قراءات نقدية
جمعة عبد الله: بين الحزن والحلم في المجموعة الشعرية "عمر بعيد عن المرمى"

للشاعر زياد كامل السامرائي
يحاول الشاعر ان يرسم خطاً شعرياً خاصاً به، وبلغة تخاطب القارئ شعورياً في إحساسها العميق، بما يملك من قدرات شعرية متمكنة من الصياغة والرؤية الفكرية والتعبيرية الدالة، يتوغل في مخيلته الشعرية كي يخلق حالة التساؤل والتأمل، ليفتح المدارك الذهنية لدى القارئ بالتأمل، ليدرك حجم الصراعات الحياتية والوجودية، ومعضلاتها وتناقضاتها القائمة، التي تتحرك بين الوجع والحلم، في الواقع محبط ومخيب، الذي لا ينتج سوى الهزائم والانكسارات النفسية، في عالم مضطرب ومشوش في هشاشته، بين المحسوس واللامحسوس، في زمن يغوص في اليأس والحزن والتخبط، كأنه يدور في حلقة مفرغة بالدوران، مما تؤثر على خلجات النفس التي تجد نفسها محاصرة من كل الجهات، هذه الارهاصات لا تترك فسحة من الحلم، وعلى هذا المنوال يعزف او يضرب على وترها الحساس، في براعة تشكيل الصور الشعرية الباذخة في المعنى، والقادرة على الاثارة في تحفيز القارئ، ان يفتش عن هذه المعضلات بالقراءة العميقة المتأنية، ان يرصد تفاعلاتها الذاتية والموضوعية، حتى يرصد مساحات الوهن والخلل في منصات الحياة والوجود المتشابكة، في الفعل ودراماتيكية الحركة، وتحاول ان تجد مخرجاً لها من عنق الزجاجة، لذلك نجد عناوين نصوص القصائد صادمة غير مألوفة، على سبيل المثال في ذكر بعض العناوين المجموعة الشعرية (عمر بعيد عن المرمى): أقيم في ورقة. حلم لم يزدهر. قراءة لعش الحمامة. ثماني عقود شمعة واحدة. لجوء غويا الى الوثبة. عمر بعيد عن المرمى. نهر نحيل جنرال أعمى. مدن بلهاء. ذو الساق الواحدة. ساعي الدموع يطرق مرتين.... وغيرها من العناوين التي تثير حواس وذهن القارئ بشكل مرهف. لكي يؤكد بأن الإحباط في سيكولوجية النفس تحمل مشروعية في القلق والهواجس، بأن عالم الخارجي يؤثر على العالم الداخلي أو الذاتي، يحاول محاورة القارئ شعورياً للخروج من هذا العالم المتشابك، لكن لاشيء يترك مسحة من الفرح، سوى الالم والاحزان، هكذا يرسم لوحاته الشعرية في براعة الوصف والتصوير، لكي يوضح بأن العمر بعيداً عن الهدف ولا يمكن الوصول إليه في اصابة المرمى، انها في حالة دوران، كأن لا جديد تحت الشمس، يعني مشاعر الذات تقع في مثلث من الحزن واليأس والالم، العمر يتجرع المراثي في محطات العمر.
× قصيدة الدوران:
أنحتفل بسنة جديدة
ونحن وجها لوجه في دمي !
نفتح بها قلبينا الواحد
لنغازل نجمتينِ
لا يمسّهما جُرح
ولا يتعبُ من دوراننا فجرا
يذوب في شفتينِ
لانّا شربنا من شطآن العيون
مراثي وأغنيات.
العمر بلغ سن الرشد، ولم يمرعليه طيف ينعش العمر بالتماهي بحضوره، كأن الحياة جدبت لا يمر عليها المطر، مثل الروح التي لم تجد حلم يزدهر وينمو، بل ان حلمها لا يزدهر، سوى في المعاناة تنمو وتكبر، والحلم لا يمر سوى في مخيلته كشاعر.
× قصيدة: حلم لا يزدهر:
بلغتُ "سن الرشد"
ولم يأسرني أي حُلْم
الا كشاعرٍ..
لكني أتسائل: كيف خرج ذلك الحُلْم
من حَنجرة الكلمات
ولم يُزهر !
× الأم حاضرة في قصائد المجموعة الشعرية، كما هي حاضرة في القلب، وان الخالق اعطاءها منزلة عظيمة،خلق الجنة تحت اقدامهن، لذا فأن النص الشعري من قصيدة (ثمانية عقود... شمعة واحدة) موجهة الى كل امهاتنا جميعاً الى الام العراقية بالذات، التي تحملت اطنان من الوجع والالم، لكنها ظلت مكابرة في قلبها الحنون الى فلذات كبدها، لهذا يهدي القصيدة الى الام بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، ينحني العمر كله، بل تنحني النخيل تحت اقدامها.
