قضايا

منصور الجمري: تحرير الدين من أغلال الأيديولوجيا عند الرفاعي

سعدت بلقاء المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي في بغداد. الجلوس معه يمنحك زخماً لفهم الواقع من دون قيود الماضي التي تكبلك وتمنعك من الانطلاق إلى المستقبل. الرفاعي كان متخصصاً في الزراعة، ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف، حيث بلغ مراحل عليا في الدراسة الدينية، قبل أن ينتقل إلى حوزة قم، وأكمل دراسته لعلوم الدين حتى بلوغه مرحلة الاجتهاد. إلى جانب ذلك، حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وقدم مؤلفات وبحوثاً رصينة، أصبحت مادة لعشرات من أطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير في جامعات عربية وأجنبية.

يمتاز الرفاعي بتواضعه، رغم عمق فكره، وبمواصلته للبحث العلمي رغم ضغوط الحياة. كما يتميز بجرأته في تقديم أطروحات جديدة في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. لا يكتفي بالنقد، بل يطرح بدائل واضحة ومؤسسة. فعندما ينتقد علم الكلام الموروث، يقدم مشروع "علم الكلام الجديد"، وحين ينتقد المناهج القديمة لقراءة النصوص الدينية يقدم رؤية بديلة لتفسيرها، وحين ينتقد التقديس المفرط المانع للتفكير، يتخذ المنهج الأكاديمي، ويقدم بحوثاً موثقة تمكن القارئ من تتبع مصادرها وفهم آليات تفكيرها ومساءلتها. الأفكار الحية هي التي تقبل التخطئة، بينما الأفكار المكبلة تنتهي إلى التقديس غير القابل للنقاش. فكر الرفاعي يجمع بين العمق الأكاديمي والاستيعاب للتراث والجرأة النقدية، مع تركيزه على إعادة تعريف الدين كقوة إيجابية تعزز الإنسانية والكرامة والحرية والمساواة. وقد تميزت أطروحاته بتجديد رؤيتنا للدين وتفكيك الخطابات المغلقة. يرى الرفاعي أن علم الكلام التقليدي بات عاجزاً عن مواكبة تحولات العصر، واحتياجات المسلم الروحية والأخلاقية والجمالية، ولذلك يدعو إلى "علم كلام جديد" يتفاعل مع الفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية، ويعيد قراءة النصوص الدينية برؤية إنسانية، تستلهم معطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع.

يشدد الرفاعي على ضرورة الفصل بين الدين ونظم وإدارة الدولة، معتبراً أن الخلط بينهما يشوه روح الدين الأصيلة، ويحول الدين إلى أداة للصراع، ويفسد الدين والدولة. الدين، في نظره، ليس مجرد عقيدة أو طقوس، بل حاجة وجودية عميقة، مرتبطة ببحث الإنسان عن المعنى والخلاص الروحي. ويحذر من تحول الدين إلى أيديولوجيا مغلقة تصادر العقل وتقمع حرية التفكير، ويدعو إلى فهمه بوصفه منظومة من القيم الروحية والأخلاقية والجمالية. ينتقد الرفاعي بشدة الهويات المغلقة، الدينية والعقائدية والطائفية والعنصرية، التي ترفض الحوار وتكرس العنف والتطرف، ويدعو إلى هويات منفتحة قائمة على "الصيرورة والتشكل المتواصل للهوية"، بدلاً من الجمود والانغلاق. ويؤكد على أن "أوهام الهوية والخصوصية" عطلت المجتمعات الإسلامية عن مواكبة العصر. كما يؤكد على ضرورة إعادة قراءة التراث الديني بمناهج نقدية، تحفظ جوهره الروحي والأخلاقي والجمالي، وينتقد القراءات الحرفية للنصوص التي تفضي إلى "لاهوت قشري" يفتقر إلى العمق. ويرى أن القيمة المركزية في الدين هي المحبة والرحمة وحماية الكرامة والحرية، ويندد بالخطابات الدينية التي تروج للعنف والتعصب، داعياً إلى تدين يعزز التعايش والسلم الاجتماعي.

***

د. منصور الجمري

كاتب من البحرين، رئيس التحرير السابق لصحيفة الوسط الصادرة في البحرين لمدة 14 سنة.

في المثقف اليوم