آراء
المولدي فرّوج: بين الدين والدولة وبين اللائكية والعلمانية

يبدو أن الخوض في موضوع العلمانية من طرف بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء قد قاد البعض الى خلط كبير زاد المفهوم ضبابية وعاد بنا الى الدرجة الصفر من الدّراسة والتحليل ومحاولة الكشف. إذ ان كثيرا من المقالات التي تناولت الموضوع خلطت بين العلمانية واللائكية واعتبرتهما، اصطلاحا على الأقل، الشيء نفسه. وفي اعتقادي أنهما مختلفتان تماما سواء في المفهوم او حتى في زمن الظهور فالعلمانية ظهرت عند الفلاسفة اليونانيين قبل الميلاد داعية الى إعطاء الانسان حقّه في وضع نظم وقوانين وتشريعات تمكّنه من تصريف أعماله وتحديد قيم الخير والشر والمصالح والمضارّ، دون اعلان حرب مقدّسة على المقدّسات ودون صراع ضدّ الدّين الذي لا يتعارض، حسب رأيهم مع هذه الدعوة.
في اعتقادي ان الإسلام دين علماني، يتجلى ذلك من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان من أوائل العلمانيين وسأبين ذلك بعد أن أذكّر بأن العلمانية (بكسر العين أو بفتحها) هي عقليّة (état d’esprit) ومبدأ أو نظام سياسي أو طريقة تسيير وتسييس وليست منهجا أو دينا يدين به أتباع وهي تعني أيضا الدنيويّة أو الدّهرية وتتلخّص في كونها طريقة تمكّن الانسان من استثمار معارفه التي جمعها وحفظها عن طريق المعرفة والعادات والتقاليد والعائلة والمجتمع والتربية المدنية والتربية الدينية واستعمالها قصد القيام بشأن دنيوي يعني تسيير شؤون الحياة بما في ذلك أداء الشعائر الدينية. بلغة أكثر بساطة وأكثر وضوحا يحتاج المسلم الى العلمانية كما يحتاج الى المعرفة للقيام بواجباته الدينية. قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" ولعلّ هذا الحديث النبوي الشريف خير دليل على اللقاء الثلاثي: العلم، الدين، الشأن الدنيوي. لهذا سمى بعضهم العلمانية بالدنيوية (secularism).
أما اللائكية (laicus) فقد ظهرت في أوائل عصور النهضة في أوروبا احتجاجا على الكنيسة التي كانت تحتكر السلطة. فجاءت لتمنع الحاكم من استخدام الدين لفرض سيطرته على الشعب شعارها: لا تحكمني باسم الدّين. وكما نرى ونفهم أن منع استخدام الدين في سياسة الشعب لا يعني انكاره أو محاربته وانما عدم العمل به في سن القوانين المنظمة للدولة ولا تعني أيضا اقصاءه من حياة الناس فالفرد حرّ في اعتناق الدين الذي يريد وفي ممارسة طقوسه وعبادة ربّه. ولعلّ في دعوة الإسلام الى العلم والعمل دعوة الى اعمال العقل والتفكير" ورد في القرآن: "اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم". و"انما يخشى الله من عباده العلماء". و"يرفع الله الذين امنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" و" قل ربي زدني علما" ونجد في الحديث: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. و" من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع". و" من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له به طريقا الى الجنة".
لا يشك أحد في ان الإسلام دين علم وعمل ولا يتأتى العمل الا بالمعرفة وان الفعل في الأرض والمجتمع هو الذي ينفع الانسان وان العلم يقربه من الله وان إدارة الشأن العام بالعقل لا يتناقض مع الايمان بالله بل يزيد الامة قوة.
ألم تشكّل الصحيفة التي صاغها الرسول في المدينة اول دستور مدني وعلماني عالج من خلاله قضايا تنظيمية إدارية دون مساس بالعقيدة وأنشأ بها مفهوم الأمة والدولة المدنية وأعطى الأولوية في تسييرها الى العقل والحكمة فتعامل مع اليهود في المدينة كما يفعل رجل الدولة المتبصّر الحكيم.
أردنا في هذه السّطور دعوة الباحثين الى مزيد من الغوص في المفهومين وعدم الخاط بين اللائكية والعلمانية.
***
د. المولدي فرّوج