءِ،

نسألُ: مَن يقرأُ الآنَ؟ ومَن يرى؟

أثمّةَ مدينةٌ فوقَ الألمِ قد بَنَتْ؟

*

نعم، إنها مدينةُ المُشتهى المُؤجَّلُ،

في دُبيَ لا شيءُ يُرى كما هوَ،

كلُّ شيءٍ أقنِعةٌ، كلُّ شيءٍ بُهتانُ

*

الحديدُ ليسَ قوّةً، والحريةُ ليست نارًا،

والإلهُ ليسَ في المعبدِ المُقفَّلِ،

يتحوّلُ الجسدُ إلى سلعةٍ مُدجَّلةٍ،

*

والصوتُ إلى سهمٍ يُرسلُ في الظلامِ،

والظلُّ إلى طابورٍ يُساقُ للمحرابِ،

والزيتُ إلى مذبحٍ يُصلَّى بالدمِ

*

لا تُديني، بل أشهدُ اللغةَ على ما رأتْ:

أنَّ الحداثةَ ليستْ خلاصًا مُنتظرًا،

وأنَّ الجمالَ إن لم يكنْ حُرًّا،

يختنقْ في زجاجٍ مُغلقٍ كالقبرِ

***

د. سعد محمد مهدي غلام

 

في نصوص اليوم