ذلك المحراب الذي أضاء صلاتنا في ظلام الأبديّة..
روّى أفاريز القلب المتورَّد بخفقاتٍ منها ولها، فقد نحيا سنوات نناجيها وقد لا نحيا دونها.
ترتجف الكلمات والجُمل، حاسرات البصر، حائرة على باب وصفكِ ولو بــ "خُصلة" واحدة منكِ.
لكني أكتبُ لكِ ارتباكي و أنا في لجّة الأرض وأحشاء المصير..
لا عذر أقدّمُه اليكِ اليومَ.. انْ هي الجنّة تحتَ أقدامكِ خاشعة راكعة مُستبشرة، منذ القيامة الأولى لشهيق القلب. فما بالها الحياة تستغرقنا، تلفّنا بعبائتها السوداء دونكِ.
قصيدة: لجوء (غويا) الى الوثبة
قصيدة مستوحاة من لوحة (الثالث من مايو 1808. للرسام الإسباني الشهير فرانشيسكو دي غويا، أثناء الاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون لإسبانيا وكيف جسدت تلك اللوحة براعة وتراجيديا شجاعة المقاومة عند الإسبان)، يسحبها لطقوس العراقية الى سوح النضال وسط بغداد، اشتعلت فيها الاحتجاجات ومظاهر الرفض للسلطة والأحزاب المتسلطة، التي فجرت انتفاضات الشعب، سواء في ساحة الوثبة، او في ساحة التحرير في انتفاضة تشرين عام 2019، والتي جابهتها الحكومة بالقتل والقمع والاختطاف والتخوين، رمزية اللوحة، بتقابل جيشين في المواجهة الحادة والدموية، الأول مسلح بالرصاص وآلة الموت وقنابل الدخان، والثاني مسلح بصوت الكلام (نريد وطن).
تاهتْ خطى الأرصفة كما خُطاك
منذ شتمتْ رئتاكَ عواصف الدخان
لحظة دُثّرتْ فرشاة الألوان أحلامنا
لغة خالقها على جسد من بلور
*
لتُعلنَ قيامة، لا قاتل فيها ولا مقتول
سوى لوحة باهضة تجثو فيها ثورة
يقرأ منها الزائرون فواجعهم.
قصيدة: عمر بعيد عن المرمى
وهي تحمل عنوان المجموعة الشعرية، تحمل إيحاء ورمز بليغ المعنى والدلالة، مشحونة بصدق الاحساس في الشعور الداخلي لمحطات العمر، تركض وراء الوهم والسراب، بعيداً عن المرمى أو الهدف، في عناقيد العمر لم يمر عليها سوى فصل الخريف في الصراع الوجودي، كأنها تلعب مع الزمن لعبة (الغميضة).
أنْ تحزن، وأنتَ تعُدّ القُبلات والمُدن
لا يكفي..
لأنكَ ترى من باب ذاكرتك المعطّلة
حقولا من اليأس و البكاء
وهي تشرب قصيدة عطشى
حتى آخر جذورها المحمومة
لحياةٍ ملعونة
*
موسم الهجرة الى الوهمِ
تَركَ آثارنا في البحرِ
لكنّ الحوت لنْ تعثر علينا
كُنا في السماء
نُجرّب لعبة "الغمّيضة" مع الدّب الأكبر.
× قصيدة: النص المخروم لمقتل خمبابا:
النص الشعري يحتاج الى قراءة وتأمل عميق تفكير في مسألة قتل خمبابا آله الشر على يد جلجامش وانكيدو، تحمل عدة تأويلات وتساؤلات: هل قتل الشر فعلاً ؟ هل هو يحمل دلالة قتل القديم من أجل ان يبعث الجديد من موت القديم ؟ أم ان مسألة القتل بدوافع اللهو والعبث ؟ هذه التساؤلات تفتح آفاق الاسطورة القديمة في إعادة صياغتها ومفهومها المعنى في الدلالة والإيحاء والرمز، ينبغي فهمها على ضوء واقعنا الراهن، في الصراع بين القديم والحديث.
أكتب هذا...
أنا العاجز في الأسطورة عن ذرف المراثي
لعلّ الخمرة التي تركتُها على شفاه عشتار
ينكشف منها الموج والشراع
ليتأرجح عاليا مركبي
قبل أنْ يسبح موتي في الآفاق.
*
ها أنا أتقبّل بين أيديكم الموت
كما يتقبّل الطائر الهواء
وجهان بسياجين من حديد
يلتقيان بمن سيموت
وأنا بمن سيولد
***
جمعة عبد الله