قضايا
أكرم جلال: من التلقين إلى الوعي والإدراك

المنبر الحُسيني في أفق التلاقح الفكري
العلومُ والمعارفُ لَم تَكُن يومًا قوالب جامدة أو معاني مُتصلّبة نحملها لكي نكون عارفين أو متعلمين، بل هي ثمرة من ثمار التلاقح بين الروح والمنطق في فضاء يسوده التفاعل والتدبّر. والمعرفة لا تصل إلى العقول حتى تسرح في رياض التأمّل وَتَخرج ماءً زُلالاً من نبع يتفجر من بين صخور الجّدل والتّساؤل ليلامس القلوب بفعل إشكال يُعرَض، أو رؤيةٍ تكشف عن باطنها.
المعرفةُ الموصِلة إلى الحقيقة ما هي إلا ضياءٌ يتفجّر حينما يتعانق نوري المُلقي والمتلقي، وتتناغم أذهانهم، وتتّحد رؤاهم، حينها تتوهج ومضة الوعي وتتضح أبعاد الحقيقة ويبزغ فجرها من بين صفحات اللاوعي، لتستقر في القلب نورًا تُضيء الطريق وتفتح البصائر وتجلي العمى.
إنَّ الفكر الواعي والعلوم التربوية والاجتماعية قد شعّت من ظلمات الماضي وتسلّقت سلّم الحياة من خلال لغة الحوار المتبادل، بعد أن ألغت منطق الإلقاء الفردي، حيث المعارف تُحشى حشوًا في عقول المتلقين من دون أن يكون للقلب دور أو وسيلة في هذه الحركة التفاعلية، فتتحول الكلمة إلى صخرة صمّاء. وحينما يخلو المجلس بين العالم والمتعلم من لغة التلاقح وتبادر الأفكار تنكفيء القلوب وتغيب المشاعر ويتوقف نبض الوعي، فلا تُمدّ جسور المعرفة ولا تنتقل المعارف لأنها لا تجد قلوبًا ولا عقولًا قادرة على حملها.
وأما إذا كان الجسر الرابط بين العالم والمتعلم ينبض بروح الوعي ويُحلّق في سماء الحوار البنّاء؛ يستنشق هواء السؤال، ويرتوي من عذب النقد، ويترعرع في ظلال السجال المحيي للفكر، فضاءً يحمل الحياة وليس نقلًا جافًا للمعلومات، بل حركة روحية وقلبية بين المُلقي والمُتلقي، حينها فقط تستقر المعارف وتثبت في القلب والعقل دون شكّ أو ريبة. المتعلّم لابد أن يكون فاعلًا في حوار مليء بالوعي والسؤال، رافضًا التسليم الأعمى بل يطرق أبواب الحقيقة من خلال السؤال والاستنطاق الخلّاق.
إن المجالس الحسينية تحمل في جوهرها رسالة السماء ونور الفداء، وأنَّها فضاء مقدس لا يليق بساحتها الخُطَب الأحادية أو منبرًا يتردّد فيه صدى المُتكلم وحده، فالإمام الحسين عليه السلام أسس في كربلاء لمنهج الحوار، وأنه أعظم من أن نذكره بكلمات لا تحمل الحياة، بل بروح التفكّر والتدبّر في فضاء الوعي الرافض للجمود، والضمير الباحث عن الحقيقة.
لقد وَرَدَ عنه عليه السلام في كربلاء أنّه وقف مخاطبًا: «هل من ناصرٍ ينصُرنا؟ هل من مُعينٍ يُعيننا؟ هل من ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول الله»، وهذا النداء وإن كان موجّهًا إلى معسكر الظالمين، إلا أنّه أراد منه صرخة يصل مداها إلى أرواح البشرية في كل مكان وزمان؛ كان يطلب بها إحياء القلوب وإخراجها باليقظة من الظلمات إلى النور؛ كان يؤسس لحوار واسع الأفق، دائم لا ينقطع. لم ينادي عليه السلام بأن يقول هل من سامع يسمعني، بل هل من ناصر ينصرني، والنصرة لا تُنال إلا بالوعي وليس بإنصاتٍ لا يخترق جدار الفهم، بل بسؤال يستنطق فيهم الروح المتأملة حتى يكون الجواب نابعًا من منبت الوعي.
إنّ إبراهيم عليه السلام وهو النبي والرسول والخليل يسأل الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، وهذا السؤال لم يصدر عن شكّ بل عن رغبة للارتقاء من مقام إلى مقام أعلى؛ كان يسأل لكي يبلغ مقام اليقين والاطمئنان، لعلمه أن الحوار هو الطريق الأنسب نحو الحقيقة بأعلى مراتبها.
وهكذا هي المجالس الحسينية، فكلام الخطيب يجب أن لا يُصب فوق الرؤوس صبًا دون أدنى وعي أو تدبّر من المتلقي، بل لابد من تخصيص وقت - ولو يسير - تشارك فيه الحشود في حوار جماعي واعي، تطلب من خلاله الحقيقة أو بعضًا من صورها، وإن لم تفعل فأنّها بذلك تكون قد أسست لمنبر قد نزع من الكلمة روحها وتركها مجردة.
