آراء

عصمت نصار: مقامة لسانية والحروب العصرية (4)

القلم: من فضلك يا صديقي أعد عليا حديثك عن العولمة التي حلم بها الرواقيون والفيلسوف الفرنسي (هنري دو سان سيمون) (1825:1760) الذي كان ينشد نشر السلام والمحبّة وإزالة كل الموانع التي تفصل بين الشعوب؛ فيصبح المجتمع كله كوكب متعاون لخدمة البيئة والبشرية.

الكاتب: عفوًا يا رفيقي إنك تخلط بين ذلك الحلم الذي تصوره الفلاسفة والواقع الذي أرست قواعده الديانات السماوية التي نبذت العنصرية والعصبيات العرقية والفروق الجنسية وجعلت معيار التفاضل بين الشعوب والأمم هو التراحم والتعاون من أجل خير البشريّة.

أمّا العولمة التي تروج لها القوة الاستعمارية فهي تقدم النفعية على دونها من القيم الروحية وهي متعارضة بطبيعة الحال مع القول بعالمية الإسلام تلك التي تعبر ثوابتها عن الشريعة الربانية والمقاصد الشرعية التي تتفق مع الفطرة الإنسانية لذا أعيد حديثي ثانيةً الذي لم أكمله، حيث غابت عن مداركك الخديعة التي صبغها الغرب بصبغة مثالية. فالعولمة الغربية الصهيوأمريكية: خدعة وهمية يصعب تحقيقها في زمن العقول الغبية وبين الدول غير المنتجة التي اكتفت بتجارة الموارد الطبيعية.

ورغم ذلك نجد البرجماتيين النفعيين يروّجون لها باسم الوحدة الإنسانية في الثقافات الآسيوية والأفريقية، وبين الأقطار العربية وغرضهم هو تفكيك القوميات والعصبيات وأصحاب الديانات حتى لا تهدد مصالح السادة الذين يخططون في الوقت نفسه لتفريقهم وإعادة تقسيمهم لفرق ومذاهب وطوائف يتعذر تآلفها واجتماعها. أمّا تشكيل الاتحادات وعقد الاتفاقيات والتناغم في الآراء والتكامل في المصالح، وتوقيع التحالفات فلا يصلح في نظرهم إلا للأكابر المنتجين أصحاب الثروات والمخترعات وقادة العالم الراشدين.

وأضاف كُتاب قاموس العالم الجديد: إنّ هذه المعاني والدلالات منبثقة من نظرية التداولية، وأنهم صاغوها بدقة واحترافية لحماية مصالحهم وثقافتهم التي لا تدين للولاء إلا للنفعية، - كما قلت - بعيدًا عن المُثل العقلية والقيم الروحيّة والأخلاق الدينية. لذا أضحى لزامًا عليّ مناشدة القراء لغربلة الوافد من المصطلحات والنظريات والمعارف والشائعات والمواقع والقنوات والتطبيقات الالكترونيّة وما تقدمه من معلومات، لفضح الأكاذيب وكشف المكائد والمخططات التي دُست بين النصائح والشعارات، وحسبي أن أفسّر لك وأوضح لقرائنا طبيعة الفلسفة المعاصرة التي انطلقت منها الحروب الدائرة.

فنظرية التداولية - في طورها الثاني - أضحت مستغرقة في الضبابية، وذلك لأنها لم تقف عند الألفاظ والإحالات والدلالات الأسلوبية، بل اجتازت ذلك كله لتنفذ إلى الأفكار والمشاعر والأحاسيس والضمائر، لتبدل ثوابتها وتفككها من روابطها، وجعلت الأكاذيب والمغالطات المنطقية من أوائل أسلحتها الخفية، المدعومة بالدعاية والإعلانات الموجهة بأساليب علمية وتقنيات تكنولوجيّة ذلك فضلًا عن تأسيسها جمعيات دولية وعقدها دورات تدريبية لصناعة المشاهير في كل المجالات لغرس القيم والأخبار، في بنية ثقافات الأمم الساذجة، بداية من الأطفال والحرفيين والعمال والطلاب والساسة وانتهاء بالشيوخ والقساوسة والأحبار.

