دراسات وبحوث
محمد محفوظ: النظرية الثقافية عند مالك بن نبي
مفهوم الثقافة: الثقافة بعناصرها وآفاقها تشكل نوراً يضيء أمام الإنسان سبل الحياة، ويجعله يرى الأمور بمصباح العقل ويضاء في دروبها طريقة التعامل مع الأشياء والقضايا المختلفة.. أنها (الثقافة) دعوة مستمرة للمعرفة والفهم والوعي. وبالتالي فأنها تكتنز قدرة خلاقة، تمكن المرء من تحويل طاقاته وإمكاناته إلى إنجازات وأفعال ترجع بالفائدة عليه وعلى وطنه ومجتمعه وربما يصح على ضوء هذه الحقيقة قول (هوريو) ف الثقافة من أنها ذلك الذي نحتفظ به حينما ننسى ما تعلمناه.. من هنا تعتبر نتاجاً لبعدين أساسيين:
1. نتاج لتراكم تاريخي يعيش عبر عدة أجيال، ويضيف كل جيل ويلغي، بما يتناسب وظروفه ومحيطه الاجتماعي والحضاري.
2. نتاج معاصر، فهي أيضاً نتاج للتفاعل الإجتماعي القائم، وبرغم كونها (الثقافة) نتاجاً للتفاعل الا أنها بمجرد تشكلها، فإنها تتحول إلى هذا التفاعل لتشكله حسب قوالبها الخاصة، وتضبط سلوكياته وترفعها في إتجاهات محددة.. لهذا فإن لكل ثقافة بيئة محلية وتاريخية ومجتمعية، ولها توازناتها الذاتية المستمدة من معطى المنابع والمصادر الأصلية لهذه الثقافة، ومعطى الواقع وتفاعلاته، لذلك فإن لكل ثقافة شخصية متميزة عن الثقافة الاخرى.
لهذا فإنه من الطبيعي أن يتعدد مفهوم الثقافة بتعدد الإيدلوجيات والإنتماءات المعرفية المختلفة حتى بلغت نحو (١٦٠) تعريفاً، حسب رأي عالم الانثربولوجيا الفرد كروبر وكلاسكهون.. ومن هنا تنبع أهمية تحديد مفهوم الثقافة، بإعتباره يشكل الأرضية والقاعدة التي تنطلق منها جميع المناشط الثقافية.
والثقافة في منظور علماء الإنسان والأثروبولوجيا هي: المضاف الإنساني إلى حالات الطبيعة أي كل المكتسبات والإنجازات النظرية والعملية التي أنتجها الإنسان في تاريخه الإجتماعي.
وعرفت الثقافة في قاموس أكسفورد بأنها: الإتجاهات والقيم السائدة في مجتمع معين، كما تعبر عنها الرموز اللغوية والاساطير والطقوس وأساليب الحياة ومؤسسات المجتمع التعليمية والدينية والسياسية.
ويعرف إدوارد تايلور الثقافة في كتابه " الثقافة البدائية " الذي نشره ف عام (۱۸۷۱م) بأنها: هذا الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والإعتقاد والفن والحقوق والاخلاق والعادات، وكل قدرات وأعراف اخرى إكتسبها الإنسان كفرد في مجتمع.
ويفرق الكاتب وليام او جبرن في الثقافة بين مجالين، يطلق على أحدهما الثقافة المادية وعلى الأخرى الثقافة المتكيفة.. فالمجال الاول يضم في رأيه الجانب المادي من الثقافة أي مجموع الأشياء وأدوات العمل والثمرات التي تخلقها.. ويضم المجال الثاني الجانب الإجتماعي كالعقائد والتقاليد والعادات والأفكار واللغة والتعليم، وهذا الجانب الاجتماعي هو الذي ينعكس في سلوك الأفراد.
وعرفت المنظمة العالمية (اليونسكو) (UNESCO (الثقافة بقولها: أن الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن ينظر اليها على أنها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة إجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرئق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات.
وعلى هذا فأن الثقافة تعني كل ما ينتجه المجتمع من نتاج مادي أو معنوي.
