أقلام فكرية

حسام الدين فياض: تطبيق نظرية فلفريدو باريتو على النخب العربية المعاصرة

في سياقات اجتماعية مختلفة

يعتبر فلفريدو باريتو (1848–1923) أحد أبرز المفكرين الذين صاغوا نظرية متكاملة حول طبيعة الإنسان ودوره في حركة النخب السياسية وصعودها وسقوطها. ففي مؤلفه الضخم " العقل والمجتمع " طرح باريتو فرضية محورية مفادها أن معظم الأفعال الإنسانية محكومة بدوافع لا منطقية، أي إن العلاقة بين الوسائل والغايات لا تتبع بالضرورة نسقاً عقلانياً متماسكاً، بل تنبع من نزعات نفسية واجتماعية عميقة يطلق عليها " الرواسب " هذه الرواسب، وبحسب باريتو، تعد البنية التحتية التي توجه الفعل الإنساني، وتشمل نزعات الابتكار والتجديد من جهة، ونزعات الثبات والمحافظة من جهة أخرى، وهو ما صنفه تحت فئتي " غريزة التكوين " و " ثبات التجمعات ".

لكن الإنسان لا يترك سلوكه عرضة لهذه النزعات وحدها، بل يسعى دائماً إلى إضفاء طابع من الشرعية والتفسير المنطقي على أفعاله، من خلال ما سماه باريتو " بالمشتقات " أو " المعتقدات التبريرية " هذه الأخيرة لا تُنشئ السلوك من أساسه، بل تعيد تأطيره في صورة عقلانية ترضي الحاجة المجتمعية إلى التفسير والانسجام الفكري.  ويكشف هذا التمييز الدقيق بين الرواسب والمعتقدات عن آلية اشتغال السلطة والخطاب السياسي، حيث تعمل النخب على تبرير دوافعها العميقة من خلال إنتاج إيديولوجيات متماسكة ظاهرياً، لكنها في جوهرها تعبير عن رواسب لا منطقية.

ومن هنا تتضح العلاقة الوثيقة بين النفس الإنسانية وديناميات تداول السلطة. ففي نظرية " صعود وسقوط النخب "، يرى باريتو أن المجتمعات تخضع لدورة مستمرة من تداول النخب، حيث تتناوب على السلطة نخب ذات خصائص متمايزة: فالنخب التي يسود فيها عنصر الحيلة والمراوغة تمثل نمط " الثعالب "، بينما النخب التي يغلب عليها طابع القوة والصلابة تمثل نمط " الأسود "، وعندما تفقد النخبة القائمة توازنها بين هذين النمطين، تتآكل شرعيتها وتفسح المجال لنخبة جديدة أكثر قدرة على تمثيل النزعات السائدة في المجتمع.

هذا التحليل لا يقتصر على المستوى النظري، بل يمكن رصده تاريخياً في تحولات كبرى مثل الثورة الفرنسية عام 1789، حيث أفسحت نخبة الإقطاع التقليدي المجال أمام نخب جديدة استندت إلى رواسب الابتكار والتغيير، ثم ما لبثت أن فقدت بدورها قدرتها على التوازن مع بروز نخب أكثر محافظة. وكذلك في سقوط الإمبراطورية الرومانية، حيث أدى الإفراط في الاعتماد على " الثعالب " من الساسة والدبلوماسيين، وتراجع قوة " الأسود "، إلى انكشاف الدولة أمام أزمات خارجية وداخلية.

وهكذا يبرز باريتو الإنسان باعتباره كائناً مزدوج البنية، حيث تدفعه رواسب لا منطقية راسخة، بينما يسعى في الوقت ذاته إلى تغليفها بمعتقدات عقلانية تمنحه الشرعية. ومن خلال هذا المنظور، تصبح دراسة النخب السياسية ليست مجرد تتبع لموازين القوة أو الاقتصاد، بل تحليلاً لكيفية تجسيد هذه الرواسب والمعتقدات في بنى السلطة، وما يترتب على اختلالها من دورات متعاقبة لصعود وسقوط النخب.