إنَّ منهج "التعليم البنكي" قد رفضه جملة من علماء ومفكري علوم التربية والاجتماع، أمثال " باولو فريري "، حيث تودع المعلومات في عقل المتلقي كما تودع الأموال في المصارف، لقد استبدلوه بالتعليم الحر وفتح أبواب الحوار والنقاش الواعي والبنّاء.
وأن المنهج القائم على الخُطب ذات الإلقاء الأحادي أو المنفرد قد يكون سببًا في تأكيد فكرة خاطئة أسس لها الخطيب (بقصد أو دون قصد) فتناقلته الحشود وأعتبرته من المسلمات؛ وأما إذا وجد الرأي رأياً منصتًا مستمعًا ومحاورًا فإن النتيجة تُولد الصواب وتهدي إلى الحقيقة، وفي ذلك قول لأمير المؤمنين علي عليه السلام: " اضربوا بعض الرأي ببعض، يتولد منه الصواب ".
إنَّ القلوب لا تفتح أبوابها للمعارف مالم تكن تلك المعارف هي الأخرى قد خرجت من القلوب. وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة ضبط أيقاع الحوار في المجالس الحسينية لكي لا يتحول إلى جدل عقيم يخرج عن المسار ويكون سببًا في إشعال الفتن بين عامة الناس. على الخطيب أن يكون بارعًا في إدارة الحوار، فالخُطب حينما تكون مليئة بالحِكَم والمَعارف فإن قلوب وعقول المتلقين ستكون محطَّة لها، فالقلوب الواعية لا تميل إلا إلى الصدق في القول، والعقول لا تؤمن إلا إذا اقتنعت وأسلَمَت، والقناعة والتسليم لا يُنال إلا بالحوار الواعي. فعن محمد الطيار، قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِاللَّهِ : بَلَغَنِي أَنَّكَ كَرِهْتَ مِنَّا مُنَاظَرَةَ اَلنَّاسِ، وَكَرِهْتَ اَلْخُصُومَةَ، فَقَالَ: «أَمَّا كَلاَمُ مِثْلِكَ لِلنَّاسِ فَلاَ نَكْرَهُهُ، مَنْ إِذَا طَارَ أَحْسَنَ أَنْ يَقَعَ، وَإِنْ وَقَعَ يُحْسِنُ أَنْ يَطِيرَ، فَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَلاَ نَكْرَهُ كَلاَمَهُ».
على الخطيب أن لا ينهمك في التدريب على طبقات الصوت والأطوار وقصائد النَّعي على حساب أسلوب الحوار ومنهج الإقناع، ولغة إيصال الأفكار. وفي المقابل، على الحاضرين أن يكونوا متفاعلين بوعي وإدراك وبصيرة ونقد ومشاركة بنّاءة، لا من أجل فرض رأي نابع عن تعصّب طائفيّ بل لتغرس الفكرة لتنبت نورًا وتشع ضياءً في وجدان الحاضرين. وبذلك نكون قد جعلنا من المجالس الحسينية منارات قدسية، تشع بهاءً وتنبض روحًا وعطاءً؛ نجعل من المجالس فضاءً يحفر في طبقات الوعي؛ وتُختبر بنار التساؤل الواعي، وتُغربل في مصفاة التأمل حتى نبلغ بالفكرة بعضًا من مراتب الحقيقة، ولتتحوّل الفكرة إلى سلوك يُحْيِ كلمة الحُسين عليه السلام، ويُجيب نداءه.
إنَّ حياة ثورة الإمام مرتبط بحياة العقول، والفكر الذي يُطرح على المنابر كلّما كان مُستهلكًا ومكررًا فإنَّه يكون خالٍ من الروح، فلا تنجذب له القلوب؛ وأنَّ الحاضرين كلما تقيّدوا بأغلال الصمت، وعطّلوا العقول، وهرولوا خلف الصوت، واللحن، والبلاغة الخاوية، وهجروا الوعي والفكر كانوا بذلك قد هجروا البصيرة والجوهر وتمسكوا بالشكل والمظهر، وساروا في طريق لا يقود إلا إلى وادٍ مقفر.
إنَّ المنبر الحسيني حينما يتحوّل إلى مرتبة تلاقي لا مرتبة تلقين، ويكون فيه الحاضرون شركاء في قول الحق والبحث عن الحقيقة، لا مسرحًا لاستماع الكلمات التي تصدر في اتجاه واحد، فأننا نكون قد غادرنا مقام إقامة المجالس إلى مقام إحيائها، أي أن نُحيِ أنفسنا وأرواحنا وقلوبنا بذكر الفكر الحسيني الصادق، أي أنْ نَعيه لا أنْ نَسمعه. هنا نكون قد ركبنا سفينة الحسين عليه السلام، حيث النجاة من الغرق في بحر غياب الوعي وأعماق الأفكار السقيمة.
***
د. أكرم جلال كريم