آراء
ثامر عباس: الخصائص المعيارية للشخصية العراقية

أولا"- مدخل تمهيدي: من بديهيات القول ان لكل مجتمع من المجتمعات البشرية - السابقة واللاحقة - (خصائص معيارية) هي له بمثابة (الهوية) الحضارية التي تعكس طبيعته النوعية وتجسّد خصوصيته الفريدة، بحيث يتعذر علينا المماثلة بين مجتمعين أو أكثر حتى ولو كانت عناصر (الجغرافيا) وأصول (التاريخ) ومصادر (الثقافة) ومنابع (الدين) تشكل قواسم مشتركة بينهما، كما في حالة المجتمعات العربية، على سبيل المثال لا الحصر، التي وإن كانت تجمعها وتوحدها نفس القواسم المشتركة (المفترضة)، إلاّ أنها لا تلبث أن تتفرق وتتنوع على صعيد كينونة تلك الخصائص المعيارية التي يتميّز بها كل مجتمع من تلك المجتمعات. هذا ناهيك بالطبع عن استحالة العثور على مجتمعين مختلفين في ذات العناصر والأصول والمصادر والمنابع، يمكن اعتبارهما متشابهان ومتماثلان على صعيد نفس الخصائص المذكورة.
ولعل من أهم أسباب هذه الاختلافات والتباينات في (الخصائص المعيارية) ناجم عن انتهاج كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية مسار حضاري (خاص) به ومقتصر عليه، ليس لأنه أختار هذا المسار ورغب الانخراط في أتونه بمحض إرادته كما قد يعتقد البعض، وإنما لأن البيئات الايكولوجية والسياقات التاريخية والأوضاع الاجتماعية والظروف الاقتصادية التي وجد في إطارها وضمن شروطها، هي التي حتمت عليه ضرورات (التكيف) السيكولوجي و(التلائم) السوسيولوجي بما ينسجم مع تلك الشروط وهذه المعطيات. والحال ان درجة تأثير هذه الأخيرة (الشروط والمعطيات) على طبيعة تكوين الخصائص المعيار للشخصية الاجتماعية، تتناسب طرديا"مع فترات (التقادم التاريخي) وحصائل (التراكم الحضاري) للمجتمع المعني. بمعنى أنه كلما كان وجود المجتمع (أسبق) في التاريخ و(أعمق) في الحضارة، كلما ترسخت تلك الخصائص وتكرست في البنى التحتية لتلك الشخصية، بحيث تستحيل الى ما يشبه النوابض المحركة والمجسات الموجهة لتلك الشخصية. وهو ما يشهد عليه نمط (الشخصية العراقية) التي تتمتع بخصائص معيارية وصفات نوعية يتعذر إيجاد ما يماثلها لدى الشخصيات الأخرى، قد تتشارك في بعضها مع سواها من الشخصيات الاجتماعية، إلاّ أنه لا يمكن العثور عليها مجتمعة في شخصية أخرى عدا الشخصية العراقية !.
ولغرض الوقوف على ماهية تلك الخصائص المعيارية التي توفرت عليها الشخصية العراقية مقارنة بغيرها من الشخصيات الاجتماعية الأخرى، سواء تلك التي تشترك معها في (القواسم) التي سبق ذكرها (العربية)، أو تلك التي تختلف معها في نفس القواسم (الأجنبية)، فقد ارتأينا القيام باستعراض موجز ومقتضب لتلك الخصائص، مع تعمد الإعراض عن أي نوع من أنواع (المفاضلة) بين طبيعتها لجهة (الأولوية) في الحضور و(الأقدمية) في التأثير. أي بمعنى عدم التزامنا بوضع تسلسل تدرجي (تفضيلي) يعكس حجم حضورها في السلوك ومدى تأثيرها في الوعي، وإنما تركنا مسألة ورودها بصيغتها الحالية على نحو تلقائي لم يكن مقصودا"أو مخطط له مسبقا". وذلك من منطلق حقيقة أن الشخصية العراقية حين تمارس نشاطها الاجتماعي، وتظهر وعيها التاريخي، وتعكس مخزونها الثقافي، وتجسّد سلوكها الحضاري. لا تشرع بهذه الأنشطة والممارسات بدافع خاصية معنية دون سواها أو تستجيب لوازع محدد دون غيره، وإنما يحصل إدراكها للواقع ويأتي انخراطها في المجتمع كحاصل تأثير تلك الخصائص المتخادمة مجتمعه.
ولعل هناك من يظن أن هذه الخاصية من (التضرع) و(التشفع) التي يبديها الإنسان العراقي حيال كل من يمتلك سلطة سياسية، أو سلطان ديني، أو جاه اجتماعي، أو تفوق اقتصادي، أو امتياز ثقافي، هي من المؤشرات التي تحسب له ولا تحسب عليه، اعتقادا"منه أنها تظهر مدى تمسكه بالقيم لدينية، ومراعاته للأعراف الأخلاقية، وتحليه بالتواضعات العرفية، لاسيما وأنه لا يختلف عن أقرانه من شعوب العالم التي تشاطره ممارسة هذا الضرب من السلوك الإنساني. ولكن في الحقيقة ان هذه الظاهرة / الحالة لا تنطوي – من حيث القيمة الاعتبارية والكرامة الإنسانية - على أية مزايا يمكن إسباغها على من ينخرط بهذه العلاقة الاستزلامية بين من يأمر - يطاع، وبين من ينفذ - يطيع، والتي غالبا"ما تكون عوامل (القمع) السياسي، و(التجويع) الاقتصادي، و(الردع) النفسي، و(الانخلاع) الوجودي، هي ما يضطره الى الانخراط بمثل هذا الأتون المدمر. والحال، بدلا"من أن تكون هذه الأنماط السلوكية الشاذة مرهونة بظروفها الزمانية وشروطها المكانية، بحيث تنتفي الحاجة باللجوء إليها حالما تختفي تلك الظروف المؤقتة والشروط الاستثنائية، استحالت – بالتقادم والتراكم - الى صفات بنيوية ثابتة في السلوك وخصائص معيارية قارة في الوعي.
