قضايا
علي حسين: لماذا يؤرّقنا سؤال: معنى الحياة؟

في رواية "سدهارتا" للألماني هرمان هسه، يصل راهب في مظهر متسول الى المدينة ويقع في حب فتاة جميلة، وعندما حاول استمالتها سألته: ماذا يمكنك أن تفعل؟ فأجاب: أنا اعرف اصوم وأتامل وانتظر. ولكن ما فائدة التفكير والانتظار والصيام، إن لم تكن حياتك سعيدة؟ يتأمل " سدهارتا " في سؤال الجميلة " كاملا " ويتساءل: هل حقا فقد سعادته؟. يكتب عالم النفس فيكتور فرانكل في كتابه " الإنسان والبحث عن المعنى " ان القوة التحفيزية الاولى للبشر هي النضال لإيجاد معنى لحياتهم: " لا ينبغي للإنسان أن يسأل عن معنى حياته، بل عليه أن يدرك أنه لا يمكنه أن يرد على الحياة إلا من خلال الإجابة عن حياته الخاصة " – الإنسان والبحث عن المعنى ترجمة عبد المقصود عبد الكريم -
وصل فكتور فرانكل إلى فلسفة معنى الحياة نتيجة لتجارب حياتية مرعبة، فقد كان سجيناً في معسكرات الاعتقال النازية، فقد زوجته ووالديه، هناك وجد نفسه مجرد رقم في معسكر يسير الناس فيه بأجساد تغطيها خِرق بالية، يعيش الواحد منهم على رغيف يابس: " لم أكن سوى الرقم 119 و104، ولم نكن نحمل أي وثائق، فيكفي كل فرد أن يملك جسده ورقمه " – سؤال الحياة ترجمة احمد الزناتي - عام 1945 يتم تحرير فرانكل من معسكر الاعتقال ليعود الى مدينته فينا وهو يحمل معه سؤال طارده اثناء فترة اعتقاله: " لماذا لم ينتحر برغم كل ما تعرض له من مآسي والآلام، فقد جميع افراد عائلته، تعرض لشتى صنوف التعذيب والمهانة؟. في البيت الذي ولد فيه، وشهد شغفه بالقراءة، جلس السجين السابق فكتور فرانكل وقد بلغ من العمر الآن " 40 " عاما، ليكتب تجربته عن النجاة والبقاء على قيد الحياة، وعن المعاناة التي تعرض لها، وعن مصادر قوته من أجل البقاء على قيد الحياة، ونجده وهو يتحدث عن تجربته في كتابه الشهير " الإنسان والبحث عن المعنى " يستشهد بكلمات نيتشه التي يقول فيها: " من لديه سبب للحياة يمكن أن يتحمل أي شيء تقريبا مهما يكن ". يرى فرانكل ان اعظم مهمة لأي شخص في الحياة تتمثل في أن يجد معنى في حياته. وقد رأى فرانكل ثلاثة مصادر لمعنى الحياة: في القيام بعملك باخلاص وتفاني، في الحب والاهتمام بالآخرين، في الشجاعة اثناء الاوقات العصيبة، وهذه المصادرة الثلاثة هي التي تمنحنا السعادة. يكتب سينيكا: " حتى العيش يمكن أن يكون تصرفاً شجاعاً ". اعتاد علماء النفس جعل السعي وراء السعادة محور نظرياتهم التي تتعلق بالسلول الإنساني. كتب سيجموند فرويد: " لقد طرحت مسألة الغاية من حياة الإنسان مرات لا تحصى ولا تعد. غير انها لم تصل إلى اجابة شافية.. لهذا دعونا ننتقل إذن الى السؤال الأقل طموحاً والمتعلق بما يظهره البشر من سلوك يعكس هدفهم وغايتهم من الحياة ويتمنون تحقيقه؟ إن الإجابة عن هذا لا جدال فيه، إنهم يسعون وراء السعادة، ويرغبون أن يصبحوا سعداء دائما " – الموجز في التحليل النفسي ترجمة سامي محمد علي –
بعدما خرج فيكتور فرانكل من المعتقل، ظل يطرح على طلبته سؤال: " لماذا يتمكن البعض من النجاة ؟ ولماذا يعجز آخرون عن ذلك؟، ما الذي حدث في داخلي كي اخوض هذه الرحلة الطويلة للخروج من الجحيم؟. يجيب فرانكل: " كل يوم كل ساعة تتاح لك فرصة لاتخاذ قرار، قرار يحدد ما إذا كنت ستخضع أو لا لتلك السلطات التي تهدد بسلب ذاتك، حريتك، قرار يحدد ما إذا كنت ستصبح العوبة في يد الظروف ام لا، متخلياً عن الحرية والكرامة.. يبقى لديك خيار واحد ان يتحكم في موقفك الداخلي تجاه الحياة. قد نجد معنى في مجرد وجودنا، وتلك سعادة لا يمكن لأحد أن يسلبنا إياها " – صرخة من اجل المعنى ترجمة عبد الكريم عبد المقصود -.
