أقلام حرة

عبد السلام فاروق: لحظة فرانز فرديناند..

هل نحن على أعتاب حرب عالمية ثالثة؟

"نحن عراة في عالم من العواصف، لأننا لم نستعد لعالم اليوم" بهذه الكلمات الموجعة، وصف (مانفريد ويبر)، زعيم حزب الشعب الأوروبي، حال القارة العجوز، في تصوره لمواجهات محتملة مع روسيا أو حتى مع حليفها التقليدي الولايات المتحدة. هذا الإحساس المأساوي بالعري والضعف، الذي يخترق وجدان النخبة الأوروبية، هو ذاته ما كان يعيشه السياسيون الأوروبيون قبل عام 1914، حين كانت التحالفات المتشابكة والرغبة في تأكيد الذات، تدفع بأوروبا نحو الهاوية. اليوم، وبعد أكثر من قرن، تعود أشباح الماضي لتطرق أبوابنا من جديد؛ فالأجواء الحالية في أوروبا تذكرنا بأوقات ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث التوتر الخفي الذي يسبق العاصفة.

النظام القديم وانهيار اليقين

قبل عام 1914، كانت خريطة أوروبا عبارة عن نسيج معقد من التحالفات والامبراطوريات والقوميات المتصارعة. كان قلب أوروبا ينبض من فيينا، عاصمة الإمبراطورية النمساوية المجرية، الدولة متعددة القوميات التي امتدت من سويسرا إلى رومانيا الحديثة، والتي كانت بمثابة "سجن للشعوب" في نظر قومياتها السلافية. كانت الخريطة السياسية تعج بدول تسعى لتعزيز نفوذها، من ألمانيا القيصرية الطامحة تحت حكم فيلهلم الثاني، إلى بريطانيا العظمى الحريصة على توازن القوى، وفرنسا التي تتطلع لاستعادة أمجادها. وكانت البلقان تشكل "برميل بارود" أوروبا، حيث تتصارع النزعات القومية مع إرث الإمبراطورية العثمانية المتهاوية.

في تلك الأيام، تشكل تحالفان رئيسيان: التحالف الثلاثي (ألمانيا، النمسا-المجر، إيطاليا) والوفاق الثلاثي (فرنسا، روسيا، بريطانيا). لكن هذه التحالفات لم تكن دفاعية بحتة، بل كانت تعكس مصالح اقتصادية واستراتيجية متشابكة، وتنافساً محموماً على المستعمرات والموارد خارج أوروبا. لقد كانت آلة الحرب الأوروبية تنتظر شرارة صغيرة لتنطلق، وجاءت تلك الشرارة من سراييفو.

وفي 28 يونيو 1914، أطلق غافر يلو برينسيب، الشاب الصربي القومي، رصاصتين أودتا بحياة الأرشيدوق فرانز فرديناند، وريث عرش النمسا-المجر، وزوجته. كانت تلك "اللحظة الفرانزفرديناندية" التي لا تزال تذكرنا بها كتب التاريخ. لكن الاغتيال بذاته لم يكن السبب، بل كان القشة التي قصمت ظهر البعير؛ فخلال أسابيع، دفعت الآلية الدبلوماسية والعسكرية المعقدة أوروبا إلى حرب لم يكن أحد يتخيل حجم دمارها.

لقد أوقفت الحرب عام 1914 لحظة إبداع أوروبية مفعمة بالحيوية، كما يؤكد المؤرخ جاك بارزون، حيث حلت "دعاية الكراهية" محل النشاط الثقافي، وتم تدمير المواهب العبقرية في حرب القذائف والهجمات المشاة، وسحقت الإيمان والتقاليد المدنية تحت وطأة أربع سنوات من الحرب بأهداف أصبحت أقل فهماً. لقد حطمت تلك الحرب الحضارة المولودة من عصر النهضة والقائمة على فكرة الدولة القومية.

النظام العالمي الجديد.. هل نحن أقرب إلى حافة الهاوية؟

اليوم، وبعد أكثر من قرن، نعيش في عالم يبدو مختلفاً، لكن التوترات الهيكلية مشابهة بشكل مقلق. ففي استطلاع حديث أجراه YouGov، يعتقد 45% من الأمريكيين وما بين 41% و55% من الأوروبيين في خمس دول (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا) أن حرباً عالمية ثالثة "مرجحة جداً أو إلى حد ما" في غضون خمس إلى عشر سنوات. وترى أغلبية تتراوح بين 68% و76% أن أي صراع جديد سيتضمن أسلحة نووية.1989 faroqوترجع هذه النظرة السوداوية المتشائمة إلى عدة عوامل، يأتي في مقدمتها التمزق في العلاقات عبر الأطلسي. فالقادة الأوروبيون يعترفون بأن "أوروبا عاجزة عن مواجهة ترامب" بسبب تبعيتها العسكرية للولايات المتحدة. وقد استخدم ترامب هذه التبعية كورقة ضغط، حيث "أضعف القوة الاقتصادية لأوروبا من خلال استخدام البطاقة العسكرية" خلال مفاوضات اتفاقية التجارة الصيف الماضي. وفي الوقت نفسه، يخشى نصف أوروبا من التهديد الروسي، ويرى أن القوة العسكرية الأمريكية هي الحامي الوحيد. هذا الانقسام يذكرنا بالتحالفات المتشابكة والمتناقضة قبل الحرب العالمية الأولى.