وإذا كنا قد توصلنا الى إحصاء / حصر خمسة (خصائص معيارية) أساسية تميّزت بها الشخصية العراقية وتفوقت فيها على سواها من الشخصيات الأخرى، فهذا لا يعني بتاتا"إننا توصلنا الى (القول الفصل) الذي لا يمكن معه رصد وتشخيص خصائص أخرى يمكن نسبتها الى هذه الشخصية. ولكننا آثرنا إبراز أكثرها حضورا"في السلوك وأشدها تأثيرا"في الوعي كما أسلفنا، مع الإشارة الى إننا خصصنا لكل خاصية من هذه الخصائص المعيارية حلقة خاصة بها ومقتصرة عليها، نستعرض من خلالها مصادر التكوين وأسباب الصيرورة ودواعي الاستمرار على النحو التالي :
ثانيا"- الخاصية الاستعراضية (الهنبلة) : التفاخر بالأنساب والتنابز بالألقاب
يعد أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة ذي قار الدكتور (سلمان محمد رشيد الهلالي) أول من أستخدم عبارة (الهنبلة) لوصف طبيعة الشخصية العراقية، وذلك خلال بحثه في ماهية (النسق) السوسيو- ثقافي الذي حشرت داخله هذه الشخصية دون أن تفلح في التغلب عليه والخروج منه، بحيث كلما حاولت الإفلات من أساره والتخلص من قيوده، كلما عاودت الانزلاق فيه والانجذاب إليه سواء بوعي أو بدونه، وكأنما هي (منوّمة) مغناطيسيا". وعبارة (الهنبلة) الازدرائية التي يتداولها العراقيين فيما بينهم لانتقاد شخص ما، هي كناية وصفية لكل من ينسب لنفسه (خصال) و(شمائل) لا يملكها في الأصل، وإنما يحاول أن يوهم الآخرين بأنها جزء من كيانه وصلب شخصيته، والغاية من ذلك – كما نعلم - انه يسعى لإخفاء هشاشته ومدارات عجزه، والظهور من ثم بمظهر (الوحيد) في عصره و(الفريد) في زمانه.
والحقيقة ان لهذه الخاصية (الاستعراضية) تاريخ طويل يمتد الى مئات السنين يوم كانت حياة (البداوة) تسود هذه الربوع المتصحرة، باستثناء رقع متناثرة من (المدن) و(البلدات) التي هي أقرب عمرانيا"وسكانيا"الى (القرى) و(الأرياف) منها الى المدن الحقيقية، هذا بالإضافة الى طغيان القيم والأعراف (القبلية) و(العشائرية) التي كانت تضبط إيقاع العلاقات المضطربة بين شعث جماعات امتهنت نشاط الغزو والنهب والتخريب. ولما كانت حياة الإنسان تقوم على هذا الضرب من العيش والعلاقات في بيئة عدائية باستمرار، كان لابد ألاّ يكون فقط خشن الطباع وصلب العريكة فحسب، وإنما أن يواظب على الاندماج بجماعته والتماهي مع قيمها والدفاع عن حياضها؛ أولا"لضمان سلامته الشخصية والأسرية، وثانيا" لتأمين حاجاته المادية والمعنوية، وثالثا"للحفاظ على سمعته وهيبته.
وفي إطار مثل هذه الظروف والأوضاع والمعطيات ما كان للجماعات المتنافسة على شحة الموارد الاقتصادية والمتصارعة على فرض الهيمنة الجغرافية، إلاّ أن تفاخر في أصلابها وأنسابها وتباهي باستعراض قوتها وقدراتها، ليس فقط لإثبات ذاتها أمام منافسيها وخصومها من الساعين الى ذات الأهداف فحسب، وإنما لردع إرادتهم وبثّ الخوف في نفوسهم ومن ثم حملهم على التفكير ألف مرة قبل يجرؤا لانتهاك مجالها الجغرافي أو التطاول على سلطانها السياسي. من هنا نشأت ونمت النزعة (الاستعراضية) التي اشتهر بها الإنسان (البدوي) المحاط ببيئة عدائية لا ترحم الضعيف أو المتردد، بحيث أضحت له هذه النزعة بمثابة مقوم أساسي من مقومات كيانه الشخصي والقبلي على حدّ سواء. ولهذا فليس من المستغرب أن يبدو الإنسان العراقي – باختلاف مستوياته الثقافية والحضارية - شديد التعلق بأصوله (القبلية – العشائرية)، حتى ولو أظهر العكس في بعض الحالات الخاصة مراعاة منه للظرف أو الحالة التي تستوجب منه الظهور بمظهر الإنسان (المتحضر) المتسامي فوق عصبياته الانثروبولوجية.
