قضايا
مجيدة محمدي: الكتابة الشريرة والكتّاب الأشرار

دراسة في البلاغة السلطوية والظلم المعرفي
الملخص: تهدف هذه الدراسة إلى تحليل ظاهرة "الكتابة الشريرة" باعتبارها ممارسة معرفية وسردية تُسهم في تبرير العنف الرمزي والمادي، وإعادة إنتاج أشكال من الهيمنة باسم الجمال أو العقلانية أو الموضوعية. تستند الدراسة إلى المنهج النقدي التحليلي، من خلال تفكيك العلاقة بين اللغة والسلطة، والوقوف عند نماذج من الكتّاب الذين وظّفوا النصوص كوسائط للهيمنة، أو غطاءً أيديولوجيًا لشرٍّ مؤسّس. وتُسائل الدراسة التواطؤ البلاغي الذي يُرتكب حين تُجمَّل البشاعة، ويُعاد تأثيث الجريمة بلغةٍ تخدّر الضمير وتُغيّب الحقيقة. تنتهي الدراسة إلى ضرورة بلورة وعي نقدي أخلاقي في مواجهة التضليل السردي، عبر بناء بلاغة مضادّة تفضح استراتيجيات الهيمنة وتقاوم سرديات الطمس.
الكلمات المفتاحية: الكتابة الشريرة، الشر المعرفي، الظلم السردي، البلاغة السلطوية، التضليل.
المقدمة: لطالما اعتُبرت الكتابة فعلًا تنويريًا، وسلوكًا أخلاقيًا يروم كشف الحقيقة وتحرير الوعي. غير أن التاريخ الإنساني، بما فيه من تقاطعات عنف وإيديولوجيا، أفرز ممارسات كتابية لا تُنير، بل تُعتم؛ لا تُحرّر، بل تُقنّن القمع.
من هنا، تنبع إشكالية هذه الدراسة من سؤال جوهري:
هل يمكن أن تكون الكتابة ذاتها فعلًا شريرًا؟ وهل يمكن للنص أن يتحول إلى أداة لتجميل الظلم، وتبرير الاستبداد، وإعادة إنتاج الهيمنة؟
أولًا: الإطار النظري - الشر المعرفي والظلم السردي
الشر المعرفي (Epistemic Evil): يعني استخدام المعرفة أو اللغة لتشويه الحقيقة أو إخفائها أو إعادة صياغتها ضمن أنساق تُخدِم مشاريع قمعية. تشير ميراندا فريكر (2007) إلى أن "الظلم المعرفي" يحدث حين يُنزع عن الأفراد أو الجماعات حقهم في أن يكونوا مصادر معرفية موثوقة، بما يعنيه ذلك من تقزيم لخبراتهم وتزييف لوجودهم داخل النظام المعرفي السائد.
البلاغة السلطوية: يرى ميشيل فوكو (1972) أن السلطة لا تُمارس فقط عبر العنف، بل من خلال الخطاب، أي عبر تنظيم المعرفة وترسيخ نسقها. الخطاب إذن ليس بريئًا، بل حقل صراع على المعاني، تُحسم فيه المعركة لصالح من يمتلك القدرة على تسمية العالم.
ثانيًا: نماذج للكتابة الشريرة والكتّاب الأشرار
جوزيف جوبلز – دعاية القتل: لم يكن جوبلز مجرّد وزير في النظام النازي، بل كاتبًا رئيسيًا في صناعة السردية الفاشية. استخدم الخطب والمقالات والملصقات لتحويل الإبادة إلى عدالة، والكراهية إلى فضيلة، عبر لغة متقنة الإخراج، مشحونة بالعاطفة الزائفة.
آين راند – العقلانية الأنانية: أسست راند فلسفة تمجّد الفرد على حساب الجماعة، وقد تحوّلت هذه الفلسفة إلى مرجعية أيديولوجية للنيوليبرالية التي تبرر سحق الضعفاء باسم الكفاءة. تُستخدم كتاباتها كذخيرة فكرية لتسويغ اقتصاد لا يرحم، ومجتمع يُقصي من لا يملك.
الخطاب الاستشراقي – سردية الهيمنة: كشف إدوارد سعيد (1978) كيف أن النصوص الغربية عن الشرق لم تكن توصيفات ثقافية، بل مشاريع بلاغية للهيمنة، حيث يُعاد تشكيل "الآخر" ضمن مخيال استعماري يروم السيطرة، والتبرير الأخلاقي للغزو.
ثالثًا: الجمال كغطاء للشر - حالة "لوليتا" تُعد رواية "لوليتا" لنابوكوف مثالًا صادمًا على كيفية استخدام البلاغة لتغطية الفعل الإجرامي. ففي حين يروي الراوي قصة اعتداء جنسي، تُقدَّم للقارئ بلغة شاعرية آسرة. وهنا يُطرح سؤال أخلاقي: هل يُغفَر الفعل لأن النص جميل؟ وهل يتحول الجمال إلى قناع يخفي القبح الأخلاقي؟
رابعًا: الكتابة الشريرة في العصر الرقمي لم تعد الكتابة حكرًا على النخبة، بل أصبحت أداةً يومية ضمن فضاء رقمي تحكمه الخوارزميات. الخطاب الكراهوي اليوم يُنتَج عبر نصوص رقمية قصيرة، ومُضلِّلة، تحشد الجماهير ضد المختلف، وتُعيد إنتاج العنف الرمزي بأسلوب جديد. تُصبح البلاغة هنا أداةً للخداع، لا للبيان.
خامسًا: المقاومة – نحو بلاغة مضادة يُبرز جورج أورويل أن قول الحقيقة في زمن الكذب فعل مقاوم. غير أن المقاومة لا تكون فقط بكشف التضليل، بل بتفكيك منطقه من الداخل، وبتقديم سرديات بديلة تُعيد للمخفي حقّه في الظهور، وللصامت حقّه في الكلام.
الخاتمة: الكتابة ليست فعلاً بريئًا، بل ممارسة ذات حمولة أخلاقية ومعرفية هائلة. من يكتب يملك القدرة على إعادة تشكيل الوعي والذاكرة. ومن هنا، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح دائمًا: من يكتب؟ ولماذا؟ وبأي خطاب؟ ولمن؟
إننا بحاجة إلى نقد جذري للكتابة، لا بوصفها شكلاً أدبيًا فحسب، بل باعتبارها بنية قوة ومجال صراع بين المعنى والتضليل، بين التسمية والكتمان، بين الحضور والتغييب.
***
أ. مجيدة محمدي / الجمهورية التونسية
..............................
المراجع:
فريكر، ميراندا. (2007). الظلم المعرفي: السلطة وأخلاقيات المعرفة. مطبعة جامعة أكسفورد.
فوكو، ميشيل. (1972). أركيولوجيا المعرفة. كتب بانثيون.
بيرنز، جينيفر. (2009). إلهة السوق: آين راند واليمين الأمريكي. مطبعة جامعة أكسفورد.
سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق. كتب بانثيون.
أبل، ألفريد. (1991). لوليتا المشروحة. كتب فينتاج.
أورويل، جورج. (1949). 1984. سيكر وواربرغ.
مجلس حقوق الإنسان، الأمم المتحدة. (2018). تقرير بعثة تقصي الحقائق الدولية المستقلة بشأن ميانمار.