قضايا
ريما آل كلزلي: ظاهرة الاستقلالية المتأخرة

بين التحولات الثقافية والعدوى الاجتماعية
شهد المجتمع السعودي في السنوات الأخيرة تحولات ثقافية واجتماعية جذرية انعكست بشكل مباشر على حياة المرأة، وأثرت على العلاقات الأسرية، وخاصة العلاقات الزوجية. ومن أبرز الظواهر التي انتشرت ظاهرة طلب النساء كبيرات السن للطلاق أو الخلع رغبة في الاستقلال بحياتهن بعد سنوات من الصبر والتضحيات.
تُعرف هذه الظاهرة ب" الاستقلالية المتأخرة"، وهي ليست مجرد حالة فردية، إنما تعبر عن رغبة النساء في استعادة السيطرة على حياتهن الشخصية، وتحقيق ذاتها. في هذا المقال سنتناول هذه الظاهرة من زوايا مختلفة، لمحاولة فهم ما إذا كانت هذه الظاهرة تشوّه نفسي أم فجوة ثقافية.
أولًا: دوافع الاستقلالية المتأخرة
1- الوعي المتزايد بحقوق المرأة
مع الانفتاح الثقافي والاقتصادي الذي شهدته المملكة، أصبحت المرأة أكثر وعيًا بحقوقها القانونية والاجتماعية، هذا الوعي دفع كثيرًا من النساء إلى إعادة النظر في حياتهن الزوجية، خاصة إذا كانت مليئة بالتحديات أو العلاقات السامة.
2- التحولات في دور المرأة
في الماضي، كان دور المرأة محصورًا في المنزل، تعتمد اعتمادًا كليًا على الرجل اقتصاديًا واجتماعيًا، ومع دخول المرأة سوق العمل وتحقيقها قدرًا من الاستقلال المالي، أصبحت قادرة على اتخاذ قرارات أكثر جرأة، بما في ذلك طلب الطلاق أو الخلع.
3- الرغبة في تحقيق الذات
مع تقدم العمر، تشعر بعض النساء أنهن قضين سنوات طويلة من التضحية من أجل الأسرة، وغالبًا ما تنتهي أدوارهن كأمهات ومربيات مع استقلال الأبناء، تدفعهن هذه المرحلة إلى التفكير في احتياجاتهن الشخصية، والبحث عن حياة تتسم بالهدوء النفسي والكرامة.
ثانيًا:
الخلع كظاهرة اجتماعية يمثل نمطًا من أنماط السلوك الذي أصبح شائعًا في المجتمع السعودي نتيجة للتحولات الهيكلية والثقافية، وهي ليست قرارًا فرديًا، بل ممارسة تحمل بُعدًا اجتماعيًا، يتأثر الفرد بالسياق الثقافي العام وبالتجارب المحيطة. وسواء كانت ثابتة أو متغيرة تمارس تأثيرًا ملحوظًا على الأفراد، وهو ما يبدو جليًا في حالة الخلع. حيث أصبح من المقبول اجتماعيًا أن تتخذ المرأة قرارًا كان في السابق يُعتبر جريئًا أو مرفوضًا.
ثالثًا: التحليل الاجتماعي لظاهرة الخلع
بحسب نظرية عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم تُعد ظاهرة الخلع من القضايا الاجتماعية اللافتة التي يمكن تفسيرها في سياق التحولات الثقافية والاقتصادية التي يشهدها المجتمع. تعد هذه الظاهرة انعكاسًا لتغيرات جوهرية في البنية الاجتماعية، وتبدل الأدوار التقليدية، حيث لم تعُد المرأة خاضعة تمامًا للقيود المجتمعية التي كانت تحد من قدرتها على تحقيق استقلالها واتخاذ قرارات جريئة. فعرّف الظاهرة الاجتماعية بأنها:" أنماط سلوكية أو ممارسات تنتشر بين أفراد المجتمع نتيجة تأثير المجتمع ذاته." وأشار دوركايم إلى أن الظاهرة تمتاز بطابعها القهري، إذ تمارس ضغطًا قويًا على الأفراد وتجبرهم بشكل غير مباشر على التفاعل معها أو التكيف مع تأثيراتها باعتبارها قوى مجتمعية تعيد تشكيل السلوكيات والبُنى الاجتماعية. بناء على ذلك يمكن اعتبار ظاهرة الخلع شكلًا من أشكال العدوى المجتمعية التي يؤدي التفاعل الاجتماعي إلى انتشارها. خاصة عندما ترى النساء نماذج لنساء أخريات اتخذن قرار الخلع واستعد الشعور بالإيجابية من خلال تقدير الذات، مما يشجع على اتخاذ قرارات مشابهة ويُسهم في انتشار الظاهرة على نطاق أوسع، وخلق حالة من الجدل والانتقاد.