والجدير بالملاحظة ان سيرورات وديناميات (المجايلة) الاجتماعية والثقافية لعبت - ولا تزال تلعب - دورا"أساسيا"في ثبات وديمومة هذه النزعة لدى معظم الجماعات العراقية، سواء منها التي تعيش في الريف أو تلك التي تسكن في المدن، لاسيما وان الغالبية العظمى من سكنة هذه الأخيرة هم من أصول ريفية أو قروية، لم تبرح قيم وأعراف (البداوة) تؤطر الكثير من تصوراتهم وعلاقاتهم وسيكولوجياتهم. ولعل ما زاد الطين بلّة، ان كل الذين حكموا (الدولة) وتحكموا ب(المجتمع) على مدى قرن (1921 – 2025 )، ليس فقط أنهم لم يهتموا بمعالجة هذه الظاهرة والحدّ من آثارها المدمرة على آفاق التطور الاجتماعي والحضاري كما كان يزعم في الخطابات والشعارات فحسب، وإنما تعمدوا تكريسها – لا بل وتغذيتها - في الوعي والسيكولوجيا الجمعيين، لغرض استغلال واستثمار دورها في ترسيخ الانقسام والتشرذم بين الجماعات ومن ثم إبقائها في حالة من الضعف وعدم القدرة على تحدي السلطة الحاكمة من جهة، وتثبيت سلطتهم وتعزيز سيطرتهم وتقوية قبضتهم وفرض إيديولوجيتهم من جهة أخرى.
وحيثما تسود الكيانات (القبلية) و(العشائرية) و(الطائفية) و(الاثنية) وتشرأب قيمها وأعرافها وسردياتها ورموزها، على خلفية انحسار سلطة الدولة واستشراء الفساد في مؤسساتها من جهة، وتراخي قبضة القانون وانعدام هيبته وتلاشي ردعه – كما هو حاصل في العراق – فلن يكون أمام الإنسان العراقي سوى مخرج واحد لا بديل له، وهو اللجوء الى (قبيلته) أو (عشيرته) أو (طائفته) أو (إثنيته) أو كلها مجتمعة، وذلك للاحتماء بحياضها والاستنجاد بقوتها والتباهي بصيتها والتفاخر بأصالتها، كما كان يفعل آبائه وأجداه من قبل. وهكذا، بالتقادم والتراكم، استحالة (الظاهرة) السيكولوجية التي استوجبتها ظروف خاصة وسياقات محددة، الى (واقعة) سوسيولوجية متواترة لم تلبث أن تطورت الى (خاصية) بنيوية ضمن معمار الشخصية العراقية، بحيث بات من الصعب العثور على عراقي – بصرف النظر عن تحصيله العلمي ورصيده الثقافي ومستواه الوظيفي - يقدم نفسه للآخرين بصفة هويته (الوطنية / العراقية) الجامعة، دون أن سبقها بانتمائه (القبلي) وولائه (الطائفي) وأصله (الإثني) وانحداره (المناطقي).
ثالثا"- الخاصية الاتكالية (اللاأبالية) : الحاجة الدائمة الى منقذ أو مخلّص
على مدى قرون متطاولة من الزمن كان الإنسان العراقي ولا يزال يعاني ويكابد الأمرين ؛ ليس فقط من جور السلطات السياسية (المحلية) و(الأجنبية) التي سامته شنى صنوف القمع والردع والتجويع، بغية كسر إرادته واخصاء شخصيته ومسخ هويته ونسخ ذاكرته فحسب، بل وكذلك من طغيان الطبيعة الايكولوجية ونزق قوانينها وقساوة مناخها وشحة مواردها. وهو ما انعكس سلبا"على تشكيله النفسي وتكوينه السلوكي واعتقاده الديني، بعد أن لمس ان كل المحاولات والمبادرات التي خاض غمارها للخلاص من هذه المآزق والإفلات من تلك المخانق، بائت بالفشل ولم تجدي نفعا"إن لم تكن عمقت جراحه وزادت معاناته وضاعفت مكابداته. بحيث أفضت به هذه الحصائل المريرة الى الشعور بالإحباط النفسي الدائم واليأس الوجودي المستمر، للحدّ الذي أفقده القدرة الذاتية على إبداء المقاومة إزاء كل عارض، وساقه للارتماء في أحضان الاستسلام وتاركا"مصيره للمجهول.
وحين لا يجد المرء في نفسه ما يساعد على النهوض من الكبوات، ولا ما يقاوم به الصدمات، ولا ما يدرأ عنه التحديات. سرعان ما تتراخى عزيمته وتتداعى مقاومته، ويفقد بالتالي زمام أمره ويفوض مآل مصيره الى جهة أو مصدر خارجي قد يكون ؛ ديني (الملك / الإله)، أو اجتماعي (السيد / الشيخ)، أو سياسي (الزعيم / القائد). وهو ما حصل بالنسبة للإنسان العراقي الذي لم تقتصر خاصية (الاتكال) لديه على مصدر واحد من تلك المصادر المذكورة، وإنما شذّ عن مخلوقات الله الأخرى التي تستشعر الضعف في ذاتها وقلة الحيلة لديها إزاء ما يواجهها من مصاعب وما يعترضها من تحديات. حيث طالما لجأ الى رموز تلك المصادر وفقا"لدوافع براغماتية (مطلبية) متدرجة، بدأ بالأقل شأنا"وأدنى مكانة الى الأرفع شأنا"والأعلى مكانة، وذلك وفقا"لطبيعة الحاجة أو الغاية التي تستدعي منه اللجوء الى هذا المصدر أو ذاك. هذا دون أن يفرط - في بعض الأحيان – بطريقة مخاطبتها (مجتمعه) كل بحسب مقامه وقدرته، حيث يشرع يتوسلها ويستعطفها ويستنجد بها لكي تبادر الى (إنقاذه) و(تخليصه) مما هو فيه من هوان الحال وعواقب المآل، مظهرا"أمامها وبين يديها أدنى مستويات الضعف وأقصى درجات التذلل، معتقدا"بذلك أنه كلما كان أكثر توسلا"وأشد تضرعا"، كلما كانت استجابة تلك الرموز أسرع وأنفع.