نميل، عموما إلى الاعتقاد أنه ينبغي علينا، لكي نكون سعداء، ان نتجنب المعاناة، لكن يبدو ذلك حلماً غير قابل للتحقيق. من المستحيل أن نكون بمنأى عن المعاناة، بيد انه يمكننا تحرير إدراكنا لها. يؤكد فيكتور فرانكل انه اكتشف سعادته الحقيقية من خلال البحث عن معتى لمعاناته. يحاجج بأن البشر يمكنهم تحمل المعاناة مهما بلغت، إذا كانت هذه المعاناة تحمل معنى، أو بالأحرى إذا استطعنا أن نضفي عليها معنى. من السهل رؤية المعاناة على انها عائق امام حياة سعيدة ومزدهرة، ولكن كما يقول فرانكل: " من دون معاناة، لا يمكن للحياة البشرية أن تكتمل ". فالكفاح في الحياة هو الذي يصوغ لنا سعادتنا الشخصية.
في السادس والعشرين من آذار عام 1905 ولد فيكتور إميل فرانكل في العاصمة النمساوية فيينا لعائلة من الطبقة المتوسطة ، الاب كان صارما في طباعه يصفه بانه " يسير وفق مبادئ لا يحيد عنها "، ينتمي لعائلة فقيرة استطاع ان يتفوق في دراسته ليحتل منصبا وظيفيا كبيراً، لكنه سيخسر وظيفته ويموت في احد معسكرات الاعتقال النازيه، ويتذكر فرانكل كيف انه شاهد والده سيادة المدير ياأكل قشور البطاطا التي كان يلتقطها من براميل القمامة في معسكر الاعتقال. اما امه فقد كانت تنتمي الى عائلة ارستقراطية من اصول تشيكية.. يخبرنا فرانكل انه ابصر نور الدنيا في مقهى زيللر الشهير في مدينة فيينا: " إذ جاءت امي آلام المخاض في ظهيرة يوم ربيعي مشرق "، وقد اجبرت الام ابنائها الثلاثة على ممارسة الطقوس الدينية، في المقابل كان الأب يعتنق الفلسفة الرواقية، فلم يكن يغضب بسرعة، يحاور ابناءه في الكثير من القضايا. كان الاب يريد لابنه الكبير ان يصبح رجل قانون، إلا ان شغف فرانكل بكتب الفلسفة منذ صغره جعلته يطمح ان يكون ان يكون رحالاً.
