قضايا
يونس الديدي: لولا الجنون لما تزوج أحد

بعدما تصبح العلاقة الزوجية في مساءات كثيرة، حين تفرغ الطمأنينة من البيوت، ويذبل الورد في قلب العلاقة، يُطرح السؤال في سرّ الإنسان: لماذا أتحمّل هذا؟ لماذا أظلّ هنا؟
ما الذي يجعل امرأة تصبر على زوج لا يصغي ولا يرى؟ ما الذي يجعل رجلًا يعود كل مساء إلى علاقة تفتك به شيئًا فشيئًا، فيسمّيها “حبًا” أو “واجبًا” أو “قدرًا جميلًا”؟
الحقيقة أن العقل وحده لا يفسّر ذلك. وحده الجنون يفعل.
الحب لا يُقاس بالمكاسب
علم النفس العلائقي (Relational Psychology) يشير إلى أن العلاقات الحميمة لا تُبنى دائمًا على التوازن أو المساواة، بل على حاجة لاواعية إلى الإكمال. فرويد، ثم يونغ بعده، تحدّثا عن أن الإنسان يبحث في شريكه عن ما ينقصه، عن مرآته الداخلية، عن جرحه الأول الذي يريد أن يشفى، أو يتكرر.
لكن تلك الرغبة في “الإكمال”، تحمل في جوفها عذابًا. لأن من نختاره ليكون شفاءنا، يصبح في أحيان كثيرة امتدادًا لجرحنا.
من هنا نفهم كيف أن كثيرًا من النساء - والرجال - يبقون في علاقات تبدو للمنطق “غير معقولة”. امرأة يُهملها زوجها، يقلل من شأنها، يغيب عنها عاطفيًا وربما جسديًا، لكنها تستمر. تسألها، فتجيبك بأشياء لا تصمد أمام التحليل: “من أجل الأطفال”، “من أجل العائلة”، “سيتغير”، “فيه خير رغم كل شيء”.
لكن الحقيقة أن الاستمرار ليس دائمًا قرارًا عقلانيًا. إنه، في جزء عميق منه، ضربٌ من الجنون. جنون ناعم يسند توازننا في عالم مفكك.
الزواج مغامرة جماعية
الفيلسوف الفرنسي ألان باديو كتب ذات مرة أن “الحب ليس وعدًا بالسعادة، بل مغامرة في المجهول”. والزواج، بهذا المعنى، هو أكبر مغامرة جماعية صدّقها البشر منذ أن اكتشفوا الزراعة.
لماذا يربط الإنسان حياته بحياة أخرى، رغم كل احتمالات الفشل؟ لماذا نقف أمام منبر أو قاضٍ أو شيخ ونعد بعدم الرحيل؟
لأننا مجانين.
علم النفس التطوري (Evolutionary Psychology) يحاول أن يُرجع الأمر إلى البقاء: تأمين شريك للتكاثر، لتنشئة الأطفال، لتقاسم الموارد. لكن هذا التفسير لا يصمد أمام سؤال بسيط: لماذا نبقى حتى حين تنعدم الموارد ويغيب الأطفال وتندثر الرغبة؟
جنون المرأة النبيل
ثمة نوع خاص من الجنون الأنثوي في العلاقات، لا بدّ أن يُحتفى به بقدر ما يُساء فهمه. ليس جنون الغيرة أو السيطرة أو العاطفة الفياضة، بل جنون “التحمّل”.
امرأة تصبر على رجل لسنوات، رغم خيباته المتكررة، رغم صمته الموجع، رغم فشله في إدراك وجودها ككائن حيّ له رغبات وأحلام. هذا ليس ضعفًا، كما تُحب أدبيات التمكين أن تقول، بل نوع من “الجنون الأخلاقي”، كما سماه سلافوي جيجيك، أي القدرة على الاستمرار في شيء لا يُعقل إلا بالقلب.
والرجل؟ لا يقلّ جنونًا
هو الآخر، يبقى أحيانًا في علاقة لم يعد يجد فيها ذاته. يتخلى عن رغباته، عن حريته، وربما عن حقيقته، فقط ليحفظ شيئًا اسمه “البيت”.
ربما لا يقول كثيرًا، لكنه يعيش داخليًا تمزقًا حادًا بين ما يريد وما ينبغي. ذلك الانشطار، حسب جون بول سارتر، يولّد في الرجل “قلق الوجود”، أي الرغبة في أن يكون حرًا ومسؤولًا في ذات الوقت.
الزواج، في هذا السياق، هو فضاء الجنون الذي يسمح له بأن يعيش هذا التناقض من دون أن ينهار.
مفارقة الجنون: ما يحمي العلاقة ليس العقل
أشارت دراسة شهيرة نُشرت في Journal of Marriage and Family عام 2018، إلى أن الأزواج الذين يستمرون في علاقات طويلة ليسوا بالضرورة الأكثر توافقًا، بل أولئك الذين يمتلكون “قدرة عالية على المعنى”. أي أولئك الذين يرون في المعاناة ذاتها قيمة ما، قصة تستحق أن تُروى، أو جنونًا يُبرر الاستمرار.
الجنون هنا ليس فقدانًا للعقل، بل تجاوزه. هو ما يسمح لنا بأن نقبل النقص، أن نسامح، أن نُعيد تعريف الحب كلما انكسر.
مجنون من يفتح قلبه
حين يفتح الإنسان قلبه لإنسان آخر، فإنه يغامر: بأن يُرفض، أن يُؤذى، أن يُفهم خطأ، أن يُخدع. هذه ليست مخاطرة منطقية، بل قفزة إيمانية.
كيركغارد تحدث عن “قفزة الإيمان”، وهي ما يقوم به الإنسان حين يُراهن على ما لا يُثبت. هكذا هو الحب. وهكذا هو الزواج.
نعم، لولا الجنون لما تزوج أحد. لولا هذا الشيء الغامض الذي يجعل امرأة تغفر لرجل أساء، ورجلًا يصبر على امرأة لا يفهمها، لما استمرت الحياة.
الجنون هو تلك القدرة الغامضة على رؤية النور في غرفة مظلمة. على إعادة اختراع العلاقة بعد كل انهيار. على البقاء حين لا يبدو للبقاء معنى.
ولعل أجمل ما في هذا الجنون… أنه ما يجعلنا بشرًا.
بشرًا قادرين على الحلم، على الفقد، وعلى الحب رغم كل شيء
***
بقلم: يونس الديدي