كيف ينظر مالك بن نبي إلى مفهوم الثقافة؟
بعد ان ينتقد بن نبي مفهوم الثقافة في المدرسة الغربية والمدرسة الاشتراكية، ويحدد رؤيته لمفهوم الثقافة بقوله: فالثقافة إذن تتعرف بصورة علمية على أنها: مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته. وهذا التعريف الشامل للثقافة هو الذي يحدد مفهومها، فهي المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر، وهكذا نرى أن هذا التعريف يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان، وفلسفة الجماعة، أي معطيات الإنسان ومعطيات المجتمع، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد تحدثه عملية التركيب التي تجرها الشرارة الروحية، عندما يؤذن فجر احدى الحضارات.. (1)
وانطلاقا من هذا المفهوم للثقافة ووظيفتها المجتمعية يقوم بن نبي بربطها بالتاريخ والتربية حتى تشكل الثقافة نسقاً متكاملاً.
فالثقافة هي أولا محيط معين، يتحرك في حدوده الإنسان، فيغذي إلهامه، ويكيف مدى صلاحيته للتأثير عن طريق التب ادل والثقافة (جو) من الألوان والأنغام والعادات والتقاليد والاشكال والاوزان والحركات، التي تطبع على حياة الإنسان اتجاها وأسلوباً خاصاً يقوي تصوره، ويلهم عبقريته، ويغذي طاقاته الخلاقة.. إنها الرباط العضوي بين الإنسان والاطار الذي يحوطه.. وعلى ضوء هذه الحقيقة عرف مالينوفسكي (الثقافة بأنها الحرف الموروثة والسلع والعمليات الفنية والأفكار والعادات والقيم والبناء الاجتماعي والمواثيق التي تتعاهد الجماعات والمختلفة والأفكار والأعراف، فهي كل ما نعيشه وكل ما نلاحظه، أو هي باختصار كل ما يتعلق بعملية تنظيم بني البشر في جماعة.
مشكلة الثقافة
تقوم مشكلة الثقافة على تحديد يشمل أساساً الناحيتين الحيوية والتربوية، فالثقافة في مهمتها التاريخية، تقوم بالنسبة للحضارة بوظيفة الدم بالنسبة للكائن الحي، فالدم ينقل الكريات البيضاء والحمراء التي تصون الحيوية والتوازن في الكائن كما تكون جهاز مقاومته الذاتية.
وان مشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الافكار، ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه، فهو بصفة عامة قوة في الاساس وتوافق في السير ووحدة الهدف فكم من طاقات وقوى لم تستخدم لأننا لا نعرف كيف نكتلها، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفهت حين زاحمتها قوى أخرى صادرة عن المصدر نفسه متجهة إلى الهدف نفسه..
فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت فهناك ملايين السواعد العاملة، والعقول المفكرة في البلاد العربية والإسلامية، صالحة لأن تستخدم في كل وقت والمهم أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية، وهذا الجهاز حي يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود، وفي هذا تكمن أساس فكرة توجيه الإنسان وإرشاده نحو المأمول.. وبلغة الاجتماع: الإنسان الذي يكتسب من فكرته الدينية معنى الجماعة ومعنى الكفاح، وليس يكفي مطلقاً أن ننتج أفكاراً بل يجب أن نوجهها طبقاً لمهمتها الاجتماعية المتحدة التي نريد تحقيقها.
يقول توماس هوبزان أن الثقافة في أحد معانيها ومفاهيمها تعني عمل يبذله الإنسان لغاية تطويرية، وحسب رأي مائيو ارنولد من أن الثقافة تقوم بعملية الارتقاء نحو الكمال الإنساني، وتتم بتمثل أفضل الافكار التي عرفها العالم، وبتطوير الخصائص الإنسانية المميزة. لذلك فإن الثقافة عامل مهم من عوامل رقي المجتمعات وتقدم الأمم.. وحتى تمارس الثقافة دورها النهضوي والتطويري في المجتمع من الضروري تحديد عناصر الثقافة لإنجاح مهمتها في المجتمع.