وفي الشرق، تتصاعد التوترات مع روسيا، التي يراها 69% من الأمريكيين وما بين 72% و82% من الأوروبيين الغربيين السبب الأكثر احتمالاً لحرب عالمية أخرى. لكن المفارقة أن العديد من الأوروبيين يرون في الولايات المتحدة نفسها تهديداً، حيث تعتبر أكثر من نصف السكان في إسبانيا (58%) وألمانيا (55%) وفرنسا (53%) أن التوترات مع واشنطن تشكل تهديداً كبيراً أو معتدلاً للسلام في القارة. إنه انقسام يعكس غياب رؤية استراتيجية موحدة، وافتقاداً للقيادة الأوروبية الحكيمة.

البلقان الجديدة.. من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا

إذا كانت البلقان "برميل بارود" أوروبا قبل قرن، فإن العالم اليوم يعج ببراميل بارود جديدة. ففي أوروبا الشرقية، تستمر المواجهة بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، مع انتهاكات متكررة للمجال الجوي لدول الناتو، كما حدث في بولندا وإستونيا، فيما يشكل مرحلة جديدة من التصعيد. وفي الشرق الأوسط، لا تزال الحرب في غزة تمثل بؤرة توتر عالمية، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى تحول جيلي في الرأي العام الغربي، خاصة بين الشباب، تجاه السياسات التقليدية لدعم الحلفاء.

فالعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، التي كانت ذات يوم "إجماعاً ثنائي الحزب"، تواجه اختباراً وجودياً، حيث يرى 53% من الأمريكيين الآن صورة غير مواتية لإسرائيل، وتصل هذه النسبة إلى 71% بين الديمقراطيين تحت سن الخمسين. هذا التحول في الرأي العام، إلى جانب تصلب الموقف الإسرائيلي، حيث أصبح 58% من الإسرائيليين اليهود يعرفون أنفسهم كيمينيين في عام 2024 (مقارنة بـ 46% في 2019)، يخلق بيئة من القطيعة المحتملة.

هل هناك مخرج؟

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل يمكننا أن تعلم الدروس من التاريخ أم أننا محكومون بتكراره؟ تشير التحليلات إلى أننا نعيش بالفعل في لحظة "فرانز فرديناند" ممتدة، حيث يمكن لأي حادث غير متوقع - سواء في بحر الصين الجنوبي، أو في أوروبا الشرقية، أو في الشرق الأوسط - أن يشعل شرارة صراع أوسع. لكن الاختلاف الجوهري اليوم هو أن أي حرب بين القوى العظمى ستكون حرباً نووية، مع إدراك 57% إلى 73% من الجمهور في أوروبا والولايات المتحدة أنها ستؤدي إلى خسائر في الأرواح أكبر من تلك التي حدثت في 1939-1945.

لقد أدرك الأوروبيون مبكراً أن الوحدة هي السبيل الوحيد لتفادي مصير مأساوي، وهو ما دفعهم إلى تأسيس الاتحاد الأوروبي، الذي لا يزال 45% إلى 56% من الأوروبيين والأمريكيين يعتبرونه مساهماً مهماً في غياب الصراع. لكن هذه الوحدة تواجه اليوم اختبارات وجودية مع صعود القوميات داخل أوروبا، والضغوط الأمريكية، والتهديدات الخارجية.

إن ما تحتاجه أوروبا والعالم اليوم هو قيادة شجاعة وحكيمة، من طراز هيلموت كول وفرانسوا ميتران الذين استطاعا في الماضي تحويل الخصومات إلى شراكات. قيادة تستطيع أن تقدم رؤية جديدة للأمن الجماعي، تتجاوز منطق التحالفات العدائية والتبعية، وتعيد إحياء الدبلوماسية متعددة الأطراف. فالعالم أصبح صغيراً للغاية على حرب كبرى، والتاريخ يعلمنا أن الحضارات، بغض النظر عن مدي تقدمها، يمكن أن تتحطم عندما تختار الدول مسار الصراع بدلاً من التعاون.

السؤال الذي يطرح نفسه الأن هو: هل لدينا الحكمة الكافية لاختيار المسار المختلف عما اختاره أجدادنا قبل 110 أعوام؟

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم