آراء
عبد السلام فاروق: الهوية اللغوية الموحدة

في كل أمة تُختبر هويتها، تكون اللغة أول الحصون المُستهدفة، وأول الأسوار المُراد إسقاطها. وعلى أرض مصر، التي تنطق بالحياة منذ فجر التاريخ، يتجدد الجدل: هل ما نتحدثه في شوارعنا ومقاهينا "لهجة عربية" أم "لغة مستقلة"؟!
هي ليست معركة أصوات وكلمات، بل معركة انتماء وذاكرة. فاللهجة العامية ليست غريبة عن العربية، بل فرع نابت في شجرة واحدة، يحمل نكهة الأرض وطين النيل، لكنه يرتوي من نبع الضاد.
في هذا المقال، نكشف الزيف، ونردّ الحكاية إلى أصلها.. حيث تبدأ الكلمة من الجذر، لا من الوهم.
لغتنا هويتنا ومعركتنا الأبدية
لم تسلم اللغة، كغيرها من مظاهر الهوية، من محاولات التشويه والتفكيك. فقد ظهرت في السنوات الأخيرة أصوات تدّعي أن العامية المصرية "لغة مستقلة" عن العربية، وكأنها نشأت من فراغ، لا جذور لها ولا تاريخ.
هل من المنطقي الزعم بأننا لا نتكلم العربية؟ أو أن اختلاف بعض المفردات واللهجات يعني القطيعة التامة مع اللسان العربي؟ إنها محاولة مفضوحة لضرب الانتماء وتزييف الهوية الثقافية، تكرار لادعاءات قديمة أرادت أن تفصل المصريين عن عروبتهم، بزعم أنهم "فراعنة فقط"، وكأن العروبة والإسلام يتناقضان مع الخصوصية المصرية!
اليوم تعود هذه المحاولات بثوب لغوي، بادعاء أن ما نتحدثه في مصر ليس له علاقة بالعربية، بل هو "لغة مصرية حديثة". وهذا عبث علمي لا يصمد أمام أي قراءة جادة في التاريخ أو في علم اللغة. إن القول بأن العامية المصرية تمثل "لغة مستقلة" يحتاج إلى استقراء هادئ يستند إلى أدوات العلم، لا إلى الأهواء والأجندات. اللغة كائن حي، تتغير وتتطور، لكن تطورها لا يعني بالضرورة أنها تنفصل عن أصلها.
سنناقش هنا أبرز المزاعم المثارة على منصات التواصل، عبر مراجعة علمية دقيقة لأهم المصادر التي يُستند إليها في ترويج هذه الفكرة الضالة. كما سنبرهن ببراهين دامغة أنها فكرة لا تستحق حتي مجرد النظر أو إعادة تدويرها على الذهن!
أكذوبة مكشوفة
أحد أبرز الادعاءات تقول إن الدكتور إبراهيم أنيس أثبت أن المصريين لا يتحدثون العربية. لكن هذا الادعاء يفتقر للدقة. أنيس، أحد أعمدة علم اللغة في العالم العربي، درس اللهجات العربية، ومن ضمنها العامية المصرية، ضمن الإطار العام للغة العربية.
دراسته رصدت الخصائص الصوتية واللهجية، لكنها لم تقل يومًا إن العامية لغة منفصلة. تمامًا كما تختلف لهجات بلاد الشام أو الخليج، تظل العامية المصرية جزءًا لا يتجزأ من المشهد العربي العام.
آراء فردية شذت عن الإجماع
في كتابه "حاضر الثقافة في مصر" طرح بيومي قنديل رؤيته بشأن خصوصية العامية المصرية، واعتبرها شكلاً من أشكال التعبير الثقافي المستقل.
لكننا أمام رأي فردي، لا يستند إلى إجماع علمي ولا إلى دراسات مقارنة كافية. خصوصية اللهجات لا تعني الانفصال، بل التنوع داخل الوحدة. والفيصل دائمًا هو إمكانية الفهم المشترك، وهي قائمة بوضوح بين المصريين وبقية الشعوب العربية.