أمّا السلاح الثاني؛ الذي أود أن أحدثك عنه حتى لا تنخدع فيه وتستند إليه في معارفك ومعتقداتك، وفي دراساتك للتاريخ الذي زوروه، فهو يختص ببنية الخطاب الشيطاني، الذي صبغوه بالمسحة العلمية والتصورات الأسطورية، وبالتقنيات التكنولوجية سبكوه. فقد أضافوا لفلسفة حروبهم مبحثين بل قل كارثتين: أولهما مبحث ميتافيزيقا العلوم الأسطورية الذي يهتم بتحديث الأساطير الكلاسيكية في ثوب بريق أخاذ يفوق التصورات الخيالية، اعتمادًا على ما أطلقوا عليه: الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المبهرة، فتتحدث عن العفاريت والجن في نظرية البوابات الأرضية والكائنات الرمادية والروبوتات المحاكية للصورة البشرية، وعالم يأجوج ومأجوج، وهاروت وماروت، والمدن المسحورة، وعجلة التاريخ، والكائنات المخفية غير المرئية، والمهدي الذي آن أوانه، والمسيح والشيطان والإنجيل المفقود، ونسخ القرآن، وسكان الكواكب الفضائية وظهور بعضهم في الواقع بصورة بشريّة. كما أعادوا طبع كتب السحر والاتصال بالكائنات الغيبية مثل كتاب (العزيف) وقاموس (الشيطان) وكتاب (شمس المعارف) وكتاب (مخطوطة نيكروميكون)، ودفعوا معظم مواقع التواصل للحديث عن الأماكن المهجورة التي يخشاها البشر هربًا من قبائل الجن الذين سكنوها، وأحاطوا العرافين والمتنبئين المعاصرين بهالات من التبجيل باعتبارهم علماء العصر وأرباب الكرامات التي تصدق تنبؤاتهم وعلى الجدران محفورة، وذلك كله بالإضافة إلى ابتداع ديانات عبثية وفوضوية جديدة وإحياء الهرطقات القديمة، وادعاء أن مكتبة الفاتيكان تحوي عشرات الكتب والمقدسات المحظورة، التي ينبغي إعادة نشرها للوقوف على حقائقها الملية التي ما زال المتدينون يعانون من تحريفها وضياع أصولها.

وثانيهما: مبحث كيمياء الفكر: الذي يسبك الواقع بالخيال ويخلط الحق بالباطل والعلم بالخرافة بنسب ومقادير أقرب للمعادلات الكيميائية لكي يتمكن هذا النهج من خداع الذهن وإرباك أحكامه العقلية والمشاعر النفسية والقضاء على البصيرة الروحية. ذلك المبحث الذي يقوده كبار المتخصصين في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللغات الكلاسيكية، والآثار والتاريخ والتمثيل والموسيقى والإخراج السينمائي والديانات والملاحم الأسطورية  بالإضافة إلى المتخصصين في تكنولوجيا الصور وتزوير المخطوطات وتزييف الوثائق وخبراء في الحروب السيبرانية لتدمير البرامج الإلكترونية؛ وذلك كله لحبك الأكاذيب وتدعيم الشائعات بحجج تلفيقية تؤيد المحتوى الذي يروجون له في الثقافة العالمية.

ولا ننسى يا صديقي أن دستور هذه السفسطة الشيطانية محمول على قاعدتين أولهما: أن قوة الأكاذيب ليست في براعة حبكتها بل في انتشار مزاعمها، وذيوع أخبارها، لكي تصبح شائعة تلوكها الألسن وتعتادها المسامع فتحسبها الأذهان واقعات من فرط تكرارها حتى تُمسي حقيقة ومرجعية تساندها ادعاءات لها مسحة علمية وتصورات ميتافيزيقية وأصول تاريخية.

أما القاعدة الثانية: فتتمثل في احتكار المقومات المهيمنة على الحروب العصرية وآلياتها من المعارف العلمية وتطبيقاتها وتصنيعها، وقدرتها على الاستئثار بها وقنوات التحكم في الاتصال والإعلان والإعلام ذلك فضلًا عن أخذ الحيطة والتدابير لإخفاء المحركات الفاعلة والعقول المخططة والمصادر الداعمة وأخيرًا : التلويح بالقوة العسكرية التقليدية لردع المخالفين وتصفية المنشقين ومحاصرة المعترضين.

أمّا الحديث عن النوادي الماسونية والجمعيات والمؤسسات التابعة لها والتطبيقات الإلكترونية التي تدار تحت إشرافها، والمواقع الإجرامية التي تحميها، مثل: (الدارك ويب)، والمخدرات الرقمية (i-doser)، والأفلام الإباحيّة وعوالم المتعة التي تروج لها، والمثلية الجنسية التي تدافع عنها، ناهيك عن حفلات الشواذ والملحدين، وغير ذلك من نهوج الشياطين؛ فجميعها تدرج ضمن الحروب الموجهة ضد الإنسانية العاجزة عن المشاركة في الأحداث الجارية أو دفع الأخطار والشرور القاسية تلك التي لم يبق منها سوى اليأس والانهزامية، وانتظار الموت على يد جبابرة العنف والنفعية والشيفونية.

القلم: أيها الكاتب، هذه نهاية مأساويّة لا تليق بمثلك، وأنت من دعاة المقاومة ومساندة النفوس الأبية التي لا ينقصها سوى الوعي والعلم والعمل الجاد وإخلاص النية، فالتنقيب عن النفيس المنشود، وتحسس مكمن العزيز المفقود، والتجسس على الغامض والقابع وراء الأبواب والسدود، وتبين حقيقة الخبر الشائع والمشهود. وذلك لصد هذه الهجمة الشرسة ليستحق لنا العيش في هذا الوجود ونعيد الحق لأهله ويتحقق وعد الله الوارد في الكتاب المعبود.

واعلم أن هذه الحكمة ليست غربية ولا محاكية لتعاليم أجنبية؛ فقد قالها الثعالبي ورفاقه من عباقرة فقه اللغة العربية.

وبهذه الإشارات تمت المقامة؛ فالاستفاضة في الحديث عن الحروب العصرية ليس متاحًا لأن الكاتب ينقب عن المجهول والاجتهاد والتخمين في هذا الموضوع ليس مباحًا.

***

بقلم: د. عصمت نصار

في المثقف اليوم