نصوص أدبية
سُلَيْمان بن تملّيست: رِحلَةُ الضَيَاعِ
مِنْ أيِّ طَريقٍ جِئْتَ؟
وَلِماذا أَتيتَ؟
الوَجْهُ قِنَاعٌ،
وَالوجهةُ تِيَهٌ وَضِياعٌ.
هجرتَ الغابَةَ وَالخُضرَةَ وَاليَنبُوعَ،
واليومَ ها أَنتَ وَحيدٌ،
تَتسكَّعُ فَوقَ رَصِيفِ خَريفِ،
مُدنِ المَنفَى،
لِتموتَ فِي الزَّمَنِ القادِمِ
بِالرُّعبِ القاتِلِ وَالجوعِ.
مِنْ أيِّ الأبوابِ المشرعَةِ
تُراكَ دَخلتَ؟
كَيْفَ وَجَدتَ خُطاكَ؟
كَيْفَ تَسلَّلتَ ما بَينَ الطُّرُقِ وَالأَشواكِ؟
شَوارِعٌ،
عَرباتٌ،
بَناياتٌ شاهِقَةٌ،
شُرفاتٌ،
فَوانيسُ شاحِبَةٌ،
مَحلاّتُ نَزواتٍ.
هذِهِ مُدنٌ لَم تَرَها أَبَداً فِي الحُلمِ،
فِيهَا ما لا عَينٌ رَأت،
وَلا أُذُنٌ سَمِعَت،
وَلا خَطرَ عَلَى قَلبِ كِيَان.
فِيهَا حِيطانٌ وَدُخان،
أَشلاءٌ فِيهَا، وَأََشجَان.
فَلِماذا خَلَعتَ لِباسَ الأَرضِ؟
وَرَضِيتَ بِالإسفلتِ البَارِد؟
ماذا دَهاكَ؟
ماذا سَتَحصُدُ مِن مَسعَاكَ؟
كُنتَ طَليقاً،
تَرتَعُ مِثلَ خُيولِ الأَرض،
تُؤنِسُكَ الشُّهبُ اللَّيلِيَّة،
تَغْمُركَ الأَحلام.
واليومَ ها أَنتَ شَريدٌ،
فِي مُدنِ الغُربة،
تَصفَعُكَ الرِّيحُ،
يَكنِسُكَ التِّيهُ،
تَسكُنُكَ سُدَفُ الأَوهام.
تَنكَّرتَ لِلأَرضِ الخَصبةِ،
لِصفاءِ المَاء،
لُذتَ بِالمُدُنِ الجَدبَة.
سَيَنالُكَ فِيهَا الإِِعيَاء،
لا ظِلَّ لِظِلِّكَ،
لا وَجهَ لِضَمِّكَ،
كُلُّ المُهجِ المَطلِيَّةِ رَمادٌ،
حَصادُكَ بِيدٌ وَسَراب.
الطِفلُ الَّذي كُنتَ بِالأَمس،
ما عادَ يُداعِبُ لُعبَتَهُ بِاللَمس،
صارَ فِي حُكمِ النِّسيان،
وَلِوَجهِكَ صارَ وَجهانِ،
وَجهٌ لِلمِرآة،
وآخَرُ لِقِناعٍ تَنهَشُهُ الأَحزان.
هَل تُبصِرُ مِثلي
هَذا الدَّربُ يُشتِّتُنا؟
هذِهِ الخُطوات،
مَلامِحُنا ما عادَت تَعكِسُ صُورتَنا،
تاهَت فِي حُمّى الشُّبُهات.
فَاخلَعْ نَعلَيكَ،
جَدِّفْ نَحوَ طَريقِ العَودَة.
مِشوارُكَ فِي الغُربةِ صَعبٌ،
وَحَياتُكَ فِي الوَاحَةِ عَذبَة.
***
سُلَيْمان بن تملّيست
جربة – 1996/02/26
الجمهوريّة التونسيّة






