قضايا

مجدي إبراهيم: الاستبصار

يعمل العقل كما يعمل الفرن، والخبز الموجود فيه هو الإنتاج، والنار التي تطيّب الخبز هي القراءة الدائمة هي الوقود. إذا توقفت القراءة توقف الإنتاج، وكلما أعطيت العقل زاده من القراءة والتأمل أعطاك زادك من الإنتاج، ما رأيت آلة تعمل بغير ملل كما الفرن قدر ما يعمل العقل بوقود القراءة والتأمل.

العقل كالفرن البلدى قبل ظهور الصناعات الحديثة. لا يمكن أن يشتغل إلا بأكوام الوقود الدائم، ووقود العقل القراءة والتأمل والاستبصار كلما شحنته بالقراءة وتأملت المقروء واستبصرته جيداً، ومضت الأفكار في رحم العقل كما يومض الخبز تحت لهيب النار المشتعلة من وقود الفرن، ولا يمكن لكاتب أن يكتب كتابة جيدة بغير قراءة وتأمل واستبصار.

 أما القراءة فعرفناها، وأما التأمل فموقوف عليه معلوم، فماذا عساه يكون هذا الاستبصار؟

الاستبصار: هو أعلى المراحل في العملية الإبداعية كالرغيف الساخن تسحبه من القرن بعد استوائه هو الكتابة الإبداعية المنفردة بعد القراءة التي كانت مرحلة أولى، وبعد التأمل الذي يأتي كمرحلة ثانية: فالذي يشعل الوقود ليجعل منه ناراً ملتهبة هو التأمل، لكن لا القراءة وحدها ولا التأمل وحده يكفيان لتمام العملية الإبداعية كما لا يكفى الوقود بلا اشتعال، ولا يكفى الوقود مع الاشتعال أيضاً وليس في الفرن دقيق معجون ليصير خبرا شهيا.

إلى هنا ولم تصل بعد إلى حالة الاستبصار هذه.

العجيب في الأمر أن حالة الاستبصار خارجة عن العقل تماماً كما يكون رغيف الخبز خارج عن الفرن مع أن هذه الحالة الاستبصارية نتيجة لمراحل سابقة، ولكنها في ذاتها مفارقة لها بمقدار ما يفارق رغيف الخبز ما خرج عنه من وراء مراحل سبقت وجوده وأنشأت تكوينه وشاركت صورته النهائية.

الاستبصار بالنسبة للعقل كرغيف الخبز بالنسبة للفرن: شكل نهائي تجسده الكتابة الإبداعية في مراحلها الأخيرة تماماً كما تجسد عملية الإعداد من وقود واشتعال ومادة هي الدقيق المعجون، رغيف الخبز هذا الذي بين يديك.

فما يخرج من العقل هو الكتابة، كما يخرج عن الفرن الرغيف، لكن ليست كل الأرغفة التي تخرج عن الفرن صالحة للاستخدام الآدمي فها هو رغيف محروق، وهذا آخر زابل تالف هزيل ردئ، وذاك ضخم عجينه مخلوط بعشب الأرض ولوثة الهفاف المتطاير في الهواء، وعلة هذا كله هو فارق الصناعة بين جيدة ورديئة والاستبصار في الكتابة هو الذي يقوم مقام الصناعة في الفرن، فإذا وجد الاستبصار وجدت الكتابة الإبداعية، وإذا لم يوجد فقدت الكتابة الجيدة وأصبحت كرغيف فاسد محروق لا يصلح للغذاء.

أما عن كنه الاستبصار: فالخيال عالمه العظيم وفلكه الذي يسبح فيه ويخلق ما لم يكن مخلوقاً، مع تعدد الصور المعرفية والمرائى الوجودية عليه، لذلك كانت كل إبداعات أهل الله من العارفين هي استبصار يجند ذائقة البصيرة ويوظفها توظيفاً يرتد إلى حالة العارف، ويعلو فوق حدود العقل المحدود، ويأخذ بالتجربة والمعاناة، وهي تشمل الوعى العالي بما يتكاتف فيه العقل مع الروح فلا العقل وحده يكفى ولا الحس وحده يكفى ما لم يكن الإدراك الأعلى وهو إدراك البصيرة الذواقة أسمى في تلك التجربة الفياضة بذوق المعاناة العارفون يقولون من ذاق عرف.

 وليس من ذوق خارج نطاق التجربة، والتجربة في هذه الحالة هي التي تقودك ولست أنت القائد ولن تكون التجربة هي التي تفعل، ولست أنت الفاعل ولن تكون هنا يكون التخلى عجباً من أعاجيب القدرة: أعنى التخلى عن وهم تمثل في الوعى المحفوظ دوماً بالأنانية، واستبداله بمحيط السلامة النفسية بداية حين تتحلى بمجموعة قيم علوية تعتقدها وتدين لها بكل الولاء، وشيئاً فشيئاً تصبح عادة التحلى طبعاً لا يقبل الانفطام، ولا التخلى عنه بحال. بقاءك مرهون بعقيدتك في هذه الحالة ما في ذلك شك، وتقدمك موقوف على الولاء كل الولاء لما تدين مما عساك تحليت به في السابق وتزكيت.

لأبي العباس المرسى إشارة يقول فيها: إن لله عباداً محق أفعالهم بأفعاله، وأوصافهم بأوصافه، وذاتهم بذاته وحملهم من أسراره ما يعجز عامة الأولياء عن سماعه.. لأنهم صاروا بالحق بعد التجربة مع الله، ولكونهم بالحق في كل قول ذي صدق مع عمق كلام هو لا يحتاج إلى تذويق بل إلى تذوق؛ لأنه يخرج عن أسباب الإيمان والتقوى.

***

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم