آراء
إبراهيم برسي: الإخوان المسلمون.. نقد ما بعد السرد، قراءة في البنية العميقة

خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (5)
ليست هذه الخاتمة مجرّد إغلاق لسلسلة بدأت قبل أشهر؛ إنها محاولة لتجاوز الخطّ المستقيم للسرد نحو فضاء أكثر تعقيدًا: فضاء التفكيك. فالإخوان المسلمون، وقد عبروا قرنًا من الزمن منذ تأسيسهم عام ١٩٢٨، لم يعودوا مجرد حركة سياسية، بل تحولوا إلى أثر لغوي، إلى طبقة رسوبية من الخوف والرموز، تُعاد صياغتها كل مرة بأدوات مختلفة، لكنها تظل مشدودة إلى مركز واحد: الوعد بالسلطة باسم المقدّس.
وما بين الوعد والقداسة تقوم آليةٌ رمزية دقيقة يمكن تسميتها “اقتصاد المعنى”: حيث تُحوَّل الخسارة إلى رأس مالٍ دعائي، وتُعاد فهرسة الهزائم بوصفها إشارات عناية. بهذا يضمن التنظيم بقاء المخيال مشتعلًا ولو انطفأت الأفعال، إذ تغدو السردية أهمّ من الواقع، واليقين أهمّ من البرهان، والهوية أعلى من الدولة. ثمّة تحويل دائم للسياسي إلى لاهوتي، وللاهوتي إلى تقنية للتعبئة، فيتشابك العقائدي بالعملي في بنية نفعية تُحسن استثمار الخوف والأمل معًا.
حين نتأمل مسار هذه الحركة، ندرك أن أخطر ما فيها ليس اغتيالها المباشر ولا صفقاتها السرية، بل قدرتها على “تكرار ذاتها” بوصفها ذاكرة جمعية. فالطفل الذي يدرس في مدارسها، أو يشارك في معسكراتها الصيفية، لا يتعلم فقط نصوصًا دينية، بل يتشرّب تصورًا كاملًا للزمن: أن التاريخ يبدأ من الإسلام وينتهي عند الخلافة، وأن الحاضر مجرد معبر ناقص نحو ذلك “الموعود”. هنا يتحول الزمن إلى دائرة مغلقة، يُلغى فيها المستقبل لصالح ماضٍ مؤجل. هذا الاختزال للزمن هو ما يجعل الحركة عصية على الهزيمة؛ فهي دومًا قادرة على إعادة تعريف الخسارة باعتبارها “ابتلاء”، والانكسار كونه “تمهيدًا للنصر القادم”.
على مستوى اللغة، نجح الإخوان في إنتاج قاموس خاص، يتحرك بين الدعوي والسياسي. كلمات مثل “التمكين”، “المفاصلة”، “السمع والطاعة” لم تعد مفردات داخلية، بل تسربت إلى الخطاب العام، لتعيد تشكيل الوعي السياسي والديني لدى شرائح واسعة. الخطر هنا أن اللغة نفسها تصبح أداة للهيمنة: فهي لا تشرح الواقع بل تُعيد صياغته وفق منطق الجماعة. وما دام القاموس حاضرًا، فإن الفكرة تظل قادرة على العودة، حتى إن تفككت البنية التنظيمية.
ومن ثمّ فإن القاموس الذي راكمته الجماعة لا يقدّم معاني فحسب، بل يفرض “قواعد قراءة” تجعل أي مفهوم خارج سياق التنظيم مريبًا: الحرية تُقرأ “انفلاتًا”، التعددية “تذررًا”، النقد “تطاولًا على المقدّس”. هذه هي بنية العنف الرمزي: السيطرة ليست في المنع الصريح دائمًا، بل في صوغ عين القارئ وأذن السامع بحيث لا يرى ولا يسمع إلا ما يكرّس السردية المهيمنة. لذلك استمر حضور مفردات مثل “التمكين” و”المفاصلة” حتى عند خصومهم، إذ انزلقت اللغة العامة إلى ملعبهم دون وعي.
لكن اللافت أن الجماعة لم تكتفِ بالسيطرة على اللغة والزمن، بل حاولت أن تُعيد صياغة صورة الجسد. الجسد هنا ليس بيولوجيًا فقط، بل سياسيًا ورمزيًا. فالفرد الإخواني يُدرَّب على أن يكون “جسدًا منضبطًا”: صوته مضبوط، ملبسه مضبوط، سلوكه مضبوط، وحتى انفعالاته مكبوحة باسم الجماعة. هذه السيطرة على الجسد الفردي هي المدخل للسيطرة على الجسد الاجتماعي. وحين خرجوا في رابعة العدوية مثلًا، لم تكن مجرد مظاهرة، بل كانت عرضًا هائلًا للجسد الجماعي، جسد يُقدَّم كضحية وكجيش في آن واحد.
ويتجلّى ذلك في “تقنية الجسد” التي تُدرَّس ضمنيًا: مواعيد محددة، لباس موحّد الإيحاء، نبرة صوتية متشابهة، اقتصاد في الحركة، وميل إلى محو الفروق الفردية لصالح صورة الجندي الحزبي. حين يظهر الحشد في الفضاء العام، كما في رابعة، فإننا أمام عرضٍ مسرحيّ للجسد الجماعي أكثر منه فعلًا احتجاجيًا محضًا: منصّات، أناشيد، رموز، إشارات يد، لغة لونية، توزيع للأدوار بين دعاة وحرس ومُنشدين. العرض لا يخاطب الدولة فقط، بل يخاطب العضو ذاته كي يرى نفسه جزءًا من “أمّة مصغّرة” مكتفية بذاتها.
بعد ٢٠١٣، ومع ضربات الإقصاء والتشظي، تحوّل التنظيم الدولي إلى ما يشبه “شبحًا متحركًا”. في لندن وبرلين وجنيف، صارت له مؤسسات ومراكز بحثية تحمل واجهات مدنية، لكن جوهرها ظل إعادة إنتاج السردية القديمة: نحن ضحايا، نحن البديل. في إسطنبول والدوحة، جرى الاستثمار في الإعلام الفضائي والرقمي. من “يوتيوب” إلى “تلغرام”، ومن البث المباشر إلى مقاطع “تيك توك”، استخدم الإخوان الأدوات الجديدة لتغليف خطاب قديم. لكن المفارقة أن هذه الوسائط، بدل أن تمنحهم شرعية، فضحت تهافتهم: فالشباب الذي شاهد محاولاتهم لم يعد يرى فيها سوى نسخة رديئة من دعايات الحرب الباردة.
وفي الفضاء الرقمي بعد ٢٠١٣، تعلّم التنظيم كيف يشتغل بمنطق الخوارزميات: مقاطع قصيرة عالية التأثير، عناوين صادمة، إعادة تدوير اللقطات القديمة بكادرات جديدة، توظيف المؤثرين الصغار في الجاليات، واستثمار غرف الدردشة المغلقة لتكثيف “الإحساس بالصحبة”. ليس المقصود إقناع الخصوم، بل بناء غرفة صدى لأتباع محتملين عبر جرعات صغيرة متتابعة من المظلومية والحنين. هنا يتحوّل الهاتف إلى محرابٍ شخصي، ويتحوّل البثّ المباشر إلى منبر متحرك يختصر الطريق بين “الأمير” والقاعدة.
أما في أوروبا بعد ٢٠١٣، فقد اتسعت “المنطقة الرمادية”: جمعيات ثقافية وتعليمية وخيرية تبدو مدنية مئة بالمئة، لكنها تؤدي عمليًا وظيفة إعادة تدوير الشبكات والشرعية. الخطاب الموجّه للخارج ليبرالي مطمئن، والخطاب الداخلي تعبوي مغلق. وبين الخطابين تُدار لعبة قانونية دقيقة تستثمر هوامش الحرية والتمويل العابر للحدود. هذه الازدواجية لا تُنتج مواطنة مزدوجة بل هوية معلّقة، يستفيد منها التنظيم كاحتياطي للكوادر والخطاب.
النقد الأعمق هنا أن الجماعة تحولت إلى “بنية طفيليّة”، تعيش على كل فشل سياسي أو اقتصادي في المنطقة. فإذا انهارت دولة، قفز خطابهم كبديل. وإذا فشلت ثورة، ادّعوا أنهم الطريق الصحيح. وإذا انقسم المجتمع، لبسوا ثوب الوسيط. هذه الطفيليّة تفسر استمرارهم رغم السقوط المتكرر: فهم لا يملكون مشروعًا، لكنهم يتغذون على غياب المشروع عند الآخرين.
وعندما تنسدّ طرق الحكم أو المشاركة، تتبدّى “الطفيلية السياسية” كآلية بقاء: الدخول من ثغرات المجتمع الأهلي، ركوب موجة العمل الخيري في الأزمات، التخفّي خلف واجهات حقوقية، تقديم خدمات تعليمية أو صحية بديلاً من الدولة، ثم تحويل الحاجة إلى ولاء. إنها إدارة للأزمة لا حلّ لها؛ فبدل أن تُبنى الدولة تتضخّم الشبكات، وبدل أن تُصلح المؤسسة يُستثمر انهيارها. لذا بدت الجماعة قادرة على النجاة في الخراب، لكنها عاجزة عن البناء في الاستقرار.
من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن القول إن الجماعة صنعت ما يشبه “المصدّ” النفسي لأعضائها: كل نقد خارجي يُترجم فورًا إلى عداء للإسلام، وكل مساءلة تتحول إلى “حرب على الدين”. بهذا الشكل، يُحصَّن الأعضاء ضد الشكوك، وتُغلق الدائرة hermetically. هذه التقنية النفسية تجعل الخروج من الجماعة أكثر صعوبة من الدخول إليها، لأنها تقدم معنى جاهزًا للعالم: ثنائية الأبيض والأسود، الخير والشر، نحن وهم.
نفسيًا، يقوم البناء على ثلاث ركائز: أولًا “التنافر المعرفي” حيث يُعاد تأويل الوقائع المزعجة لتلائم العقيدة؛ وثانيًا “التفكير المؤامراتي” بوصفه مسكّنًا جاهزًا لأي فشل؛ وثالثًا “تكلفة الخروج” العالية، إذ يرتبط العضو بسلسلة علاقات وذكريات ومعانٍ تمنع الانفصال. إن من يهمّ بالانسحاب لا يخسر جماعة فحسب، بل يخسر عالمًا لغويًا كاملاً يوفّر له معنى الوجود. ومن هنا يصبح النقد غسلًا للولاء، والمراجعة خيانةً للدموع التي ذُرفت في ساحات التنظيم.
الفلسفة هنا تفرض سؤالًا آخر: هل يمكن الحديث عن الإخوان باعتبارهم “مشروعًا سياسيًا” أصلاً؟ أم أنهم مجرد جهاز لإعادة إنتاج الطاعة باسم الدين؟ الواقع يشير إلى الاحتمال الثاني. فحين ننظر إلى تاريخهم، نجد أن كل مرة اقتربوا فيها من السلطة انتهوا إلى إعادة إنتاج الاستبداد: من تجربة السودان، إلى مصر بعد ٢٠١٢، إلى تونس ما بعد الثورة. لم تكن المشكلة في نقص التجربة فحسب، بل في طبيعة البنية: أي مشروع يقوم على إلغاء الفرد لصالح الجماعة، وعلى إلغاء المجتمع لصالح التنظيم، لا يمكن إلا أن ينتهي إلى نسخة أخرى من الاستبداد.
اليوم، بعد قرن تقريبًا من ميلاد الجماعة، يمكن القول إن مشروعها يعيش أعمق أزماته. فالشباب العربي، الذي خرج في شوارع ٢٠١١ مطالبًا بالحرية والعدالة، لم يعد يرى في الإخوان سوى وجه آخر من وجوه الأزمة. التجربة المباشرة مع حكمهم، في مصر وتونس والمغرب والسودان، أظهرت أن الشعارات لا تكفي، وأن ما وراء “الإسلام هو الحل” فراغ هائل. لهذا لم يعد السؤال: “هل سيسقطون؟” بل: “ماذا سيبقى منهم بعد السقوط المتكرر؟”.
ومن زاويةٍ سوسيولوجية أوسع، يغدو جيل ما بعد ٢٠١١ أقلّ قابليةً للسحر الشعاراتي وأكثر حساسيةً لقضايا الكفاءة والشفافية والمساواة الجندرية والعدالة المعيشية.
إن إحساسًا متزايدًا ولد من الحروب الأهلية والانهيارات الاقتصادية بأن “الدولة الدينية” ليست خلاصًا بل “مسرّعًا للفشل”، وبأن الطريق إلى الكرامة يمر عبر عقدٍ اجتماعي يساوي بين الناس لا عبر تعميد السياسة بالمقدّس. لذا تراجعت قوة الخطاب الوعظي لصالح مطالب ملموسة: مدرسة جيدة، مستشفى متاح، شغل كريم، قضاء مستقل، وإدارة لا تُذلّ المواطن.
الخاتمة إذن ليست حُكمًا نهائيًا بل دعوة للتفكير. الإخوان المسلمون ليسوا مجرد فصل في تاريخ السياسة العربية، بل مرآة لانكساراتنا الكبرى: عجزنا عن بناء عقد اجتماعي، ضعف مؤسساتنا، خلطنا بين المقدس والزمني. وما لم ننجح في معالجة هذه الجذور، سيظل أثرهم يتكرر، حتى وإن انهار التنظيم نفسه.
وقبل أن نطوي هذه الوقفة، يجدر التأكيد أن المقصود من هذا التفكيك ليس تصفية حسابات مع الماضي بقدر ما هو اقتراحٌ لمستقبل قابل للعيش.
إن بناء سرديةٍ بديلة يتطلب لغةً جديدة لا تقوم على الثنائيات القاتلة، بل على التنوّع الخلّاق؛ ويتطلب مؤسساتٍ قادرة على مراكمة الثقة لا على ابتزاز العواطف. عندها فقط تنكسر الدائرة، ويستعيد الزمن العربي مستقبله بدل الدوران الأبدية حول ماضٍ يُستدعى لتبرير حاضرٍ مأزوم. بهذا نكون قد أنهينا هذه السلسلة المكوّنة من خمسة أجزاء عن الإسلام السياسي والإخوان المسلمين. لم يكن الهدف مجرد أرشفة الوقائع، بل محاولة لفحص البنية العميقة التي جعلت هذا المشروع ممكنًا وخطيرًا في آن. وهذه الوقفات الخمس ليست سوى تلخيص أولي لكتاب أوسع، اعتمدت فيه على مراجع موثوقة، وهو الآن قيد المراجعة قبل أن يُدفع به للنشر.
لعل الغاية النهائية من هذا الجهد أن نفتح نقاشًا يتخطى الإدانة السطحية، ليعيد مساءلة العلاقة المعقّدة والملتبسة بين الدين والسياسة، بين النص والحرية، بين منطق الطاعة ومنطق المواطنة.
***
إبراهيم برسي