على الجانب الآخر، يعاني بعض الرجال خاصة الأكبر سنًّا، من صعوبة في التكيف مع هذه التغييرات، فقد نشأ الكثير منهم في بيئة مجتمعية تعزز مفهوم السلطة الذكورية المُطلقة، إذ يتوقع من المرأة أن تستمر في التحمل والخضوع التام وعدم كسر العادات التي نشأ عليها. وعندما تطلب الزوجة الستينية الطلاق، فإن ذلك يعد صدمة نفسية واجتماعية للرجل، خاصة إذا كان ينظر إلى الزواج على أنه عقد دائم، لا يتغير مهما كانت الظروف، فقد يشعر الرجل بالإهانة أو الخيانة، بدلا من الاعتراف بمسؤولياته، أو محاولة فهم دوافع زوجته، وتقبل أدوار المرأة الجديدة كجزء من المجتمع المتغير.
رابعًا: التأثير النفسي أو الاجتماعي
هل يكون الخلع تشوّهًا نفسيًا أم فجوة ثقافية؟
ليس بالضرورة أن يكون الخلع تشوهًا نفسيًا، حين يكون تعبيرًا عن حالة مُلحّة لتحقيق السلام الداخلي. ومع ذلك قد يكون هناك بعض الحالات التي تنطوي على أزمات نفسيّة أو اجتماعية، سواء للمرأة أو الرجل، نتيجة الظروف التي رافقت الزواج أو الحياة المشتركة. لكن العامل الأكبر في هذه الحالة هو الفجوة الثقافية التي أحدثتها التغييرات السريعة في المجتمع السعودي، خاصة فيما يتعلق بتمكين المرأة، وخلق تحديات لم تكن موجودة من قبل.
إن هذه التحولات في المجتمع مازالت تخطو نحو الانفتاح ورفاهية الحياة، ومنها السفر للسياحة وارتياد المطاعم كنوع من الرفاهية، كثقافة انتشرت وكانت في الماضي مرفوضة. كما أن التغييرات خلقت فجوة ثقافية بين الأجيال، إذ تجد الفئات الأكبر سنًا صعوبة في فهم واستيعاب التغيير الذي طرأ على الأدوار في المجتمع. في المقابل، لايزال بعض أفراد المجتمع ينظرون إلى الطلاق أو الخلع كوصمة اجتماعية، خاصة إذا كانت المرأة هي الطرف المبادر. مما يخلق تصادم بين القيم التقليدية والمعايير الحديثة، فتتنج حالة من الجدل والانتقاد.
خامسًا: الحلول الممكنة
قد يكون تعزيز الحوار بين الزوجين من أهم العوام التي تعيد كيفية التواصل بينهما بشكل أفضل، والتعبير عن احتياجاتهم ومخاوفهم. سواء في أجواء عائلية، أو ضمن مراكز تقدم استشارات نفسية وسلوكية لهم، لمساعدتهم على التكيف مع التغييرات التي تطرأ على حياتهم في مراحل عمرية مختلفة.
بالنسبة للخطاب الإعلامي، إن تخفيف الانتقاد أو مهاجمة النساء سيعطي حلولًا أفضل لتفهم الأسباب الحقيقة لهذه الظاهرة والتعامل معها بموضوعية. طالما ثقافة الاحترام تنبع من صميم الخلاق وديننا الحنيف. وكي يتاح للأجيال القادمة احترام الآخرين، الرجل والمرأة على السواء، وعد الحكم عليهم بناء على المعايير التقليدية فقط.
في الختام، طلب الطلاق أو الخلع من قِبل كبيرات السن ليس ظاهرة تستحق الإدانة او السخرية، بل هو انعكاس لتحولات اجتماعية وثقافية عميقة يمر بها المجتمع السعودي. يحتاج الرجل والمرأة والمجتمع ككل إلى التكيف مع هذه التغيرات بطرق إيجابية، مع التركيز على تحقيق التفاهم والاحترام المتبادل.
فالزواج الناجح لا يُقاس بمدى استمراره، بل بمدى تحقيقه للراحة النفسية والسعادة التي تنطوي تحت الّسّكِينة، كما جاء في قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم: 21).
ليس من مطلب أعظم من الاستقرار والسكينة اللذين يمثلان جوهر العلاقة الزوجية، ومتى فقدت العلاقة هذا الجوهر، يصبح من الطبيعي البحث عن حلول تحقق الكرامة والراحة النفسية لكل طرف.
***
ريما آل كلزلي
.......................
الهوامش:
1- دوركايم، إميل (1885): قواعد المنهج السيسيولوجي. ترجمة: عبد السلام بن عبد العالي. دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 1988م.