توظيف ناقص
محاولة الربط بين اللغة المصرية القديمة والعربية عبر قاموس أحمد كمال باشا تحتاج إلى إعادة تمحيص؛ فالقاموس في ذاته محاولة رائدة، لكنه لا يقدم دليلاً على وحدة الأصل بين اللغتين. فاللغات ـ كما هو معروف في اللسانيات ـ تتأثر ببعضها بفعل التراكم والاحتكاك، دون أن يعني ذلك انحدارها من مصدر واحد. ثم إن المنهجية التي اعتمدها كمال باشا لم تحظَ بقبول واسع، بل واجهت تساؤلات علمية من متخصصين في اللسانيات التاريخية.
الدليل الأول: الديجلوسيا
هناك أدلة كثيرة أسوقها إليكم للبرهنة على ما لا يحتاج لبرهان: أن الفصحي واللهجات العامية، ومنها المصرية، لهم أصل واحد مشترك هو القرآن، مهما زعم الزاعمون غير ذلك.
إن العربية، عالمياً، تُصنّف كلغة "ثنائية اللسان"(diglossic): لها لغة رسمية (الفصحى) وأخرى محكية (اللهجات العربية) تُستعمل في الحياة اليومية. وهناك لغويون مثل "محمود البدوي" يقسمون استخدام اللغة إلى خمس درجات، من "الفصحى التراثية" إلى "عاميات غير متعلمة"، وهذا يؤكد ترابط مستويات مختلفة ضمن نظام لغوي واحد .
ثم إن اللهجات تُستخدم حسب الدرجة الاجتماعية والسياق: العامية للحديث اليومي، والعربية الفصحى للأغراض الرسمية والفكرية. ولم يقل أحد من علماء اللسانيات فى كل العالم أن اللغات ثنائية اللسان تنم عن لغات منفصلة، فلماذا نتبرع نحن بادعائها؟ ولماذا الآن؟!
الدليل الثاني: البنية المشتركة
من حيث "الصوتيات"؛ فإن اللهجات العربية جميعها واللغة العربية الفصحي تستخدم نفس النظام الصوتي الجذري، رغم بعض التغييرات (مثل تحول القاف إلى همزة أو غين في العامية..إلخ). وإذا كانت العامية المصرية تستبدل القاف بهمزة/جيم غنة، لكن النظام الصوتي لا ينفصل، بل يُحوَّل وفق قواعد لهجوية متسقة.
ومن حيث "الصرف والنحو"، فإن العامية رغم تبسيطها نطقاً واستخداماً إلا أنها تحتفظ بالبنية الصرفية والنحوية العربية الأصلية: أفعال ثلاثية، ضمائر، أدوات استفهام... إلخ. وهناك دراسات كثيرة؛ مثل: Arabic Dialects and Classical Arabic Language"" تظهر بوضوح وجلاء أن الهيكل العام بين الفصحي واللهجات العامية متطابق إلى حد كبير فى المجمل، لكن مع اختلافات سطحية لا ترقي إلى حد النظرية العامة.
ومن حيث "المفردات" فإن المفردات الأساسية فى العامية تنحدر بلا خلاف من الجذور العربية، مع كلمات دخيلة هي خليط من التركية والفارسية والإنجليزية والقبطية والفرنسية، وكما هو واضح أن التأثر هنا لا يعود إلى الجذور الفرعونية كما يزعمون، وإنما للاستعمار. وهو تأثر يشبه تأثير التوابل فى الطعام، لا يغير ماهية الطعام، وإنما يزيده شهية!
ودعونا نتساءل هنا: إذا كانت نية الزاعمين حول انفصال العامية المصرية عن لغتنا العربية الفصيحة نية سليمة لا تشوبها شائبة، فلماذا تمسكوا بقاموس أحمد باشا كمال، وهو ليس دليلاً على شئ، ولم يذكروا شيئاً عن معجم اللغة العامية لأحمد تيمور، رغم تأكيده الدامغ على الصلة الطبيعية بين العامية المصرية وبين العربية الفصحي؟!!
الدليل الثالث: دليل تقني
هناك نظم تقنية وأبحاث خاصة بالشبكة العصبية للذكاء الاصطناعي، استطاعت الربط بين اللغة العربية الفصيحة المكتوبة وبين العامية،وجرب بنفسك أن تتحدث مع شات جي بي تي باللغة العربية الفصحي فسيخاطبك بها تلقائياً، وإذا غيرت لهجتك للعامية المصرية فسوف يغير لهجته بالتبعية؛ لأن النظامين اللغويين لديه مرتبطان بنظام لغوي واحد.
وهنك أبحاث لغوية كثيرة قامت وكُتبت حول هذا الأمر، منها:
- دراسة دكتور خالد شعلان، بالجامعة البريطانية فى دبي 2007: عرضت نظامًا لتحويل العامية المصرية إلى فصحى آليًّا، مما يدل على وجود علاقة معجمية ونحوية مباشرة.
- دراسة أشرف النجار بالشارقة 2021: لاحظت الدراسة أن الفصحى والعامية كلتاهما تشتركان في الشكل اللغوي، لكن الاختلاف واضح في التفصيلات؛ ورغم اختلاف اللهجات جداً، إلا أن دراستها موحدة ضمن المنظومة العربية.
المنطق والسياق التاريخي
بعيداً عن مهاترات التريند، دعونا نلجأ للسياق التاريخي لتطور اللهجة المصرية؛ فبعد الفتح الإسلامي، دخلت العربية مصر وانتشرت بالتدريج، واثرت وتفاعلت مع القبطية. لبثت عدة قرون قبل أن تتبلور إلى العامية المعروفة اليوم. هذه التطورات تعكس نمط تطور طبيعي داخل اللغة، لا انفصالاً كاملًا. فالمعروف ثقافياً أن اللغة كائن حي متجدد.
الآن نلاحظ أن اللهجات المصرية مفهومة في غالبية العالم العربي نظرًا لانتشار الإعلام المصري: أفلام، مسلسلات، موسيقى. ألا يؤكد لنا الفهم المشترك بين اللهجات (مثل المصرية، الشامية والخليجية) أن النبع لهذه اللهجات هو نبع واحد مشترك؟! هذا بديهي، وهو فهم يعزز وجود "لسان عربي مبين" وهو لسان مشترك متعدد اللهجات وأساليب النطق.
كالشمس أو كالنجوم
هي حقيقة مؤكدة كالشمس الساطعة فى يوم صائف. لكنهم يريدون، لغرض فى نفوسهم، ليّ عنق الحقائق. وإذا أردتم دلائل إضافية، عالمية هذه المرة، فدعوني أوضح لكم حقائق مستقرة فى عرف المسلمات الأكاديمية حول بنية اللغات:
1. البنية اللغوية: اللهجات تشكل امتداداً للفصحى، لا كيانات مستقلة.
2. الأساس المشترك: اشتراك اللهجة واللغة بنيوياً يحول دون انفصالهما بداهةً.
3. إمكانية الترجمة: نجاح عمليات التحويل الآلي بين اللهجة واللغة المرتبطة بها يعني بالتبعية أنهما من أصل واحد.
4. الإجماع العلمي: أغلب الدراسات الأكاديمية تعتمد على الفرضية الرحبة بوجود تنوع لهجي محفوظ ضمن نسق لغوي موحد. لا يوجد دليل على استقلال تام للهجات.
إن العامية المصرية ليست “لغة منفصلة”، بل إحدى لهجات العربية، تشترك معها في الجذور، والقواعد، والكثير من المفردات. والتنوع اللهجي يعزز ثراء اللغة، ولا يقلل من انتمائها إلى العربية الفصحى، بل يضفي عليها طابعًا محليًا يثريها ثقافيًا ولا ينفي شمولها الحضاري.
إنني أقولها بوضوح: كفى تضليلًا! كفى عبثًا بلغة هي وعاء حضارتنا، ولسان تراثنا، وجسر تواصلنا مع إخوتنا العرب!
***
عبد السلام فاروق