قضايا

غالب المسعودي: السرديات التاريخية اوهام للنجاة من العدم

السرديات التاريخية تُعتبر وسيلة لفهم الماضي وتفسير الأحداث التاريخية، وغالبًا ما تُستخدم لتشكيل هوية المجتمعات. من خلالها يشعر الناس بأن لديهم جذورًا وتاريخًا يعزز من هويتهم، تعكس السرديات التاريخية قصص النجاح والصمود في وجه التحديات، مما يمنح الأمل للأجيال القادمة ويحفزهم على العمل من أجل مستقبل أفضل، من خلال سرد أحداث الماضي يمكن للمجتمعات أن تتجنب الشعور بالفراغ الوجودي. هذه السرديات تعطي انطباعًا بأن هناك معنى للتجارب البشرية وتُعزز الهوية الجماعية، مما يخلق شعورًا بالانتماء بين الأفراد هذا الانتماء يمكن أن يكون مصدر قوة في مواجهة التحديات كما يساعد في تشكيل الذاكرة الجماعية، حيث يتم تخزين الأحداث والتجارب التي تُعتبر مهمة في ثقافة ما، ويضمن استمرارها، غالبًا ما يتم إعادة تفسير الأحداث التاريخية لتناسب أيديولوجيات معينة، مما يخلق سرديات قد تكون بعيدة عن الحقيقة لكنها تعزز الشعور بالنجاة، تعتبر السرديات التاريخية أدوات قوية لتشكيل فهمنا للوجود والهوية. رغم أنها قد تحتوي على أوهام، فإنها تلعب دورًا حيويًا في كيفية تعامل الأفراد والمجتمعات مع فكرة العدم.

السرديات التاريخية دعاية سياسية

تقوم بعض الحكومات أو الجماعات السياسية بتوجيه السرديات التاريخية لتناسب أهدافها، مما يؤدي إلى تحريف الأحداث أو تهميش بعض الجوانب، تُستخدم السرديات التاريخية لتعزيز الهوية ، حيث تُبرز إنجازات معينة وتُقلل من الأزمات أو الأخطاء، مما يساعد في بناء ولاء جماعي، يمكن أن تُستخدم السرديات لتأجيج المشاعر الوطنية أو القومية، مما يؤدي إلى خلق مشاعر الكراهية تجاه جماعات أو دول أخرى، تُستخدم بعض السرديات التاريخية لتسويغ السياسات ، حيث يتم الاستعانة بمواقف تاريخية لتبرير الأفعال المعاصرة، يتم إعادة تفسير الأحداث التاريخية لتناسب الأجندات السياسية، مما يؤدي إلى تغيير الفهم العام للتاريخ بينما تسعى السرديات لتوفير معنى وهياكل للوجود، يمكن أن تتحول أحيانًا إلى أوهام تُخفي الواقع القاسي، ،هذا يتطلب وعيًا نقديًا لفهم المصادر والتوجهات التي تُقدّم هذه السرديات.

السرديات والنجاة من العدم

كثير من الفلاسفة، مثل هايدغر، تناولوا مسألة الوجود والعدم. يُعتبر العدم تهديدًا للوجود البشري، السرديات تُستخدم كوسيلة لمواجهة هذا التهديد من خلال منح معنى وهدف للحياة. وفقًا لفلاسفة مثل فوكو، تتأثر الهوية بالسرديات الاجتماعية والتاريخية، مما يسمح للأفراد بالنجاة من الشعور بالوحدة، الفيلسوف الفرنسي (بول ريكور) اعتبر أن السرد يمتلك القدرة على إعادة تفسير الماضي وإعطائه معنى. من خلال سرد الأحداث، يمكن للناس أن يجدوا قيمتهم وهدفهم في الحياة من خلال البحث عن المعنى الذي ُيعتبر جزءًا أساسيًا من الوجود، السرديات تساعد في تشكيل المعنى والسعادة، من خلالها يمكن للناس تجاوز شعور العدم، حيث يمنحهم القدرة على رؤية أنفسهم كجزء من قصة أكبر، مما يخلق شعورًا بالانتماء والأهمية، السرديات تلعب دورًا محوريًا وتساعد الأفراد والمجتمعات في مواجهة التحديات الوجودية، مما يساهم في تشكيل فهمهم للواقع.

النقد التاريخي

النقد التاريخي يعمل على تحليل السرديات السائدة، مما يساعد في الكشف عن التحيزات التي قد تُخفي الواقع. من خلال فحص المصادر التاريخية، يمكن أن نرى كيف تم تشكيل تصورات عن المعنى و السعادة، يساهم النقد التاريخي في إظهار الأحداث والتجارب التي تم تجاهلها أو تهميشها كما يمكن أن يُظهر أن السعادة المزعومة قد تكون مبنية على تجارب سلبية أو معاناة لم يعترف بها، يساعد النقد التاريخي في فهم السياقات الاجتماعية والسياسية التي تُنتج السرديات، من خلال دراسة الظروف التي أدت إلى تشكيل تصورات معينة عن المعنى والسعادة، يمكننا أن نفهم كيف تُستخدم هذه السرديات لأغراض سياسية أو اجتماعية، من خلال نقد السرديات التاريخية، يمكن إعادة تعريف القيم المرتبطة بها. يُظهر النقد كيف أن بعض القيم قد تكون مشوهة أو غير واقعية، مما يساعد الأفراد على التفكير بعمق فيما يعنيه تحقيق المعنى والسعادة كما يشجع النقد التاريخي على تعزيز التفكير النقدي، مما يجعل الأفراد أكثر وعيًا بالوسائل التي تُستخدم لتشكيل أفكارهم. هذا الوعي يمكن أن يُساعد في تحطيم الأوهام المتعلقة بالمعنى والسعادة المُقدَّمة من قبل السرديات، من خلال تحليل السرديات وفهم السياقات، يمكن للناس أن يروا ما وراء الأوهام ويبحثوا عن معاني أكثر، واقعية، وصادقة للحياة.