- تطبيق نظرية باريتو على النخب العربية المعاصرة في سياقات اجتماعية مختلفة:

تتميز النخب العربية المعاصرة بمزيج معقد من الرواسب النفسية والاجتماعية والمعتقدات المؤسسة تاريخياً، والتي تتفاعل مع ضغوط السياسة والاقتصاد والثقافة. وفقاً لنظرية باريتو، لا يمكن فهم صعود أو سقوط النخب إلا من خلال دراسة الرواسب والمعتقدات، إذ تشكل أساس استمرارية السلطة وتداول النخب.

 وفي السياق العربي، يظهر استمرار الميل إلى المحافظة على الأبنية التقليدية، سواء عبر الولاء للعائلة أو الطائفة أو القبيلة، أو التمسك بالعادات والتقاليد الاجتماعية، ما يمنح النخب القديمة القدرة على فرض هيمنة مستمرة، حتى في الدول التي تحاول تحديث مؤسساتها السياسية والاقتصادية.

تلعب المعتقدات دوراً محورياً في إعطاء هذه الرواسب الشرعية، إذ غالباً ما تستخدم لغة القانون والدين والإيديولوجيا لتبرير الممارسات السلطوية وخلق مظلة عقلانية على الواقع الاجتماعي، حتى في حالة وجود تناقضات بين الخطاب الرسمي والواقع الفعلي. غالباً ما تستخدم هذه الاستراتيجيات في تقديم قرارات سياسية واقتصادية على أنها إصلاحية، بينما تبقى أدوات السيطرة التقليدية موجودة في الواقع. ويمكن ملاحظة ذلك في الأمثلة العامة للنخب التي تحافظ على نفوذها الاقتصادي من خلال التحكم في القطاعات الاستراتيجية، مع الحفاظ على تحالفات سياسية تضمن استمرار نفوذها.

تشير دراسة باريتو إلى أن النخب الناجحة تجمع بين نزعة الثعالب، المتمثلة في القدرة على الابتكار والمراوغة وبناء الشبكات والتحالفات، وبين نزعة الأسود التي تعكس القدرة على الصلابة وفرض النظام والحفاظ على الهيمنة ضد المعارضة. وفي السياق العربي، نجد أن بعض النخب الاقتصادية والسياسية التي استطاعت الجمع بين المرونة في التفاوض مع النخب الأخرى والصلابة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية تمكنت من الحفاظ على استقرار نسبي، بينما النخب التي غلبت عليها النزعة المرنة وحدها أو النزعة الصلبة وحدها شهدت ضعف الشرعية أو مقاومة مجتمعية متصاعدة.

ووفقاً لباريتو، يمثل التداول بين القديم والجديد تحدياً مستمراً، فأي نخبة معرضة للتآكل والتجدد بشكل دوري. وفي الواقع العربي، كثير من النخب الصاعدة لم تتمكن من تأسيس منظومة عقائدية شاملة تضم مختلف شرائح المجتمع، ما أدى إلى ضعفها واحتوائها أو سقوطها، بينما حافظت النخب التقليدية على قدرتها على إعادة تعبئة الأبنية الاجتماعية والتاريخية لصالحها. ويمكن ملاحظة ذلك في الأمثلة العامة للانتقالات السياسية، حيث ظهرت وجوه جديدة طالبت بالإصلاح، لكنها غالباً لم تتمكن من جذب الشرائح الاقتصادية والثقافية الأوسع، فتم احتواؤها أو إعادة دمجها ضمن الأبنية التقليدية.

وفي المجال الاقتصادي، يمكن القول إن النخب التي تسيطر على الموارد الحيوية أو القطاعات الاستراتيجية تتمكن من المحافظة على نفوذها لفترات طويلة إذا استطاعت المزج بين المرونة في الشراكات الاقتصادية والصلابة في حماية مصالحها الأساسية. أما في المجال الثقافي والإعلامي، فالنخب التي تستطيع التأثير على الرأي العام وخلق خطاب جماعي مشترك، دون التخلي عن القواعد التقليدية للسلطة، تتمتع بقدرة أعلى على الاستمرار في الهيمنة، بينما تلك التي تتخذ مواقف متطرفة أو انعزالية تواجه تآكلاً سريعاً في النفوذ والشرعية.