عناصر الثقافة
وعناصر الثقافة عند مالك بن نبي الآتي:
1. التوجيه الاخلاقي: لسنا هنا نهتم بالاخلاق من الزاوية الفلسفية ولكن من الناحية الإجتماعية وليس المقصود هنا تشريع مبادىء خلقية بل نحدد قوة التماسك اللازمة للافراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية، هذه القوة مرتبطة في أصلها بغريزة الحياة في الجماعة عند الفرد، والتي تتيح له تكوين القبيلة والعقيدة والمدنية والأمة وتستخدم القبائل الموغلة في البداوة هذه الغريزة لكي تتجمع. والمجتمع الذي يتجمع لتكوين حضارة فإنه يستخدم نفس الغريزة ولكنه يهذبها ويوظفها بروحية خلقية سامية هذه الروح الخلقية منحة من السماء إلى الأرض، تأتيها من نزول الاديان، عندما تولد الحضارة ومهمتها في المجتمع ربط الافراد بعضهم ببعض، كما يشير القرآن الكريم (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم)..
2. التوجيه الجمالي: لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، فإأن لمنظرها القبيح في النفس خيال أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صوره قبيحة لا بد أن يظهر أثر هذه الصورة في أفكاره وأعماله ومساعيه والأفكار بصفتها روح الاعمال التي تعبر عنها أو تسير بوحيها، إنما تتولد من الصورة المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه، وهنا تصبح صورا معنوية يصدر عنها تفكيره فالجمال الموجود في الأطار الذي يشتمل على الوان وأصوات وروائح، وحركات وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره ويطبعه بطابعه الخاص من الذوق الجميل، أو السماجة القبيحة.. فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعاً إلى الإحسان في العمل وتوخياً للكريم من العادات.
3. المنطق العملي: لسنا نعني بالمنطق العملي ذلك الشيء ال ذي دونت أصوله ووضعت قواعده منذ أرسطو وإنما نعني به كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه، وذلك حتى لا تستسهل أو تستصعب شيئاً بغير مقياس يستمد معاييره من واقع الوسط الاجتماعي وما يشمل عليه من إمكانيات أنه ليس من الصعب على الفرد المسلم أن يصوغ مقياساً نظرياً يستنتج به نتائج من مقدمات محددة غير أنه من النادر جداً ان نعرف المنطق العملي أي استخراج اقصى ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة. ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق العملي في حياتنا، لأن العقل المجرد متوفر في بلادنا غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه فشيء يكاد يكون معدوماً. واذا ما اردنا حصراً لهذه القضية فأننا نرى سببها الاصيل في افتقادنا الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه، بين سياسة ووسائلها، بين ثقافة ومثلها، وبين فكرة وتحقيقها، فسياستنا تجهل وسائلها، وثقافتنا لا تعرف مثلها العليا، وأن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله وفي كل خطوة نخطوها.
4. الصناعة (الفن التطبيقي): لا نعني بالصناعة ذلك المعنى الضيق المقصود به اللفظ بصفة عامة في البلاد الإسلامية فإن كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم تدخل في مفهوم الصناعة ومن المسلم به أن الصناعة للفرد وسيلة لكسب عيشه وربما لبناء مجده ولكنها للمجتمع وسيلة للمحافظة على كيانه واستمرار نموه.
وهذه العناصر الاربعة تتكامل لكي تشكل نسقاً يبدأ من الفكرة وينتهي بالإنتاج، وينبغي القول في هذا الاطار أن اختلاف مضامين الثقافات يؤدي إلى اختلاف الآثار على المستوى المجتمعي. فإذا كانت مضامين الثقافة صالحة - دينامية - فإن هذه الثقافة ستكون عاملا مهماً من عوامل النهوض بالحياة الاجتماعية. وإذا كان مضمون الثقافة فاسداً سيئاً فأنها ستؤثر على فاعلية المجتمع وتجعل النمو الاجتماعي صعباً أو مستحيلاً.
