قضايا
مصطفى غلمان: الخوف من/ في الإعلام؟

كثيرا ما يطرح سؤال الخوف، كرابط اجتماعي عاطفي، في حدود التجربة الإنسانية، أو القلق الكينوني؟
ولم يكن مستساغا أن تُبكَّر ثقافة الخوف، من منظور أخلاقيات الإعلام، كنتاج لتداعيات الشعور بالهزيمة النفسية، أو الاهتزاز السلوكي الطبيعي. لكن القيمة الحقيقية لهذا الشعور المتوتر والبدهي، خصوصا في حقل خطير كالإعلام، يعي القيمة الحقيقية لاستقبال المعلومات (المعرفة)، وتأثيراتها في المجتمع والقيمة، سيكون لها نصَب وفير من اللامعنى، مقابل ما تفرزه الوضعيات السلوكية للأفراد والجماعات من تعذيب وتنافر عقلي، فيما يسميه إيكتيتوس ب"الاستجابة لبكاء الروح" أو "محاولة لفهم أنفسنا وتحريرها من قبضة مخاوفنا وأحزاننا".
ومكمن الخوف من/ في الإعلام، ليس في ذاته بالضبط، بل في فهمنا لطبيعة وجوده وقدرته على تشكيل الحواجز والخلفيات التي تؤطر تخيلاتنا السلبية تجاه قضايانا المصيرية. إذ غالبا ما تنكفئ فكرة قراءة الواقع انطلاقا من معابر ترديدات الاعلام وآلياته المتحولة، مع ما يحمله الآن من توجسات واحتدادات في قدرته على التأثير في الوعي الاجتماعي والثقافي، ما يجعل من "فعل التجارب" منزلة أشد قسوة من خوف التجارب عينها.
وكما أن للقيمة المعرفية في نسق الاعلام، أبنية ومبادئ تقوم عليها، فإن أوعية هذا النسق تظل قريبة من ترصدات السلطة وعيونها السارحة المفتوحة، توفر هامش التمدد والانصراف إلى مواجهة الأعباء المعيشية، بغير قليل من التبصر والمكابدة واستنفار الظروف والتحرر من وهم الانهيار المفاجئ.
على أن انتصار الخوف بإزاء طفرة الإعلام، لا يمكن أن يمنحنا شجاعة كافية لتبديد نظرتنا المدركة لحجم التقائية الرغبة في الاكتشاف أو التعلق المطبع مع العوالم اللايقينية، أو حتى التعايش مع عشوائيتها العذبة. فالخوف من صناعة الاشكال النافرة من داخل الاعلام الجديد، في شكله المبتوت في "البروبجندا" و"تحريف الأخبار" و"نشر التفاهة".. إلخ، هو تأكيد فلسفي لمتاهة "الذعر اللاأخلاقي" وتكريس قيمة التخلص من "القدوة" و"التعلم من دروس الحياة". يقول سينيكا :"ما يجعل الأمور تبدو مخيفة عما هي في الحقيقة، هي أنها غير مألوفة بالنسبة لنا، ولعل التأمل المتواصل، سيضمن لك إذا أصبح عادة لديك، أنه لا تجدك الصعاب حديث عهد بها".
إن المنظورات القابعة في وثن الإعلام اليوم، هي في حدها المجازي تنطق أحولا ومفارقات وتناقضات جمة، ما يعني أن تتحول المنظومة من علامة مجتمعية ذات عمق ثقافي هوياتي رمزي، إلى مفرزة مشرعة لحاجات الرأي العام، الذي لا يخصص وجهته، وسط تزايد نفوذ السلط الاجتماعية في وسائل التواصل السريعة، إلى ما يشبه الحفر العالقة في مستنقعات القوى النافذة والباطشة، والتي وصفها دافيد ديسلير ب"المكنسة التي تعيق أرضية الانطلاق"، في إشارة إلى استحواذها على القواعد المؤسسة لوجودها الحتمي، حابلها ونابلها، فتفرز بكشطها المعولم كل الدوافع والارتهانات التي تقوم عليها سلطتها، بما في ذلك مظاهر التحشيد واللعب على الحبال.
إن الخوف من/ في الإعلام، هو إذن نبت مختلط من القلق والغضب. القلق الذي هو حق في دورة حركة التفكير. والغضب الذي هو انفعال قد لا يعدل حجم اعتقادنا بما هو أفضل. أما ما يصير في حكم تقديم الاعلام، كفزاعة لتفكيك المجتمع أو التأثير على قيمه وأنماطه السلوكية والثقافية والاجتماعية، فأمر يخالف الوظيفة أو الرسالة التي وضع لأجلها. إذ إن قيمة الإعلام تكمن في نهضته بالإنسان، كرافعة لبث المعرفة، وتحويلها إلى إيتيقا، تعمل على تجسير الرؤى وامتلاك الجرأة والشجاعة لقول الحقيقة، وتأويل الشكوك إلى أرضيات نقاش وتبصر وتمحيص وبحث مستميت عن المعنى. كل ذلك، يكون وفق حركات متنوعة ونوعية، تكبح الاختراقات المتكالبة الفجة، وتضمن اكتساب الصلابة والنجاعة الأخلاقية، دون اضطراب أو غموض.
إنها حالة تدعونا إلى إزاحة التباس "تمجيد الخوف" وتطويع أسلوب نظرتنا تجاه إعلام لا يحمل في رصيده الاعتباري، أي قبح أو صراخ مبيت؟.
***
د. مصطفى غَلــــمَــان