تكمن الفرصة الأكبر للنخب العربية المعاصرة في توسيع قنوات المشاركة واستيعاب الكفاءات والمواهب من الطبقات الوسطى والمهمشة، إذ إن الانغلاق على الذات يؤدي إلى تآكل الشرعية وفقدان الثقة من قبل المجتمع. في المقابل، فإن الاعتماد المفرط على القوة وحدها أو على خطاب الإصلاح وحده يهدد استقرار النخبة، ويزيد من احتمالات الانقلابات أو الانتفاضات الشعبية، وهو ما يتضح من دراسة تجارب النخب في بعض الأطر السياسية الحديثة.

في ضوء هذه التحولات، يمكن القول إن مستقبل النخب العربية يعتمد على قدرتها على مزج النزعة المرنة مع النزعة الصلبة ضمن مؤسسات حقيقية وشرعية، لا مجرد شعارات شكلية. هذا التوازن يضمن تداولاً سلساً للنخب، ويجدد الشرعية، ويعزز شعور المجتمع بالانتماء والمشاركة، وهو شرط أساسي لاستقرار طويل الأمد.

أما في سياق المؤسسات والمنظمات الحكومية في المجتمعات العربية نجد أنها تواجه معضلة مستمرة تتعلق بتوازن القوى بين الأفراد والنخب العاملة داخل المؤسسة، وهي ظاهرة يمكن تفسيرها بوضوح من خلال نظرية باريتو حول النخب وصعودها وتداولها. وفقاً لباريتو، أي مجتمع أو مؤسسة ينقسم فعلياً إلى قسمين: نخبة تهيمن على اتخاذ القرار، وأغلبية تلتزم بالأنظمة والممارسات التي تفرضها هذه النخبة. في المؤسسات الحكومية، يظهر ذلك جلياً من خلال التحالفات الداخلية، التي تتشكل غالباً على أساس المصالح المشتركة، القوة التنظيمية، والعلاقات الشخصية.

فالتحالفات داخل هذه المؤسسات ليست مجرد علاقات ودية، بل تمثل آلية للحفاظ على السلطة والسيطرة على الموارد. النخب داخل المنظمة تستخدم أساليب الثعالب لتشكيل شبكات مرنة تمكنها من المناورة والتفاوض، بينما تستخدم نزعة الأسود لفرض القواعد والسيطرة على القرار الرسمي.  هذا المزج بين المرونة والصلابة يتيح للنخبة الحفاظ على مكانتها داخل المؤسسة، وتحديد سياسات العمل بما يخدم مصالحها، حتى وإن كانت تلك السياسات قد لا تتوافق مع الأهداف الرسمية للمؤسسة أو المصلحة العامة.

ومن منظور سوسيولوجي، يمكن فهم التحالفات الداخلية على أنها مؤشر على تماسك النخبة وضعف الرقابة الهيكلية. عندما تعتمد المؤسسة على تسلسل هرمي صارم دون إشراك فعلي للنخب الثانوية، فإنها تولد ديناميات مقاومة أو محاولات تحالف موازية لإعادة التوازن. وعلى العكس، المؤسسات التي تتيح مساحة للتداول الداخلي بين النخب تستطيع الحفاظ على استقرار أكبر، لأن كل مجموعة تشعر بأنها قادرة على المساهمة واتخاذ القرارات في نطاق معين.

كما تظهر في بعض المؤسسات الحكومية تحالفات محددة على أسس جغرافية أو مهنية أو سياسية، بحيث تتشارك النخب المصالح نفسها أو الانتماءات المشتركة. هذه التحالفات غالباً ما تؤثر على توزيع الموارد، ترقيات الموظفين، وتحديد السياسات التشغيلية.  بذلك يوضح تحليل باريتو أن هذه التحالفات لا تمثل فقط مصلحة فردية، بل هي أداة للبقاء والحفاظ على الهيمنة ضمن المؤسسة. بالتالي، فهم طبيعة هذه التحالفات يتيح تفسير أسباب الصراعات الإدارية، الجمود البيروقراطي، أو حتى ضعف الأداء المؤسسي.