ويعلمنا التاريخ أن عالم الأفكار هو الأساس في عملية النهوض الحضاري لأي مجتمع، بمعنى أن بقاء نظام الافكار سليماً وفاعلاً سوف ينقل المجتمع إلى الواقع الاحسن. ويشير إلى هذه المسألة بن نبي بقوله: لقد ارانا تاريخ المانيا الحديث، كيف أن بلداً شهد الانهيار الكامل لعالم أشيائه قد استطاع باحتفاظه بعالم أفكاره أنيبني كيانه من جديد.
وتأتي العناصر الثقافية التي قام ببلورتها (مالك بن نبي) في أطار البحث عن أطر علاجية للمشكل الحضاري الذي تعانيه الامة العربية والإسلامية اذ سعى إلى بلورة المشروع الثقافي - الفكري، الذي يقاوم خطر التحلل والاندثار الحضاري التي كانت تعانيه الأمة من جراء المرحلة الاستعمارية البغيضة وتداعياتها المختلفة على مستوى الأمة أجمع.. لهذا فإن الجهد الفكري والنظري الذي بذله (بن نبي)كان بمثابة خط الدفاع الأول اتجاه حركة التفكك الطاحنة التي كان يتعرض لها المجتمع العربي - الإسلامي.
ويأتي اهتمام بن نبي بالثقافة وضروراتها في البناء الحضاري لما تشكل من أهمية قصوى لأنها تلخص تجربة المجتمع ووعيه بذاته ومحيطه. وجاء هذا الاهتمام في زمن بدأ الابتعاد التدريجي عن ما هو ثقافي ودوره التاريخي والحضاري، إلى ما هو سياسي كنظرية وممارسة.. " وهكذا يمكن القول ان الاهتمام بالثقافة لذاتها، أي لما تعبر عنه وما تمثله في النسق الاجتماعي بقي اهتماماً ضعيفاً في العالم العربي واعتبرت الثقافة بشكل عام أقل قيمة في إحداث التغيير الاجتماعي من العوامل السياسية والاقتصادية، بالرغم من حصول المناقشة كلها تقريباً في الميدان الثقافي، ولم يهتم الدارسون العرب بالثقافة إلا من زاوية ما تستطيع أن تقدمه من دعم للممارسة لسياسية او الاجتماعية " (۲). لهذا فأن اهتمام (بن نبي) بالثقافة أعاد لها الاعتبار ووضح دورها في النهضة ووظيفتها المعرفية والاجتماعية، وهو بهذا لا يعزل الثقافة كأفق وحركة عن حقل الحضارة والعلاقة مع الآخر الحضاري، كما انطلق بن نبي ف بلورة نظريته الثقافية، من واقع اتصال الثقافة بالحضارة واعتبارها أحد الحقول المهمة للحضارة.
لهذا كله فأن الثقافة ميدان أساسي، ينبغي ان توليه العناية الفائقة وبالخصوص في هذه الحقبة من الزمن الذي كثر فيه الحديث عن النظام الدولي الجديد.. والعناية بهذه الثقافة من الضروري أن تصل إلى مستوى التجديد والابداع الثقافي - لأن بقاءنا نستهلك الثقافات والافكار التي صنعها الغير في ظروف مختلفة عن ظروفنا، يحولنا إلى امة جامدة لا تستطيع بناء نفسها بما ينسجم ومتطلبات العصر، فضلاً على أن التجديد الفكري والثقافي، هو الذي يكشف عن عوامل الحركة والتطور ويعمقها في البناء الاجتماعي.
وأخيراً اذا ادرك الإنسان العربي والمسلم أهمية الثقافة ودورها في الوجود الاجتماعي، فسوف يمكنه ان يدرك حقيقة الدور الذي يناط به في نهايات القرن العشرين.
خصائص النظرية الثقافية
أن التطورات والتغيرات السريعة التي تجري في بقاع العالم قاطبة، تؤكد علينا جميعاً ضرورة القيام بمراجعة فكرية - ثقافية، نكتشف من خلالها أصولنا الفكرية ومفاهيمنا الاصلية كخطوة أولى في سبيل أعادة تأسيس لمفاهيمنا ومقولاتنا الفكرية والثقافية، لكي تشارك بفكر فاعل وثقافة ناهضة في تطورات العالم ومنعطفاته الحضارية.