وإذا ما تابعنا تطور هذه الخاصية لدى الشخصية العراقية ومن ثم تحولها من الحالة (الاضطرارية) الى الحالة (المعيارية)، وفقا"لسيرورات التحقيب التاريخي (القديم، والوسيط، والمعاصر)، فإنه بالإمكان موضعة كل مصدر من تلك المصادر (الخلاصية) التي كانت ولا تزال تستهدفها تلك الشخصية في طاب العون وتقديم المساعدة. فعلى صعيد الحقبة التاريخية (القديمة) كان المصدر الأثير والمؤثر بالنسبة للإنسان العراقي في طلب الحماية ونشدان السلامة، هو (الملك / الإله) الذي كان مواظبا"على استعطافه واسترضائه بصرف النظر عن طبيعة الظروف التي كان يمر بها حربا" أم سلما". حتى أنه من النادر خلو بيت أو قرية أو مدينة من وجود (مقام خاص) لرمز الملك / الإله حيث تقدم له النذور وتقام من أجله الصلوات، للحدّ الذي ان الأعداء الذين كانوا يغزون بعضهم البعض الآخر خلال عصر دويلات – المدن، كانوا يدركون أن وقع الأذى بالشخص المستهدف سيكون أشدّ إيلاما"، وأن حجم الضرر بالمدينة المعنية سيكون أشد وطأة، حين تستهدف تلك الرموز الدالة على كونها موجودة معهم وحاضرة بينهم من منطلق ان تحطيم مقامها أو إزالة رمزيتها هي بمثابة إعلان هزيمة المدينة واستسلام سكانها.
وأما على صعيد المرحلة التاريخية (الوسيطة) حيث سادت العلاقات (العبودية) و(البطريركية) و(الإقطاعية) ربوع الجغرافيا العراقية، فقد حصل انزياح نوعي في اهتمامات وتوجهات الإنسان العراقي المسحوق باتجاه مصدر (خلاصي) آخر، وهو المعني بمزدوج (السيد / الشيخ) بعد أن لمس أن مصيره ومصير أفراد أسرته بات مرهونا"برضى ورعاية هذا الرمز السلطوي الجديد. ورغم كل المعاناة التي كان يكتوي بلظاها والمكابدات التي يتجرع مرارتها جراء الممارسات التعسفية اللاانسانية التي كان يتعرض لها من قبل (أسياده) الطغاة، إلاّ أنه لم يفعل شيئا"إزاء تلك الظروف المزرية والأوضاع الشاذة، سوى أنه استسلم خانعا"لجبروت أولئك الأسياد معتبرا"ذلك أنه من الأمور الطبيعية التي تتسق ونمط العلاقات الاجتما – الاقتصادية السائدة بين (السيد والعبد)، بين (الشيخ - الإقطاعي والفلاح). وهكذا فقد ترك لهذه الرموز (الخلاصية) المهيمنة كل ما يرتبط بشؤون حياته الشخصية ومصير وجوده الاجتماعي، لتقرر له ما ينبغي عليه فعله أو الامتناع عنه، للحدّ الذي تحول معه الى ما يشبه (السلعة) حيث يباع ويشترى مع الموجودات المادية والحيوانية التي زمامها تلك الرموز. وهو الأمر الذي استتبع أن تكرّس لديه النزعة (اللاأباالية) حيال كل ما يقع عليه من مظالم ويجري حوله من انتهاكات، طالما كان يظن / يعتقد ان هناك كائن / كيان يمكن (الاتكال) على قدرته و(الاحتماء) بسطوته، لإنصافه من المظالم الكثيرة وحمايته من الانتهاك المستمرة، لاسيما وأنه لم يفتأ يقتات على خلفيات ومرجعيات أورثته تلك الحاجة المستديمة الى انتظار (منقذ) أرضي أو (مخلص) سماوي !.
رابعا"- الخاصية النكوصية (الارتدادية) : الماضي يأسر الحاضر ويؤطر المستقبل
ليس في تاريخ العراق الحديث والمعاصر ما يلفت انتباه الإنسان العراقي ويستحوذ على اهتمامه ؛ لا على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الحضاري أو الإنساني، بحيث يشده الى الواقع المعاش ويغريه للانخراط في حراك المجتمع الملموس، اللهم سوى النكبات المتكررة والويلات المتوالية التي باتت جزء من حياته منذ لحظة ولادته في أحضان البؤس والخوف والحرمان، وحتى لحظة مماته في شتات الغربة النفسية ومنافي الضياع الوجودي. ولهذا نجده لا يعير اهتماما"كافيا" بما يجري في الزمن الحاضر، بقدر ما يولي اهتمامه ما جرى في الزمن الماضي، لذلك فهو دائم التطلع الى الوراء ومشدودا"الى ما وقع في التاريخ ببعديه (الواقعي) و(المتخيل)، حاملا"في نفسه الملتاعة حنينا"جارفا"الى كل ما له صلة بالماضي الآفل.
ولعله من المناسب الإشارة الى أن ليس كل حالة (ارتداد) صوب (الماضي) تعدّ رجوعا"بالمعنى (النكوصي) السلبي، إذ ان الكثير من شعوب العالم – حديثها وقديمها – مارست هذا الضرب من الاستعادة (للماضي) وتحيين أحداثه واستحضار وقائعه، ليس بدافع (الحنين) المرضيي للأمجاد السالفة والاكتفاء بتأمل رموزها والتفاخر بانجازاتها، وإنما بوازع من الاتعاض بدروسها والاستفادة من عبرها بقصد تجنب أخطائها وتلافي عيوبها. أما في حالة الإنسان العراقي فالماضي بالنسبة إليه ليس مجرد أحداث مضت ووقائع انقضت يستطيع استدعائها في اللحظات الحرجة والمنعطفات الحادة من حياته، لتبين المسار الذي سلكته الظاهرة أو الواقعة المعنية ما بين لحظة التكوين ولحظة التمظهر، ومن ثم الكشف عن الخلفيات والمرجعيات التي ساهمت منحها هذه الخاصية دون تلك، وإماطة اللثام عن السيرورات والديناميات التي ساعدت على بروزها بهذا الظرف دون ذاك، بما يجنبه الشطط في صياغة الأحكام المنطقية ويمنعه من الانحراف عن بلورة التقييمات الواقعية. وإنما هو يدرك الماضي لا بالمعنى (النسبي) الذي يعبر عن سيرورة من المحطات الزمنية المتعاقبة التي يفضي بعضها الى بعض عبر مسار تطوري متدرج قابل الى (التراجع) و(النكوص)، بل هو يعيش الماضي بالمعنى (المطلق) والمفارق للواقع الذي يلمسه ويمارسه بشكل يومي، بحيث يحيله الى مجرد (فكرة) مهيمنة على سيرورة (التاريخ) بكل انقطاعاته وملابساته فحسب، و(رؤية) متحكمة بديناميات (المجتمع) بكل تناقضاته وصراعاته.
وفي الوقت الذي حولت فيه الأنظمة السياسية المتعاقبة في العراق (سلطانية – ثيوقراطية)، و(ملكية – ارستقراطية)، و(جمهورية - شمولية)، حاضر الإنسان العراقية الى جحيم حقيقي يفتقر لأبسط شروط الحياة الإنسانية الكريمة، لم تفتأ أجهزتها البيداغوجية والإيديولوجية المتفننة في شتى ضروب الخداع والتضليل، من تزويق وتزوير (ماضيه) بمختلف أنواع (الاختلاقات) و(التلفيقات)، بحيث يبقى مشدودا"الى تلك الحقب الأسطورية والخرافية (الطوباوية) ومتعلقا"بها من جهة، وزاهدا"بما يجري في (حاضره) الفائض بالمآسي والطافح بالفواجع من جهة ثانية، مثلما يجهل أو يتجاهل ما سيكون عليه شكل (مستقبله) في القادم من الأيام من نذر ومخاطر من جهة ثالثة. هذا بالطبع دون تفرط تلك الأنظمة باستثمار الأرصدة الاعتبارية الضخمة التي تتوفر عليها وتحتكم إليها الثقافات (الفولكلورية) الملئية بقصص الأبطال الخارقين وحكايات السلف العظام، والتي غالبا"ما كانت (مؤسطرة) و(مؤمثلة) في العقل الجمعي العراقي الذي يمتاز بالطابع العاطفي والانفعالي. ولعل هذا يفسر لنا سرّ تهيب البعض من المؤرخين والباحثين ممن يتحلون بالواقعية في التحليل والموضوعية في التأويل، من الخوض في غمار هذه (التابوات) المعطلة للعقل والمكبلة للإرادة على خلفية إحاطتها بالممنوعات الاجتماعية والمحرمات الدينية منذ قرون.
والمفارقة أنه كلما عظم شأن الخطب الذي يحيق بحياة الإنسان العراقي وهو يجابه التحديات اليومية على مختلف الصعد والمستويات، كلما كان ميله لاستحضار (الماضي) بكل مناقبه ومثالبه، فضائله ورذائله أقوى وأشدّ، لا لكي يستقرأ الأحداث ويحلل المعطيات ويستخلص الدروس ويتعظ بالعبر، وإنما لكي يحتكم إليه في جدالاته البيزنطية ويستنجد به في صراعاته الدونكيشوتية، دون أن يراع الفوارق الزمنية والأبعاد المكانية التي تفصل ما بين العصور والحقب والمراحل، وما تنطوي عليه من اختلافات جوهرية في ميادين السياسة وحقول الاجتماع ومضامير الاقتصاد وأنماط الثقافة وتضاريس الجغرافيا. وهو الأمر الذي كلفه الكثير من الكوارث والمآسي ليس أقلها اجترار أوهامه وتكرار أخطائه وتواتر معاناته، للحدّ الذي أفقده حسّ الانتماء للواقع الذي يعيش والولاء للمجتمع الذي ينتمي، وبالتالي حصاد المزيد من حالات (الاغتراب) و(الاستلاب) و(الضياع) و(الانخلاع).
خامسا"- الخاصية المزاجية (اللامبدئية): سهولة التحول الإيديولوجي من النقيض الى النقيض
كنا قد ألمحنا ضمن فقرة الخاصية (النكوصية)، اتصاف العقل العراقي بصفات الانفعال والمزاجية، والمقصود بذاك ان صاحب هذا العقل حين يتعاطى مع معطيات الواقع وينخرط في حراك المجتمع، لا يشرع من حقيقة (الترابط) البنيوي بين الظواهر الطبيعية، و(التفاعل) الجدلي بين المكونات الاجتماعية، و(التكامل) الوظيفي بين معطيات الأولى وسلوكيات الثانية. وإنما يحدد مواقفه، ويبني تصوراته، ويقنن تصرفاته، انطلاقا"مما تمليه عليه الحالة (المزاجية) التي يمر بها ويشعر فيها خلال ظرف زماني أو مكاني معين. إذ أن بندول طبيعته السيكولوجية لا يتأثر بالقضايا التي لها علاقة بالقيم (الوطنية)، أو المثل (الأخلاقية)، أو المبادئ (الإنسانية)، أو المعايير (الحضارية). بقدر ما يميل هذا البندول باتجاه المنافع الشخصية والدوافع الفئوية التي تشكل - في حالة الإنسان العراقي - النوابض الخفية للشخصية العراقية الملتبسة.
والحقيقة ان لهذه الخاصية (المزاجية) أسباب تاريخية غائرة لا ترتبط فقط بكوارث (الحاضر) وما تسببت له من هوان فحسب، وإنما هي تنتمي الى مآس (الماضي) وما أورثته له من أحزان، حيث صعب على الإنسان العراقي إدامة الشعور بالطمأنينة والركون الى الاستقرار، في بيئة جغرافية - إيكولوجية طالما كانت قاسية عليه وعنيفة ضده، الأمر الذي طبعت شخصيته بطابع سيكولوجي يتسم بالخوف من الواقع المعيش والقلق من المصير المجهول. فبقدر ما كان هذا الإنسان يكافح لضمان وجوده من الاندثار والحفاظ على نوعه من الانقراض، بقدر ما كانت عوامل الطبيعة وعناصر الجغرافية تشعره بعجزه وقلة حيلته إزاء تطويعها لإرادته وتدجينها لحاجاته. وعلى ما تذكر كتب التاريخ والحضارة، فان معاناته وقلقه لا يقتصران فقط على ما تمخض عن تواتر الغزوات واستمرار الصراعات من دمار عمراني وخراب حضاري، بحيث كلما تقدم خطوة الى الأمام اضطرته تلك الغزوات والصراعات الى التراجع خطوات عدة الى الوراء فحسب، وإنما فداحة ما أصابه من جور الطبيعة القاسية وما لحق به من أضرار جراء ضراوة نوباتها الدورية كذلك. لاسيما تلك المتمثلة بتغيير مسارات نهري دجلة والفرات بشكل دائم، الأمر الذي يضطره الى هجره أماكن سكنه وترك أراض زراعته باستمرار، هذا بالإضافة الى ما كان ينوبه من خسائر مادية وبشرية خلال مواسم الفيضانات المدمرة وما ينجم عنها من مجاعات رهيبة وأوبئة فتاكة، ناهيك بالطبع عما تسببت به ظواهر أخرى لا تقل ضررا"مثل ؛ الجفاف والاطماء والملوحة.
وفي إطار هذه الظاهرة، فقد قدمت لنا تجربة الأحزاب السياسية العاملة في العراق (الشيوعية والقومية والإسلامية) منذ العقود الأولى للقرن الماضي وحتى كتابة هذه السطور، الكثير من الحالات التي تشي بأن قسم كبير من الأعضاء المنخرطين في تنظيمات تلك الأحزاب، انسلخوا في مرحلة من المراحل أو محطة من محطات نشاطهم السياسي عن أحزابهم السابقة، بحيث تحولوا من أقصى (اليسار) الى أقصى (اليمين) وبالعكس، دون أن ينتابهم أدنى شعور بالحرج جراء هذا الانقلاب المفاجئ والمحيّر. وربما هناك من يعزو هذه الظاهرة الى حصول نضوج (فكري) وارتقاء (ثقافي) بالنسبة للشخص المتحوّل من إيديولوجيا (اليمين) الى إيديولوجيا (اليسار)، هذا في حين ينظر الى الشخص الذي فضّل الخيار المعاكس – كأن يتخلى عن انتماؤه الشيوعي أو القومي السابق لصالح انتماؤه الإسلامي اللاحق – بمثابة نكوص معرفي وارتداد فكري وتقهقر حضاري. إلاّ أن كلا وجهتي النظر هاتين تخفقان في تشخيص الأسباب الحقيقية وتحديد الدوافع الفعلية التي تكمن خلف هذا التصرف، من حيث كونها تؤسس هذه الرؤية أو هذا التصور بناء على أحكام مسبقة لا صلة لها بالواقع.
ومن الجدير بالملاحظة ان الإشارة الى هذه الخاصة المعيارية لدى الشخصية العراقية، لا يراد منها (الانتقاص) من شأن هذه الشخصية أو الإحياء بأنها غير جديرة بالثقة، باعتبار كونها جبلت على الافتقار الى فضائل (المبدئية) الفكرية والأخلاقية، بقدر ما يراد منها التأكيد على أنها حصيلة (الاضطرار) الوجودي لمواجهة فرشة التحديات المتمثلة؛ بقسوة الجغرافيا، وعنف التاريخ، وتعسف السياسة، وتخلف الاقتصاد، وتطرف الاجتماع، وتعصب الثقافة، وتطيف الدين كذلك. بمعنى أن صيرورة هذه الخاصية هي نتاج ظروف قاهرة وشروط قاسية حتمت على الإنسان العراقي أن يراع ضرورة (التكيف) السيكولوجي مع ما تستدعيه هذه وتلك من مواقف طارئة وسلوكيات استثنائية، إذا ما أراد أن يتجنب الخسائر المادية والمعنوية والوجودية المتوقعة. وبتقادم هذه الحالة على مدى قرون وتراكم عواقبها النفسية، أضحى ما كان عابرا"ومؤقتا"في حياة هذا الإنسان شيء أشبه بالخاصية البنيوية القارة في اللاوعي، بحيث طبعت شخصيته الملتبسة بطابع (الشك) و(الحذر) من كل ما تضطره الحاجات اليومية - الآنية للتعاطي معه، سواء على صعيد العلاقات الشخصية، أو الارتباطات السياسية، أو الولاءات الإيديولوجية. بحيث يترك لنفسه مسافة آمنة يستطيع من خلالها الإسراع ب(التراجع)، ومن ثم تغيير المسار السابق في اللحظات الحرجة والانعطافات الحادة التي يستشعر أنها باتت تنذر بالخطر.
ولكي لا نبدو مجحفين وغير منصفين إزاء هذا السلوك المتردد والمتقلب الذي يبديه الإنسان العراقي خلال تعامله مع معطيات الواقع الاجتماعي، للحدّ الذي يكون فيه مدعاة للإدانة والاتهام ب(المزاجية) و(اللامبدئية)، فإن من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن مواقف وسلوك الحركات السياسية التي كان ينتمي إليها وينخرط في أنشطتها، كانت من العوامل المساهمة والمؤثرة في تكريس هذه الخاصية في سلوكه، ومن ثم وتغذيتها بكل ما يمنحها الديمومة والبقاء في وعيه. فمنذ أن أبصرت هذه الحركات السياسية النور على أرض الممارسة وهي تعاني ليس فقط (الانقسامات) و(الانشطارات) بين قياداتها المهووسة بزعامة أحزابها والاستئثار بنفوذها والاستحواذ على امتيازاتها فحسب، وإنما تخلل تاريخها المضطرب سلسلة من (المساومات) و(التحالفات) التي أضرت بمبادئها وأهدافها وبرامجها، بحيث لم تعد تحضى بتلك (الهالة) وتنال ذاك (البريق) الذي كان لها في السابق، وهو الأمر الذي وسم أغلب انتماءاته السياسية ب(الظرفية) وولاءاته الإيديولوجية ب(السطحية).
سادسا"- الخاصية الانشطارية (اللامعيارية): تعدد الانتماءات وتنوع الولاءات
إذا ما جمعنا ما سبق من الخصائص المعيارية السالفة بعضها الى بعض، فإن حصيلتها ستفضي الى خاصية أخرى مهمة توفرت عليها الشخصية العرقية، ألا وهي الخاصية الانشطارية أو (اللامعيارية). بمعنى أن اهتمامات الإنسان العراقي لا تنحصر في موقف واحد أو توجّه معين أو تصور محدد، بحيث يمكنك الاستدلال على ما يعتقد فيه أو يعتمد عليه أو ينتمي إليه، وإنما هو خليط من كل هذا وذاك بما يفضي الى التشويش والبلبلة. وربما هناك من يرى أن هذه الخاصية هي من الأمور الجيدة والايجابية التي ينبغي الدعوة لها والتشجيع عليها والانخراط فيها، بدلا"من أن ينظر إليها بمنظار النقد والتجريح، من منطلق ان ظاهرة (التعدد) و(التنوع) هي من المؤشرات الأساسية التي أضحت تدل على النضوج الفكري والتوازن النفسي والرقي الحضاري.
والحقيقة أنه لا تثريب على من يرى في ظاهرة (التعدد) و(التنوع) دليل عافية اجتماعية ونفسية وحضارية، ولكن بشرط ألاّ تكون هذه الظاهرة على حساب القضايا (المعيارية) التي هي بمثابة الأسس والركائز التي يقوم عليها مدماك المجتمع وتحدد مآل مصيره، وإلاّ فأنها ستتحول – عاجلا"أم آجلا"- الى عامل نشط من عوامل الاحتراب الاجتماعي والخراب الاقتصادي واليباب الحضاري. فهل أدلكم على نموذج أو تجربة تثبت لكم ذلك ؟! أنظروا الى حال المجتمع العراقي كيف تحولت ظواهر (التعدد) و(التنوع) في الأرومات القومية – الاثنية، والانتماءات القبلية – العشائرية، والمرجعيات الحضارية – الثقافية، والانحدارات الجهوية – المناطقية. الى صواعق شديدة الانفجار أحالت كيان المجتمع العراقي الذي كان يظن يوما"أنه كالبنيان المرصوص، الى شظايا متناثرة من الأقوام والملل والطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر، لا يجمعها جامع سوى الضغائن والأحقاد والكراهيات.
ولعل ما يجعل من الخاصية الانشطارية (اللامعيارية) التي تتميز بها الشخصية العراقية مصدرا"لتعميق الخلافات والانقسامات القائمة، ومنبعا"لتزايد الكراهيات والصراعات، هي أن هذه الشخصية تفتقر لحد الآن – رغم باع تاريخها الطويل – الى ما يلم شعثها ويرمم صدوعها ويجمع شملها، على أساس سرديات تاريخية مشتركة، ورمزيات وطنية موحدة، وهويات حضارية واحدة. بحيث لا تمنحها فقط (المناعة) الفكرية والنفسية حيال شتى النعرات والعصبيات التي تعصف بها من كل صوب فحسب، بل وكذلك تمنحها (الصلابة) الوطنية والحضارية إزاء مختلف المحاولات الرامية الى تكسير إرادتها وشق صفوفها وبعثرة وحدتها، وهو الأمر الذي يفسر لنا سرّ استمرار معاناة ومكابدات هذه الشخصية من مظاهر (الهشاشة) البنيوية إزاء الصدمات، و(الرثاثة) الحضارية إزاء التحديات.
ومما فاقم من مساوئ هذه الخاصية وعمق تداعياتها على صعيد الوعي والسلوك الجمعيين، هو أن هذا (التفتت) في الانتماء و(التشتت) في الولاء، اتسما – إن جاز لنا القول – بالطابع العابر للتاريخ (اللاتاريخي). بمعنى أنهما لا يخضعان لسيرورات التحقيب الزمني التي من شأنها تأطير الظاهرة أو الموقف بناء على مقتضيات الحالة القائمة، واستنادا"الى معطيات السياق السائد، بحيث يجاريان ما يتعرض له الواقع من تغييرات وتحولات، ويحايثان ما يطرأ عليه من تطورات انزياحات. وإنما يتخطيان حدود الملموس والمعيش في ذلك الواقع، ويتجاوزان على شروطه الموضوعية ويتساميان فوق خصوصياته الذاتية. ولذلك فليس من المستغرب بقاء هذه الخاصية (اللامعيارية) لصيقة في كينونة الشخصية العراقية كما الظل، رغم كل ما شهده المجتمع العراقي من تقلبات سياسية، وتغيرات اجتماعية، وتوجهات إيديولوجية، وتحولات تاريخية.
وعلى الرغم من مزاعم (الإصلاح) و(التحديث) التي روجت لها أنظمة الحكم السابقة في العراق، سواء منها (السلطانية) أو(الملكية) أو (الجمهورية)، فإن تحولا"نوعيا"في بنى الوعي وأنساق الثقافة وتمثلات الذاكرة، لم يطرأ على ما كان سائدا"فيها ومهيمنا"عليها منذ عشرات السنين إن لم تكن المئات أي تغيير أو تطور يذكر، الأمر الذي دأبت خلالها أجيال العراقيين المتعاقبة على مراعاة ما كانت تحمله من مضامين، والالتزام بما كانت تحضّ عليه من قيم، والخضوع لما كانت تمثله من رموز. ولهذا فقد حافظ أغلب العراقيين بشكل لافت على عاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم المتوارثة أبا"عن جد، حيث كانوا حريصين على استمرارها وديمومتها لا في علاقاتهم الاجتماعية وتواضعاتهم العرفية فحسب، وإنما اجتافوها في وعيهم وتمثلوها في سلوكهم أيضا"، كما لو أنها واجب أخلاقي لا يجوز التفريط فيه أو فرض ديني لا ينبغي التهاون بشأنه.
وكما هو متوقع في مثل هذه الوضعية المأزقية، فقد لبثت الشخصية العراقية تعاني ليس فقط حالة (الازدواج) في مهاد وعيها وأنماط سلوكها، كما سبق للعلامة الراحل (علي الوردي) أن شخصها في وقت مبكر، وإنما الابتلاء ب(التشظي) في الانتماء و(التشتت) في الولاء، بقدر ما تجسّد من ثقافات فرعية، وتحمل من هويات تحتية. ولذلك نجد ان الإنسان العراقي يعيش في حالة من (السيولة) و(الهلامية) الدائمة، بحيث يدهشك – في بعض الأحيان – حجم التناقض في مواقفه وعمق التعارض في تصرفاته، حتى لتظن أنه يعيش في عدة أزمنة (ماضي وحاضر ومستقبل)، ويقيم في عدة أمكنة (أرياف وقرى ومدن)، وينتمي لعدة جماعات (طبقية وقبلية وعشائرية)، ويحمل عدة هويات (دينية وطائفية ومذهبية)، ويجتاف عدة إيديولوجيات (شيوعية وقومية وإسلامية)، ويتبنى عدة ثقافات (فولكلورية وحداثية وما بعد حداثية) (الخ. والمفارقة أنه في كل هذا الكم الهائل من التناقضات والتعارضات والتقاطعات، لا يجد هذا (الإنسان – اللغز) ما يبعث على الحرج في نفسه، أو يثير الدهشة لدى الآخرين، ذلك لأنه مقتنع تماما"ان ما يعتقده به من آراء وما يفعله سلوكيات، لا يتعارض البتة مع ما هو سائد في مجتمع تآلف مع / وتواضع على ذات القيم والأعراف والتقاليد، حيث (اللامعيارية) فضيلة عظمى، و(اللامبدئية) امتياز كبير !.
***
ثامر عباس – باحث عراقي