إن الجانب الأهم من التحليل السوسيولوجي يكشف لنا بأن التحالفات ليست ثابتة، بل ديناميكية وتتأثر بالتغيرات في القوى الداخلية والخارجية للمؤسسة. على سبيل المثال، التغييرات السياسية أو التعيينات الإدارية الجديدة قد تعيد تشكيل التحالفات القديمة، كما أن التحالفات قد تتحول إلى نزاعات إذا شعرت مجموعة من النخب بأنها مستبعدة أو تهدد مصالحها. وهنا يظهر باريتو مرة أخرى من خلال فكرة التداول المستمر للنخب، أي أن أي هيمنة نخبوية داخل المؤسسة معرضة دوماً للتآكل والتجدد.

ويمكن أيضاً تفسير تحالفات المؤسسات الحكومية من خلال منظور الشرعية والمعتقدات. فالنخب التي تحافظ على توازن بين الصلابة والمرونة تتمكن من تقديم سياساتها كمبادرات عقلانية ومنطقية، حتى لو كانت في جوهرها تهدف إلى حماية مصالحها. أما النخب التي تركز على الصلابة المفرطة دون مرونة، فهي غالبًا ما تواجه مقاومة من النخب الثانوية أو الموظفين، مما يؤدي إلى ضعف تنفيذ السياسات وتراجع الفاعلية المؤسسية.

باختصار شديد، إن تطبيق مقولات باريتو على التحالفات داخل المؤسسات الحكومية يتيح لنا فهم العلاقة بين القوة، المصالح، والمعتقدات، ويوضح كيف يمكن للنخب أن تحافظ على السيطرة، وكيف أن الديناميات الداخلية للمنظمة تفرض قيوداً على الأداء والفعالية. كما يبرز أهمية التوازن بين النزعة المرنة والنزعة الصلبة داخل النخبة لضمان استقرار المؤسسة واستمرارية القرارات.

وفيما يتعلق بالعلاقات داخل المؤسسات التعليمية في المجتمعات العربية نجد أنها تتكون من فضاء مركب يلتقي فيه عدد من القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو ما يجعلها نموذجاً عملياً لفهم ديناميات النخب والتحالفات الداخلية وفق نظرية باريتو.

ويرى باريتو أن أي مجتمع أو مؤسسة ينقسم فعلياً إلى نخبة حاكمة وأغلبية تابعة، حيث تُستخدم قوة النخبة لتوجيه القرارات والسياسات، بينما تطبق الأغلبية القواعد والمعايير المفروضة.

 يظهر هذا الانقسام داخل المؤسسات التعليمية من خلال العلاقات بين الإدارة العليا، أعضاء هيئة التدريس، والكوادر الإدارية، إضافة إلى الطلاب.

تتمحور طبيعة هذه العلاقات حول توازن القوى والمصالح المشتركة. النخب الأكاديمية والإدارية غالباً ما تتشكل تحالفاتها على أساس الخبرة، المكانة العلمية، والانتماءات المهنية، بينما تستفيد هذه التحالفات من دعم الهيكل المؤسسي نفسه لضمان استمرار السيطرة على القرارات الجوهرية، بما في ذلك التوظيف والترقيات وتوزيع الموارد. بذلك يمكننا رصد مقولة باريتو حول نزعة الثعالب ونزعة الأسود، حيث تعتمد النخب في بعض المؤسسات التعليمية على المرونة في بناء الشبكات الأكاديمية والتفاوض مع الزملاء، وفي الوقت نفسه على الصلابة لفرض النظام الأكاديمي والانضباط المؤسسي .

ومن المنظور السوسيولوجي، يمكن لنا تفسير التحالفات داخل المؤسسات التعليمية على أنها آلية للحفاظ على الهيمنة والشرعية الأكاديمية. على سبيل المثال، النخب الإدارية غالباً ما تتعاون مع بعض أعضاء هيئة التدريس لإنشاء برامج أو مشاريع استراتيجية تحقق أهدافهم المشتركة، بينما قد تهمش مجموعات أخرى داخل المؤسسة بسبب ضعف الانتماء أو قلة النفوذ. هذه التحالفات تحدد بشكل غير مباشر توزيع الفرص التعليمية والبحثية، كما تؤثر على مسار القرارات الأكاديمية وصياغة السياسات الداخلية.

إن تحليل باريتو يوضح أن هذه التحالفات ليست ثابتة، بل تتغير بتغير القوى الداخلية والخارجية. على سبيل المثال، ظهور إدارة جديدة أو تغييرات في السياسات التعليمية الحكومية قد يؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات والنفوذ داخل المؤسسة. النخب القديمة قد تضطر إلى تبني استراتيجيات جديدة للحفاظ على مكانتها، بينما تظهر نخب صاعدة تسعى إلى إثبات نفسها والمطالبة بتغيير قواعد اللعبة.

بالإضافة إلى ذلك، تؤثر المعتقدات والثقافة المؤسسية على شكل العلاقات. فالمؤسسات التي تتمتع ببيئة مفتوحة تشجع على التعاون والمشاركة تكون أكثر قدرة على دمج النخب الجديدة، بينما المؤسسات الصارمة أو المغلقة تولد مقاومة أو صراعات داخلية، مما ينعكس على الأداء التعليمي وجودة القرارات الأكاديمية. هذه الديناميات تبرز أهمية التوازن بين النزعة المرنة والنزعة الصلبة للنخبة داخل المؤسسات التعليمية، وهو ما يضمن استقرار العلاقات واستمرار الشرعية المؤسسية.

باختصار شديد، إن تطبيق مقولات باريتو على شكل العلاقات داخل المؤسسات التعليمية في المجتمعات العربية يكشف أن النفوذ والتحالفات الداخلية، مزيج من المصالح والمعتقدات، هما العاملان الأساسيان في صياغة القرارات والسياسات الأكاديمية. وفهمنا لهذه العلاقات يمكن أن يساعد على تفسير الصراعات الداخلية، الجمود الإداري، وأحياناً ضعف الأداء المؤسسي، كما يبرز أهمية التوازن بين المرونة والصلابة لضمان استقرار المؤسسات واستمرارية الشرعية الأكاديمية.

وفي مجال العلاقات الاجتماعية والرعاية بين جماعات الرفاق والأصدقاء في المجتمعات العربية نجد أن تطبيق المقولات النظرية لباريتو تعتبر منطلقاً بالغ الأهمية لدراسة الديناميات الاجتماعية الدقيقة بين الأفراد والنخب الصغيرة داخل المجتمعات. ووفقاً لهذه النظرية تنقسم كل مجموعة اجتماعية صغيرة بشكل غير رسمي إلى نخبة صاعدة وأغلبية تابعة، حتى داخل العلاقات الودية، حيث تُمارس القوة بشكل غير مباشر من خلال النفوذ الاجتماعي والرعاية المتبادلة. وداخل جماعات الأصدقاء تظهر هذه الديناميات في كيفية توزيع المسؤوليات الاجتماعية، اتخاذ القرارات، وتبادل المصالح الرمزية بين الأفراد.

تتسم العلاقات في هذه الجماعات بالمرونة والصلابة في الوقت نفسه. فالنخب الصغيرة داخل المجموعة غالباً ما تلجأ إلى ما أسماه باريتو نزعة الثعالب، أي القدرة على المناورة، المساومة، وبناء شبكة من النفوذ داخل المجموعة، بينما تعتمد في نفس الوقت على نزعة الأسود للحفاظ على سلطتها الرمزية داخل الجماعة وفرض قواعد السلوك المقبول على سبيل المثال، في تحديد النشاط الجماعي أو اتخاذ القرارات المصيرية، يظهر أن بعض الأفراد يحظون بنفوذ أكبر نتيجة لعلاقاتهم السابقة أو خبراتهم الخاصة، بينما يلعب باقي الأفراد دور التابعين، مع الالتزام غير الرسمي بالقواعد المفروضة من النخبة.