وبما أن المسألة الثقافية تلخص تجربة الأمة والمجتمع، ووعيها بذاتها ومحيطها فهي تشكل نافذة أساسية يطل من خلالها المرء على العالم وأحداثه وتطوراته. وعن طريق الجهاد الفكري والمعرف تتحول الثقافة في محيطنا الخاص والعام إلى ثقافة فاعلة وإيجابية، وتنقل الكتل البشرية المختلفة من موقع الصمت السلبي أو الاستهلاك الدائم، إلى موقع المشاركة الإيجابية ف مسيرة المجتمع والوطن.
وتأسيسا على هذه الحقائق من الأهمية بمكان أن نتعرف على خصائص النظرية الثقافية عند (مالك بن نبي) لما تشكله هذه الخصائص من جوهر كتاباته وإنتاجه الثقافة وبنود وأركان مشروعه الثقافي - الفكري.. وهذه الخصائص هي كالآتي:
1. التجديد والإبداع: وتتحلى هذه الخاصية، حينما يتحدث (بن نبي) عن شروط الحضارة ويقول: أن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية - مشكلة الإنسان - مشكلة التراب - مشكلة الوقت - فلكي تقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بان نكدس المنتوجات وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها..
وحتى تؤتي هذه العناصر ثمارها، لابد من وجود مركب الحضارة وذلك في أن مجموعها ناتجا للإنسان والتراب والوق، فلما لا يوجد هذا الناتج تلقائيا حيثما توفرت هذه العناصر الثلاثة ؟ وأنه لعجب يزيله اقتباسنا للتعليل الكيماوي... فالماء في الحقيقة نتاج للهيدروجي والاوكسجي وبرغم هذا لا يكونانه تلقائياً، فقد قالوا أن تركيب الماء يخضع لقانون معين يقضي تدخل (مركب) ما، بدونه لا تتم عملية تكون الماء.. وبالمثل لنا الحق في أن نقول: ان هناك ما يطلق عليه (مركب الحضارة) أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض، فكما يدل عليه التحليل التاريخي تجد أن هذا المركب موجود فعلاً، هو الفكرة الدينية التي رافقت دائما تركيب الحضارة خلال التاريخ.
ويوضح بن نبي هذه العناصر كالتالي:
الإنسان: إن المشاكل التي تحيط بالإنسان تختلف بإختلاف بيئته... فالإنسانية لا تعاني مشكلة واحدة بل مشاكل متنوعة تبعا لتنوع مراحل التاريخ... فلا يمكن لنا أن نقرن في الوقت الحاضر (بتعبير مالك بن نبي) بين رجل أوروبا المستعمر ورجل العالم الإسلامي القابل للاستعمار، لأن كليهما في طور تاريخي خاص به... فالأمر في الحالة الأولى يتعلق بحاجات غير مشبعة وديناميكية، مضطربة، على حين يتعلق في الاخرى بعادات راكدة وضعت للفرد في حالة توازن خامد، وحمول تامة، في الوقت الذي خطت فيه الحضارة خطوات العماليق. وعليه فالأمر متصل بمشكلتين مختلفتين في أساسهما، فهنالك هم في حاجة إلى مؤسسات بينما نحتاج هنا إلى رجال، فمن الرجل تنبع المشكلة الإسلامية بأكملها. ومشكلة الإنسان في أساسها لا تعالج إلا بتوجيه ثقافته، وتصفية العادات والتقاليد الميتة ف نفسيته وتنمية روح الإبداع لديه.
التراب: وهو أحد العناصر الثلاثة التي تكون الحضارة فإذا ما توفر المركب الديني لتركيب هذه العناصر فأننا نرى التراب في بلاد الإسلام جديراً ببحثه كعامل من عوامل الحضارة وحينما تتكلم عن التراب لا نبحث في خصائصه وطبيعته ولكننا نتكلم عنه من حيث قيمته الاجتماعية وهذه القيمة الاجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة وحضارتها متقدمة يكون التراب عالي القيمة وحيث تكون الأمة متخلفة يكون التراب على قدرها من الانحطاط.
