قضايا

ثامر عباس: أوزار التراث في خطاب الحداثيين العرب.. بين التجاهل والتحامل

منذ أن تلقى العرب صدمة (الحداثة) الغربية على مشارف القرن التاسع عشر، وهم ينقسمون الى فئتين متعارضتين لا قاسم مشترك بينهما سوى (التعصب) لهذا الجانب أو ذاك، لهذا التيار أو ذاك؛ فئة تتعصب ل(التراث) بقضّه وقضيضه، وأخرى تتعصب ل(للحداثة) بحسناتها وسيئاتها، دون أن يتمكن مريدوا الاتجاهين من الاهتداء الى سبيل واقعي ومنهج عقلاني يجنبهم مساوئ (الإفراط) في كيل الايجابيات والمناقبيات بمناسبة وبدون مناسبة من جهة، وينأى بهم عن محاذير (التفريط) بما تنطوي عليه تلك المواقف من سلبيات وسيئات لا ينبغي الغافل عنها والتجاهل لها من جهة أخرى.

وعلى الرغم من وجاهة بعض أفكار وآراء كلا الفريقين من المؤيدين والمعارضين، لجهة تشخيص السلبيات وتأشير السيئات التي يجدها البعض لدى البعض الآخر، إلاّ أنهم أثبتوا عجزهم التام في تخطي نقاط الضعف في مواقفهم الحديّة وتصوراتهم النسقيّة، حيال إقرارهم بوجود بعض الإيجابيات والحسنات لدى وجهات نظر كلا الطرفين المتناقضين والمتعارضين. وهو الأمر الذي يدلل على مدى تورط الجميع في الانخراط بنوازع (التعصب) للذات و(التطرف) ضد الآخر، حتى دون مراعاة لمناقبيات العلوم والمعارف التي يمثلها أعضاء كلا الاتجاهين، للحدّ الذي يتعذر على أحدهم الاعتراف باحتواء أفكار خصومه وآرائهم بعضا"من الحقائق والوقائع، بوازع من خشية احتساب ذلك من علامات الضعف في مواقفه ومتبنياته المتصلبة والهدر في قيمة اعتقاداته وتصوراته المبتسرة. والحال تستوي في هذا الأمر خطابات كلا التيارين المعنيين؛ التيار (الحداثي) المتعلمن والتيار (التقليدي) المتأسلم.

وإذا ما أنعمنا النظر ودققنا في مضامين كلا الخطابين المعنيين، سنلاحظ إنهما يتشابهان ويتماثلان من حيث ردود فعلهما إزاء كل ما يتعلق بمواريث الماضي وسرديات التاريخ، باستثناء كونهما يتناقضان ويتعارضان حيال طبيعة تلك المواريث والسرديات وما تحمله من قيم وما تمثله من إيحاءات. وهكذا فإن خطابات (التقليديين) نحو الموروث التاريخي والفكري للمجتمعات العربية والإسلامية، وإن وأبدت تحمسها العاطفي الذي يرقى في بعض الأحيان الى مستوى اللاعقلانية، إلاّ أنها مع ذلك تبدو منسجمة مع ما تتبناه من مواقف وما تطرحه من تصورات، من خلال تماثلها النسبي بين ما تقول على صعيد الفكر وبين ما تفعل على صعيد الواقع. هذا في حين تبدو مضامين خطابات (الحداثيين) كما لو أنها تغرّد خارج السرب، ليس لأنها غير قادرة على فهم معطيات الواقع وتحليل مكوناته وإدراك سياقاته واستشراف مآلاته، وإنما لكونها لا تفتأ تكرر ذات الخطأ الذي لا تني نظيرتها (التقليدية) من التمسك به والرهان عليه , وذلك من حيث نفيه وتجاهله لأية قيمة سوسيولوجية أو ابستمولوجية يمكن استخلاصها من بقايا ورواسب ذلك الموروث الغني بالذاكرات والتمثلات.

وفي خضم تضارب هذه الرؤى وتقاطع تلك التصورات، قلما نجد بين الخطابات (الحداثية) المتكاثرة من ينصف الموروث أو يكنّ له أي اعتبار، حتى لو كان يحمل بين مطوياته بعضا "مما يمكن استثماره وتوظيفه في مساعي تحليل إشكاليات الواقع ومعالجة مشاكله، لاسيما تلك التي لا تزال تمتح من نسغ أصول الماضي الشيء الكثير، مثلما لا تني تتوالد وتتناسل في الحاضر المأزوم بمتواليات هندسية منفلتة لا ضابط لها. ولعل في مراجعة خطابات بعض (الحداثيين) العرب ما يعكس هذه الحالة السلبية ويعزز من وجودها المعيب. فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر بعضا"من خطابات هؤلاء، فإننا سنقع على الكثير من المفارقات التي لا تنسجم مع ما توجهات هذه الثلة من النخب، حيث يعتبر (التراث) بالنسبة لهم بمثابة (الدريئة) التي تتلقى الطعنات العشوائية من دون تمييز، سوى أنها أطفأت لديهم جذوة الثأر والانتقام من هذا الشاخص الجامد والصامت.

والحال ان (التراث) المدان مثله في ذلك مثل (الحداثة) المحتفى بها، ليس كل ما فيها (جيد) و(صائب)، كما ليس كل ما فيها (رديء) و(عائب)، إذ أن كل معطى اجتماعي أو إنساني يشتمل على وجوه ومستويات عدة تعكس الخاصية النوعي للطبيعة البشرية التي يتجسّد فيها كل ما هو (نسبي) و(تاريخي). ولذلك فإن رصانة الباحث (الحداثي) وموضوعيته تتجلى وتتمظهر، ليس فقط في تصيّد السلبيات ورصد الانحرافات التي لا يخلو منها أي (تراث) بشري فحسب، وإنما في تشخيص الايجابيات وتعيين الفوائد التي ينطوي عليها؛ لا بقصد المقارنة بين هذا الجانب أو ذاك، وإنما لأجل نقد السلبيات وتقويم الانحرافات من جهة، ووضع الحسنات والايجابيات موضع الاستثمار في البناء الاجتماعي والإسهام في الارتقاء الحضاري.  

***

ثامر عباس – باحث عراقي

في المثقف اليوم