من المنظور السوسيولوجي، يمكن تفسير الرعاية الاجتماعية والرمزية بأنها أدوات للحفاظ على التماسك الداخلي والشرعية الرمزية للنخبة. النخب الصغيرة تستخدم هذا النوع من الرعاية لتوزيع الامتيازات الرمزية، مثل الدعوات للأنشطة الاجتماعية، المشاركة في الخطط المشتركة، أو الحصول على الدعم الاجتماعي والنفسي، وهو ما يعكس استخدام القوة بطريقة غير مباشرة لضمان استمرارية النفوذ وعليه، فإن أي محاولة لكسر هذا التوازن أو تحدي النفوذ القائم غالباً ما تواجه مقاومة، أو يؤدي إلى إعادة توزيع غير رسمي للسلطة داخل الجماعة.

كما يوضح تحليل باريتو أيضاً أن هذه التحالفات والعلاقات ليست ثابتة، بل ديناميكية وتتغير مع مرور الزمن وتغير الظروف. على سبيل المثال، ظهور أفراد جدد في المجموعة أو تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية قد يعيد تشكيل توازن النفوذ بين الأعضاء، حيث يسعى الأفراد الجدد إلى كسب دعم النخب القائمة أو تشكيل تحالفات موازية هذا يعكس مفهوم التداول المستمر للنخب، حتى في سياقات صغيرة وشبه ودية مثل جماعات الأصدقاء.

من منظور أوسع، تؤثر المعتقدات المشتركة والثقافة الرمزية للجماعة على شكل العلاقات والرهانات. الجماعات التي تبني ثقافة احترام متبادل ومشاركة مفتوحة تستطيع دمج جميع الأعضاء تقريباً في النشاطات واتخاذ القرارات، بينما الجماعات التي تركز على سلطة نخبوية صلبة تواجه عادة صراعات داخلية، مما يضعف التماسك الاجتماعي ويحد من قدرة الجماعة على الاستمرارية. بالتالي، يظهر أن التوازن بين المرونة والصلابة ضروري للحفاظ على استقرار العلاقات والرعاية داخل جماعات الرفاق.

باختصار شديد، يمكن القول إن تطبيق مقولات باريتو على علاقات الرعاية داخل جماعات الأصدقاء في المجتمعات العربية يكشف أن النفوذ الاجتماعي، التحالفات، والمعتقدات الرمزية هي عناصر حاسمة لفهم كيفية توزيع السلطة ضمن هذه الجماعات، وكيف يمكن للتفاعلات اليومية أن تولد صراعات أو تماسكاً، وبالتالي تفسير طبيعة العلاقات الاجتماعية على مستوى صغير يمكن أن يعكس أنماطاً مشابهة على مستوى المجتمع الأكبر.

وفي النهاية سنقوم بتحليل مشكلة الطلاق في المجتمعات العربية بالاعتماد على نظرية باريتو. تعتبر ظاهرة الطلاق في المجتمعات العربية قضية اجتماعية معقدة، تعكس تداخل العوامل الثقافية، الاقتصادية، النفسية، والسياسية. ومن منظور باريتو، يمكن تفسير انتشار هذه الظاهرة من خلال تحليل النخب والمعتقدات الاجتماعية، حيث يرى باريتو أن أي مجتمع يحكمه نخبة تمتلك القدرة على تشكيل وتوجيه القيم والمعايير السائدة، فيما تلتزم الأغلبية بالقواعد والممارسات التي تفرضها هذه النخبة. في السياق العربي، يمكن القول إن التحولات الاجتماعية الحديثة، بما في ذلك التعليم، الهجرة، والاعتماد المتزايد على الاقتصاد النقدي، أثرت على البنى التقليدية للأسرة، ما خلق ضغطاً على القيم والمعايير التي تتحكم في استمرار الزواج.

بذلك، تلعب الرواسب الثقافية والاجتماعية دوراً كبيراً في تفسير الطلاق، إذ تستمر مجموعة من الأنماط السلوكية التقليدية، مثل التحكم الأبوي، توقعات الأدوار الجندرية الصارمة، والتشبث بالعادات والتقاليد، في التأثير على العلاقات الزوجية. ويشير باريتو إلى أن هذه الرواسب تمثل أرضية ثابتة، لكنها قد تتعرض للتوتر عندما تتغير الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية، مما يؤدي إلى تصادم بين توقعات الزوجين، وزيادة احتمالات الانفصال.

كما تلعب المعتقدات الاجتماعية والدينية دوراً في إعطاء الشرعية للعلاقات الزوجية، لكنها في الوقت نفسه قد تساهم في تكريس الصراعات الداخلية. على سبيل المثال، يمكن للمعتقدات المرتبطة بالولاء الأسري أو القبلي أن تزيد من الضغوط على الأفراد لإبقاء الزواج قائماً، حتى عندما تفشل العلاقة، ما يخلق نوعاً من التوتر المزدوج بين الواقع والمطالبات القيمية. هذه الديناميات تجعل بعض الأزواج يختارون الطلاق كحل أخير للتخلص من الصراع الداخلي، خصوصاً إذا شعروا بعدم توافق القيم أو الفشل في تحقيق مصالحهم الشخصية.

ومن خلال نظرية باريتو حول نزعة الثعالب ونزعة الأسود، يمكن تفسير كيفية إدارة الأزواج للصراعات الزوجية. فالأزواج الذين يظهرون قدرة على المراوغة والتكيف (نزعة الثعالب) يستطيعون تجاوز التحديات اليومية وبناء تفاهمات مشتركة، بينما الأزواج الذين يعتمدون على الصلابة والسيطرة (نزعة الأسود) غالباً ما يزيدون من حدة الصراع، مما يؤدي إلى احتمالات أكبر للانفصال. وبذلك، يبرز أن التوازن بين المرونة والصلابة داخل العلاقة الزوجية يؤثر بشكل مباشر على استقرار الزواج.

كما تلعب عوامل أخرى تتعلق بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية دوراً حاسماً في هذا السياق تتمثل في ضعف الدخل المادي، البطالة، وتغير أنماط الحياة الحديثة يمكن أن تزيد من التوتر الزوجي، وتفتح المجال لصراعات حول القرارات المالية والإدارية.

هنا تتجلى نظرية باريتو في كيفية توزيع النفوذ داخل الأسرة، حيث يسعى كل طرف للحفاظ على مصالحه واستراتيجيته الخاصة، ما يؤدي في بعض الحالات إلى الطلاق.

ومن المنظور السوسيولوجي الأوسع، يمكن القول إن الطلاق ليس مجرد فشل فردي في العلاقة الزوجية، بل مؤشر على ديناميات أكبر في المجتمع، تشمل تغير القيم، التحولات الاقتصادية، والتوتر بين التقليد والحداثة. إن تطبيق مقولات باريتو على هذه الظاهرة يتيح لنا فهم كيف تؤثر النخب الاجتماعية والمعتقدات القيمية على سلوك الأزواج، وكيف يمكن أن يساهم عدم التوازن بين المرونة والصلابة في العلاقة الزوجية في زيادة معدل الطلاق.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.........................

- المرجع المعتمد:

- حسام الدين فياض: الإنسان ما بين الرواسب والمشتقات - نظرية فلفريدو باريتو عن صعود وسقوط النخب السياسية (مع أمثلة تطبيقية على مشكلات السياق العربي)، الناشر نحو علم اجتماع تنويري للدراسات والأبحاث الإنسانية والسوسيولوجية، ماردين، كتاب إلكتروني، ط1، 2025.

في المثقف اليوم