الوقت: بتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والإنتاج وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد وهو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط فتكوين المعاني والأشياء فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كان ولا يزال يفوتنا قطارها، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا ويشير عمر كامل مسقاوي إلى الإبداع الثقافي عند بن نبي بقوله: فقد جاءت أفكار بن نبي حول مفهوم الثقافة برؤية جديدة لم تألفها المصطلحات المستوردة التي تمت صياغتها في إطار الفكر الليبرالي أو في إطار الفكر الاشتراكي التقدمي لذا شعر أستاذنا مالك بن نبي بالحاجة إلى جميع أفكاره حول الثقافة وعرضها من جديد، في صورة تحليلية تحفز الفكر العربي والإسلامي، وتحركه باتجاه اكتشاف الحقائق والمصطلحات بوسائل خاصة ووفق المعطيات النابعة من تجربته (3)..
وتتجلى قيمة الإبداع من الإنتاج الفكري لدى مالك بن نبي حينما يقول: أن التاريخ لا يصنع بالاندفاع في دروب سبق السير فيها، وإنما بفتح دروب جديدة، ولا يتحقق ذلك إلا بأفكار صادقة تتجاوب مع جميع المشاكل ذات الطابع الأخلاقي وبأفكار فعالة لمواجهة مشكلات النماء في مجتمع يريد إعادة بناء نفسه (4).
والتجديد الثقافي الذي ينشده مالك بن نبي في العالم العربي والإسلامي يتحقق بطريقتين:
1 - سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي.
2- إيجابية تصلنا بالحياة الكريمة.
ويضرب (بن نبي) على ذلك بمثال من واقع الثقافة الغربية اذ يقول "ولعل أثر هذه النظرية قد لوحظ في الثقافة الغربية في عهد نهضتنا حيث كان توما الإكويني – ولو كان عن غير قصد منه لتكون الأساس الفكري للحضارة الغربية ولم تكن ثورته ضد ابن رشد وضد القديس أوغسطين الا مظهرا للتجديد السلبي حتى يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة إسلامية أو ميراث ميتافيزيقي للكنيسة البيزنطية. واتى بعده (ديكارت) بالتجديد الإيجابي الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي الطريق الذي بني على المنهج التجريبي، والذي هو في الواقع السبب المباشر بتقدم الحضارة الحديثة تقدمها المادي.
2- تكامل الأصالة والمعاصرة: إذ من الأخطاء العميقة التي وقع فيها الكثير من الكتاب والمثقفين، ان عطاءهم الفكري والثقافي، انطلق إما من موقع تراثي لا يرى في العلم الحديث ومكتسبات العصر ما يستحق الذكر والاستفادة منه. أو من مواقع القطيعة مع الثقافة الذاتية، والوقوف على أرضية الثقافة الغربية ومفاهيمها.. وكلا الموقعين قد ضيعا المسألة الجوهرية في هذا المضمار: التراث المنغلق..... ضيع مكاسب العصر وإنجازاته، والمغترب المتعالي قد ضيع تاريخه وقيم مجتمعه الجوهرية.. وإنطلاقا من منطق الإلغاء والنفي كل منهما للآخر فقد تحول النقاش إلى تبادل للاتهامات، وأصبحت براهين الطرفين وحججهما واحدة تقريباً في الشكل والمضمون ومنهج الحوار، رغم اختلاف الحقب وتبدل السياق التاريخي الاجتماعي والفكري فقد أحد أصحاب الحداثة على خصومهم تخلف تفكيرهم ومعاداتهم للتقدم وضلوعهم نتيجة ذلك موضوعياً مع القوى التي تريد للمجتمع العربي ان يبقى في حالة الانحطاط التي هو فيها.. وما لبث هذا الاتهام ان تحول إلى إتهام بالتآمر مع الغرب ومشاركته في إضعاف المقاومة العربية. ودرج الأصوليون بالمقابل من إسلاميين خالصين أو إسلاميين عروبيين على اعتبار فكر الحداثة والتحديث امتداد لفكر الغرب ووصموهم بالنقل عن المستشرقين والضلوع معهم في التآمر على الثقافة العربية، ونظروا اليهم على أنهم طابور خامس يساهم في تأكيد الغزو الروحي والسياسي والاقتصادي للغرب وتوسيعه " (5) وظل عطاء الكثير من الكتاب والمفكرين حبيس هذه المساجلات والاستقطابات المتبادلة بين التيارين.. بينما العطاء الثقافي الذي أوجده بن نبي قد تميز بتكامل كلا العنصرين.. اذ لا يمكن المقايضة بين التاريخ والحاضر.. وتنضح مسألة تكامل الاصالة والمعاصرة في فكر مالك بن نبي من خلال فهمه لمفهوم الحضارة، بإعتبارها قدرات تنبثق من إمكانات الداخل العربي والإسلامي، وليست هي مجموع المظاهر الاستهلاكية للحضارة.. اذ يقول: " الحضارة ليست شيئاً يأتي به سائح في حقيبته لبلد مختلف كما يأتي بائع الملبوسات البالية.. بل ان ابن المستعمرات هو الذي يذهب إلى الحضارة إلى مصادرها البعيدة... وقبل كل شيء إلى مصادرها الاقرب إلى أصالته وليس الحضارة في نية المستعمر ولو صحت هذه النية، بل هي نتيجة الجهد الذي يبذله كل يوم الشعب الذي يريد التحضر ".. وهو بهذا يرد على أولئك الذين يعتقدون أن محاكاة الغرب وتقليده في طل شيء هو سبيل التحضر وامتلاك ناصية الحضارة وتتضح هذه المسألة جلياً أيضا في النتاج الثقافي ل (بن نبي) حينما يقول في كتابه شروط النهضة: لا يجوز لأحد ان يضع الحلول والمناهج مغفلا مكان أمته ومركزها.. بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولا من الشرق أو الغرب، فإن ذلك تضييعاً للجهد ومضاعفة للداء.. اذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار وعلاج أي مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية ناتجة عن فكرة معينة تؤرخ ميلادها عمليات التطور الاجتماعي، في حدود الدورة التي ندرسها في الفرق الشائع بين مشاكل ترسها في إطار الدورة الزمنية الغربية، ومشاكل اخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية، ومجال المجتمع ليس كمجال الميكانيكا، وهو لا يرتضي كل الاستعارات، لان أي حل ذا طابع اجتماعي يشتمل تقريباً ودائما على عناصر لا توزن.. ولا يمكن تعريفها ولا يمكن ان تدخل في صيغة التعريف، على حين تعد ضمنا جزءا منه لا يستغني عنه، عندما تطبق في ظروف عادية أي في ظروف البلاد التي نستورد منها وإذن فلكي نواجه بطريقة فنية أية مشكلة اجتماعية، ينبغي الا يقتصر عملنا على اقتراض الحلول التي تأكدت صحتها خارج بلادنا اذ أن الضيغة المقتبسة صحيحة بلا أدنى شك ولكن في إطارها الاجتماعي في محيطها الذي تحلقت فيه، في نفحة الروح التي تخيلتها.
3- المنهجية والفاعلية: وهي عبارة عن القدرة الفذة التي تميز بها مالك بن نبي في إبراز مشكلة العالم المتخلف باعتباره قضية حضارة اولا وقبل كل شيء.. ويكشف لنا بن نبي عن منهجيته الفذة حي حديثه عن الدورة الخالدة اذ يقول: " ان مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشاكله ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق بفكرته إلى الاحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها، وما الحضارات المعاصرة، والحضارات الضاربة في ظلام الماضي والحضارات المستقبلية إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن " (6). والمنهجية في فكر بن نبي لا تعني الجمود والترهل على المستوى الفكري والعملي، وإنما أسند بن نبي فكرة المنهجية بفعالية وديناميكية تتصف بها معالجاته لشئون الثقافة والحضارة.. اذ يقول: فالفكرة من حيث كونها فكرة ليست مصدراً للثقافة أعني عنصراً صالحاً لتحديد سلوك ونمط معين من أنماط الحياة، فإن فاعليتها ذات علاقة وظيفية بطبيعة علاقاتها بمجموع الشروط النفسية الزمنية التي ينطبع بها مستوى قد يتغير بطريقتين: فهو عندما يرتفع تعرض له في الطريق أفكار ليست من بين القوى الجوهرية التي نتجت عنها الحركة التاريخية فإذا بهذه الافكار تتقادم ثم تختفي.. ففكرة حجر الفلاسفة التي كانت من أكبر دوافع الفكر العلمي خلال العصر الوسيط، هذه الفكرة قد ماتت منذ اعلن (لافوازييه) نتائج أبحاثه الكيميائية.. وهو عندما يهبط تنقطع من منابع خقلية وعقلية صدرت عنها فتكسب هذه الأفكار وجودا صناعيا غير تاريخي وبذلك تفقد كل معنى اجتماعي "(۷). ولكي يكون عطاء الثقافة فعالاً ومستديما، لابد من ان نوثق الصلة الضرورية بين الفرد وعالم الافكار وعالم الاشياء وعالم العناصر والظواهر الطبيعية.
إن توثيق صلة عالم الاشخاص بهذه العوالم هو الكفيل يخلق واقع اجتماعي جديد.. من خلال هذه الخصائص الثقافية تجد أن المشروع الفكري ل (مالك بن نبي) (۵ ۱۹۰ - ۱۹۷۳م) اتجه إلى المشكلة الأصلية والأساسية في العالم العربي والإسلامي... ولهذا فقد عاشت فكرة الحضارة في عقله ووحداته وشغلت تفكيره في كل كتاباته، إلى درجة تستطيع أن نقول معها أن الفكر الإسلامي المعاصر لم يشهد تقريباً مفكرا شغلته قضية الحضارة مثل (مالك بن نبي)، الذي يعتبر شخصية فكرية خصبة جديرة بالدراسة، وهو المفكر الذي اهتم بالجانب الحضاري وفلسفة التاريخ والاجتماع وشغلته مشكلات أمته فعالجها بروح موضوعية " (8)
فمشكلة الحضارة هي مشكلة العالم العربي والإسلامي الجوهرية، ولذلك اهتم بن نبي بها وركز جهوده الفكرية والنظرية في سبيل بلورة الرأي، واقتراح الحلول لتجاوز هذه المشكلة الحضارية. ويشير إلى هذه المسألة مالك بن نبي نفسه بقوله: أعتقد أن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن، هي م شكلة الحضارة وكيفية إيجاد الحلول الواقعية لها، وإزالة التناقض بين النجاح المادي والتخلف المعنوي، أعني تخلف القيم أو اهمالها، ولقد شعرت منذ فترة طويلة وعلى وجه التحديد منذ وصولي إلى أوروبا لتلقي العلم عام (۱۹۳۰م) أن المجتمعات المعاصرة بالغة التعقيد ومتعددة الأنواع.
ويتجه عطاء بن نبي الثقافي والفكري نحو ادخال العالم العربي والإسلامي في دورة حضارية جديدة واعادة الشعوب العربية والإسلامية إلى حلبة التاريخ.
***
محمد محفوظ – باحث سعودي
........................
الهوامش
1- شروط النهضة - مالك بن نبي - ص ۸۳
2- برهان غليون - إغتيال العقل - ص ٢٢
3- مشكلة الثقافة - مالك بن نبي - ص ٨
4- مشكلة الافكار ف العالم الإسلامي - مالك بن نبي - ص ١٤٣
5- اغتيال العقل - الدكتور برهان غليون من ٤٦
6- شروط النهضة - مالك بن نبي ص ٢٠
7- مشكلة الثقافة ص ٤٧
8- مفاهيم أساسية في فكر مالك بن نبي -محمد عبد السلام الجفائري.