بين اللذة والسعادة

اللذة، هي تجربة حسية أو عاطفية فورية، مثل الاستمتاع بالطعام أو الشعور بالحب. تُعتبر لحظية وعابرة، السعادة هي حالة من الرضا الداخلي والرفاهية العامة، تمتد على مدى طويل وتعتمد على تحقيق الأهداف والقيم ،اللذة غالبًا ما تكون مؤقتة، بينما السعادة تميل إلى أن تكون أكثر استمرارية وعمقا، اللذة تتعلق بالمتعة الحسية أو الانفعالات العاطفية، في حين أن السعادة تتعلق بالمعنى والهدف في الحياة، اللذة قد تكون أنانية في بعض الأحيان، بينما السعادة تتضمن عادةً الاهتمام بالأخر، بعض الفلاسفة، مثل أبيقور، اعتبروا أن اللذة هي هدف الحياة، بينما اعتبر آخرون، مثل أرسطو، أن السعادة هي تحقيق الفضيلة والعيش بشكل جيد.

عزاء أعمى وفخم

تُستخدم السرديات لتجميل أو تحريف الأحداث التاريخية، مما يؤدي إلى تصور زائف عن المعنى والسعادة. قد تُروى القصص بطريقة تُخفف من المعاناة أو التحديات، مما يمنح الناس شعورًا زائفًا بالراحة، تمنحنا السرديات وسيلة للهروب من الواقع الصعب، مما يؤدي إلى تجاهل القضايا الحقيقية التي تحتاج إلى معالجة، يمكن أن تُعظم السرديات التاريخية من تجارب الماضي، مما يجعلها تظهر كأنها نموذج مثالي للسعادة. هذا التقديس للماضي يعزز الشعور بعدم القدرة على تحقيق مثل هذه السعادة في الحاضر مما يمكن أن يجعل الأفراد يشعرون بأن سعادتهم مرتبطة بماضيهم، مما يؤدي إلى التمسك بتصورات قديمة، عندما تروج السرديات لصورة مثالية للسعادة، قد يشعر الأفراد بالذنب لعدم قدرتهم على تحقيق تلك المعايير، مما يؤدي إلى إحباط بدلاً من العزاء(اعمى وفخم)، يمكن أن تؤدي هذه السرديات إلى فصل الأفراد عن واقعهم، مما يجعلهم يعتقدون أن السعادة مرتبطة بمسارات تاريخية غير قابلة للتحقيق في زمنهم الحالي ، حيث تُستخدم لتجميل الماضي وتقديم تصورات تبتعد عن الحقائق المعقدة للحياة. هذا يتطلب وعيًا نقديًا لفهم كيف تؤثر هذه السرديات على تصوراتنا عن المعنى والسعادة.

ميتافيزيقيا ملفوفة بورق الدعاية

تتناول السرديات التاريخية أسئلة حول الهوية، المعنى، والمكانة في التاريخ، مما يجعلها تمس جوانب ميتافيزيقية تتعلق بالوجود والهدف، تحاول هذه السرديات تقديم تفسيرات للتجارب الإنسانية، مما يعكس قضايا ميتافيزيقية تتعلق بالقيم والمعاني، تُستخدم السرديات لتشكيل الرأي وتعزيز وجهات نظر معينة، مما يجعلها تشبه الدعاية التي تهدف إلى التأثير على التصورات، قد تُجمّل السرديات الأحداث التاريخية أو تُقلل من الأبعاد السلبية، مما يجعلها تبدو أكثر إيجابية مما هي عليه في الواقع، تمامًا كما تفعل الدعاية، تؤدي السرديات إلى خلق تصورات قد تكون بعيدة عن الواقع، مما يساهم في إنتاج فهم مشوه للتاريخ والحياة، من خلال تقديم روايات معينة كأنها تاريخ مطلق، يمكن أن تُخفي السرديات وجهات نظر أخرى وتُعزز من مفاهيم غير دقيقة، يمكن اعتبار السرديات التاريخية ميتافيزيقيا ملفوفة بورق الدعاية، حيث تجمع بين محاولة فهم الوجود وبين استخدامها كأداة للتأثير على الرأي العام.

الموت والعدم

يُعتبر الموت حدثًا محوريًا في العديد من السرديات التاريخية، حيث يُمثل نهاية الحياة وتجربة الوجود و يُعبر عن الخسارة والفقدان، في معظم السرديات التاريخية والثقافات، يُنظر إلى الموت كتحول أو انتقال إلى حالة أخرى، مما يُخفف من فكرة الانزلاق في العدم، ويعطى بعدا ميتافيزيقيًا، حيث يُعتبر بداية جديدة وليس نهاية من خلال سرد تجارب الموت والفقدان، ليعزز من شعور المجتمعات بالانتماء والتاريخ المشترك، لكن الموت لا يحمل أي معنى أو قيمة جوهرية موضوعية هو جزء من طبيعة الوجود لأن كل القيم والمعاني التي نبحث عنها مصنوعة اجتماعيًا وليست ذات طبيعة واقعية هذا يحفز الأفراد على التفكير في معنى الحياة وأهدافها ويُساعد في إعطاء معنى في ظل الفقد.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

في المثقف اليوم