آراء

جمال العتابي: وهمٌ.. اسمه قدر الشعوب!

يبدو أن هذا القدر في الشرق' أن تدفع الشعوب دائماً ثمن الحماقات الكبرى. ليس لأنها أقل شجاعة أو أضعف إرادة، بل لأن السياسي ـ حين يتوهم أنه صانع قدر ـ يحوّل الأرض إلى ساحة تجارب، والإنسان إلى وقود لمغامرة تنتهي دائماً إلى الرماد.

منذ أن تعلّم الإنسان أن يقود الجماعات باسم السلطة أو الدين أو الشعار، دفع الأبرياء ثمن المغامرات الكبرى. التاريخ ليس كتاب حكماء، بل سجلّ طويل من حماقات الساسة وطيش القادة الذين باعوا شعوبهم في سوق الأوهام.

في غزة اليوم، كما في قرطاج القديمة أو في أهوال الحربين العالميتين، يموت الناس ليبقى الحاكم أو ليحفظ الزعيم “صورته”. أي معنى أن يُساق شعبٌ كامل إلى موت لا يملك منه إلا الصبر والدموع؟ بينما تُعقد التسويات بعد ذلك على موائد الغرباء، فيُمحى الدم من الذاكرة السياسية وكأنه حبرٌ على ورق؟

في رواية دوستويفسكي: "الأخوة كرامازوف" يكتب عن "جريمة لا مبرر لها"

وثمة حوار بين البطل وأخيه الراهب "أليوشا" حين يعلن إيفان اعتراضه على وجود إله عادل يسمح بعذاب الأطفال الأبرياء:

"لماذا يجب أن يدفع الأطفال ثمن ما لم يرتكبوه؟

لو يبنى العالم على دمعة طفل بريء، فما حاجتي إلى هذا العالم كله؟

لا أقبل أن تشترى سعادة البشرية كلها بثمن دمعة طفل واحد يعذّب حتى الموتّ"

فما بالك بأطفال غزة الذين يأخذهم الساسة لقتال "الغزاة" ثم يذبحون؟ أي عبث هذا الذي يجعل دماءهم طريقاً لخطاب سياسي يُلقى على المنابر يطالب فيه بالخبز للفقراء؟

منذ قرون، حين قاد الطغاة حروباً عبثية، ليست لنا ناقة في رحاها ولا جمل، خاضها المستبدّون مبتكرين طرق القتل والعذاب. كانوا يتشابهون في النتيجة: المدن تحترق، والأطفال يُولدون ليكونوا جنوداً في معارك لم يختاروها. وكأن البشرية لم تتعلم أن الدم لا يورث إلا الدم، وأن الكبرياء الزائف ينقلب سريعاً إلى هزيمة فادحة.

لقد خبرنا هذا النمط مراراً. حينما أرسل نابليون آلاف الجنود ليموتوا في جليد روسيا، وفي القرن العشرين، وقف هتلر يَعدُ الأمّة بالسيادة الأبدية، فترك ألمانيا أنقاضاً وخراباً، بينما انتحر في قبو بارد.

اليوم، يتكرر المشهد في غزة: يُضحّى بالشعب ليُثبت القائد أن العقيدة ما تزال صامدة! ثم ينكسر المشهد فجأة، فيُسدل الستار على تفاوض أو استسلام متأخر على طاولة المساومة؟

السياسة حين تتحول إلى جنون شخصي أو مغامرة حزبية ضيقة، لا تختلف عن مأساة "أوديب" الذي عَمِيَ وهو يظن أنه يقود شعبه إلى الخلاص. في الأدب.. تنتهي الكوارث في النص. بينما تنتهي في غزة بجثث على الأرصفة، وبيوت محروقة أطفال مشردون تقتلهم الصواريخ أثناء تدافعهم للحصول على كوب حليب.

في المآسي الكبرى، لا تكمن الكارثة في الحدث، بل في التوقيت، أن تعرف الحقيقة لكن بعد فوات الأوان، ودفع الثمن. لم يُهزم "أوديب" بل كان باحثاً عنها، فهو لا يهرب حين تقترب الكارثة، يسعى إليها بقدميه، يجبر نفسه أن يعرف، حتى حين تكون المعرفة قاتلة.

هكذا ضيّع صدام حسين جيلاً كاملاً من العراقيين في حروب لا ضرورة لها. كل ما شيّده الإنسان على هذه الأرض ضاع بغمضة عين، واستنزف القذافي ثروة ليبيا ليتركها صحراء مفتوحة للخراب. وهكذا، مرة أخرى، يترك الساسة أهل غزة يواجهون قدرهم وحدهم، ليكون الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذا الشرق.

المأساة ليست في موت الأبرياء وحدهم، بل في "الاستسلام " ما جدوى البطولة إذاً؟ ما جدوى عناد لا ينتهي إلا بخضوع؟ ووهم "الانتصار" ما زال يردده "القادة" لتمرير الأكاذيب والخداع على الناس البسطاء!

سيبقى السؤال قائماً: لماذا تتكرر الحماقات؟

ربما لأن السياسيين – كما وصفهم تولستوي – "لا يفكرون، ولا يجرؤون على التفكير فيما يفعلون، لقد خُدعوا منذ الطفولة حتى صاروا يؤمنون أن الطاعة واجب مقدس" أنهم أغبياء إلا بعد أن يكتب التاريخ فصل النهاية. لكن التاريخ لا يكتب بالمداد وحده، بل بالدم، وهذا الدم هو دم أهلنا في غزة اليوم. ليتهم تركوا الشعب يكتب تاريخه وحده!

في النهاية، يبقى السؤال الذي لا يزول: ما معنى الموت حين يكون عبثاً؟

لقد علّمتنا التجارب أن الدم لا يُثمر حياةً، بل يحصد موتاً آخر. ومع ذلك، يعيد الساسة الدورة نفسها، كأنهم عُميٌ يسيرون في دروب معتمة، يقودون أُمماً بأكملها إلى هاوية يصرّون على تسميتها “قدر الشعوب”.

إن ما يجري ليس مجرد حدث سياسي، بل مأساة وجودية: كيف يُترك الإنسان ـ وقد مُنح الحياة مرة واحدة ـ فريسة للجنون الذي يسمونه سياسة؟ كيف يُكتب قدره بيد غيره، وتُحجب عنه أبسط حقوقه في أن يعيش بسلام؟ كأننا أمام مسرحية تراجيدية متكررة، بطلها الشعب دائماً، وضحيتها الأبرياء، أما المخرج فهو الغرور الذي يلبس قناع البطولة.

وما القدر في الحقيقة إلا ما نصنعه بعقولنا وضمائرنا. حين يصير الموت هو اللغة الوحيدة، والتاريخ مجرد كتاب جديد يكتبه الدم.

***

د. جمال العتابي

في المثقف اليوم