يتذكر الصبي شعور الأمان الذي كان يشعر به وسط عائلته: " لم يكن شعور الأمان الذي طوقني مبعثه التأملات والافكار الفلسفية بالطبع، بل المحيط الذي عشت فيه "، سيجد في مكتبة والده ضالته، كتب في الفلسفة وعلم النفس، وقد اخبره والده ان البيت المقابل لهم كان يسكنه عالم النفس الشهير " الفريد ادلر " مؤسس علم النفس الفردي. في الخامسة عشرة من عمره يلقي محاضرة عن " معنى الحياة " في مركز يهتم بتعليم الكبار، وقد ركزت المحاضرة على فكرتين: الاولى، يحب علينا ألا نسأل عن معنى الحياة: " فالسؤال موجه الينا نحن، ومنوط بنا تقديم جوابنا عن سؤال الحياة، وليست في مقدورنا الاجابة عن اسئلة الحياة إلا أن ناخذ على نفسنا مسؤولية وجودنا في الدنيا "، اما الفكرة الثانية التي طرحها فيكتور فرانكل فيذهب فيها الى أن: " المعنى النهائي للحياة يتجاوز طور مشاركتنا، أو لنقل، لا مناص من أن يتجاوزه وقصارى القول هو (المعنى الأسمى " كما اطلقتُ عليه، لكنه ليس أمراً خارقاً للمألوف، هو معنى لا يسعنا إلا الإيمان بوجوده او يجب علينا الإيمان بوجوده. في نهاية المطاف، إن كل واحدٍ منا يؤمن بوجود هذا المعنى، حتى لو كان إيماناً لا واعياً " – فرانكل سؤال الحياة ترجمة أحمد الزناتي –. اثناء الحرب العالمية الاولى تفرغ لقراءة اعمال الفيلسوف الالماني أوزوالد شبنجلر وخصوصا كتابه " تدهور الحضارة الغربية " واعمال عالم النفس التجريبي غوستاف فيشنر، يملأ دفتراً مدرسياً بالملاحظات وسيختار لما كتبه عنوان طموح " نحن وآلية طموح العالم ". ينهي دراسته الاعدادية، ينظم الى دروس ومحاضرات عن الطب النفسي، في المدرسة الاعدادية يقرر ان يبعث برسائل الى فرويد: " كنت احاول اجتذاب انتباهه، وكان فرويد يجيب على الفور عن كل خطاب أرسله اليوم ". بعد الاعتقال ستتم مصادرة مراسلاته وبعض الكتب بخط فرويد كان قد اهداها اليه. يلتقي فرويد لمرة واحدة عندما كان طالبا في الكلية، لكنه بعد ذلك سيقع تحت تاثير افكار الفريد ادلر الذي ساعده على نشر مقالاته عن علم النفس. بعد ذلك سينشيء مدرسة العلاج بالمعنى وهي المدرسة التي كانت تهدف الى معالجة مرض القرن، وهو شعور الناس بخلو الحياة من المعنى. فقد لا حظ فيكتور فرانكل ان هناك احوال متوهمة ومأزومة للوجود لا يرتبط أصلها باسباب عقلية او عضوية، إنما أسبابها تضرب بجذورها عمقاً في الأبعاد الروحية والفلسفية للفرد: " ان مهمة المعالج النفسي أن يعيد للمريض حب الحياة والنوايا الطيبة لمجتمعه، عبر مناقشات حساسة لقيمة العيش واهمية السعادة " فيكتور فرانكل الشعور بانعدام المعنى ترجمة آراك الشوشان -. عام 1938 السنة ضم فيها هتلر النمسا صدر قرار بابطال جواز سفره واغلقته عيادته الخاصة ، عام ١٩٤١، يتزوج من من تيلي جروسر، التي كانت تعمل ممرضة، يتم اعتقالها بعد تسعة اشهر من الزواج، لتموت في المعسكر. بعد اشهر يتم اعتقاله مع جميع افراد عائلته وينقلون الى معسكر أوشفيتز، يتوفى والده عام 1943 بسبب الجوع، وستلحقه والدته وشقيقه وحماته، وفقد اضافة الى ذلك مخطوطة النسخة الاولى من كتابه " الطبيب والروح ". بعد تحرره من معسكر الاعتقال في السابع والعشرين من شهر نيسان عام 1945 على يد القوات الأمريكية، تم تعينه في المستشفى العسكري المخصص للمهجرين. عمل هناك شهرين، حتى استطاع في صيف عام 1945 العودة الى فينا، ليبدأ باعادة تدوين كتابه " الطبيب والروح "، ويلقي محاضرات عن علم نفس معسكرات الاعتقال، في هذه السنوات يؤسس لمدرسة جديدة في العلاج النفسي وصفت بأنها المدرسة الفينيية الثالثة بعد مدرسة فرويد ومدرسة ادلر. مدرسة فرانكل تضع إرادة المعنى، والحرية، والكرامة، والمسؤولية، وسعادة الإنسان في قلب اهتماماتها: " إذا اردنا إبراز أمكانيات الإنسان في افضل حالاتها، يجب علينا في البداية أن نؤمن بوجودها وحضورها. وإلا فإن الإنسان سوف ينجرف. سوف يتدهور. ويجب ألا ندع إيماننا بالإمكانيات الإنسانية للإنسان يعمينا عن حقيقة ان البشر الإنسانيين أقلية، وربما سوف يظلون أقلية دائماً، ومع ذلك فإن هذه الحقيقة بالذات هي التي تتحدى كل واحد منا للإنظمام إلى الأقلية " – صرخة من اجل المعنى -.
واصل فيكتور فرانكل نشر العديد من الكتب التي سجل فيها خبراته الشخصية كما عاشها منذ لحظة اعتقاله حتى تحرره ونجاته، ورصد ما يجري داخل نفس الانسان عندما يتعرض لمحنة: " ينبغي ان لا ننسى ابداً اننا قد نجد أيضاً معنى في الحياة حتى حين نواجه وضعاً ميؤوساً منه، أو حين نواجه مصيراً لا يمكن تغييره. ما يهم إذن أن يكون المرء شاهداً على الإمكانية البشرية الفريدة في افضل حالاتها، أي تحويل ماساة شخصية إلى انتصار، ومأزق الإنسان إلى إنجاز إنساني. حين نكون قادرين على تغيير موقف، يكون أمامنا تحد لتغيير أنفسنا.
باعت كتب فيكتور فرانكل ملايين النسخ، عاش سنواته الاأخيرة في فيينا ورفع شعار المصالخة بدلاً من الانتقام، وقال ذات مرة: " لا أنسى اي عمل صالح قُدم إليَّ، ولا احمل ضغينة على عمل سيئ ". وقد ظل يعمل رئيسا لقسم الاعصاب في مستشفى فيينا حتى تقاعده، قال انه رأى معنى لحياته في ان يساعد الآخرين أن يروا معنى لحياتهم.
توفي فيكتور فرانكل، نتيجة أزمة قلبية في الثاني من ايلول عام 1997، وعاش حياته التي تحاوزت التسعين عاماً، شغوفاً بفهم بالنفس البشرية والبحث عن عمّا يخفّف من آلامها ويرتقي بسعادتها
تجربة مريرة عاشها فرانكل كان فيها يسير، بشكل يومي، على خيط واهن بين الحياة والموت، وقد أجبره ذلك على البحث بشكل يائس عن مصادر للمعنى من شأنها أن تمنح الإنسان سببا للمواصلة والمضي قدما والاستمرار في المقاومة وقمع الرغبة الملحة في الاستلقاء والاستسلام ببساطة.
قاده بحثه داخل معسكر الاعتقال إلى اكتشاف إن سعادته الإنسان الحقيقية تكمن يمن خلال الحب، وفي الحب: " لقد فهمت كيف لرجلٍ لم يتبقَ له شيء في العالم ما زال يعرف معنى النعيم، حتى وإن كان للحظةٍ وجيزة، من خلال التأمّل في محبوبه " – الإنسان والبحث عن المعنى –
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية