قضايا

عبد الحليم لوكيلي: نشأة مصطلح المنطق

يكتسي موضوع المنطق أهمية كبرى في تاريخ الفكر الإنساني النظري. وهي أهمية نابعة من الدور الذي يلعبه في إرشاد العقل البشري نحو استخدام سليم ومفيد في سيرورة فهمه للأشياء من جهة، والعيش في علاقة الذات بالآخرين من جهة أخرى. ونظرا، لهذه الأهمية التي يتسم بها المنطق، فإننا سنحاول تقديم بعض الملاحظات البسيطة التي تقربنا من فهم نشأة مصطلح المنطق.

من المعروف نظريا أن التفكير البشري لم يبدأ مع لحظة تأسيس الفكر الفلسفي النظري مع اليوناني، بل مع وجود الإنسان ذاته. وإذا كان الأمر كذلك، فإن اعتبار المنطق أداة تفكير لوقاية العقل من تلك الاستخدامات الخاطئة، يجعلنا في حال اعتقاد بأن هناك إمكانية لوجود التفكير المنطقي، قبل ظهوره كصنعة أو فن أو علم مع الفيلسوف اليوناني أرسطو (384ق.م-322ق.م). وبالرغم من أن هناك انعدام للمصادر التاريخية المكتوبة التي تبين كيفية تفكير الناس وعيشهم قبل المرحلة اليونانية من تاريخ التفلسف، فإن هناك احتمال كبير بكون حكماء تلك العصور، قد كانوا على بينة من استخدام عقولهم بطرق منطقية سليمة في إدراكهم وفهمهم لذواتهم والعالم الذي يحيط بهم.

وبهذا المعنى، يمكن القول بأن التفكير المنطقي قديم قدم التفكير البشري، إنه مصاحب للإنسان في وجوده وترحاله، وإن كان يغيب عنه في لحظات تتخذ منها الذات أنماطا أخرى من أنواع التفكير، كالتفكير الخرافي والأسطوري...الخ. أما بخصوص فن المنطق الذي تدور رحاه حول مجموعة من التساؤلات: ما المنطق؟ وكيف ظهر؟ وعلى  يد من؟ ومتى؟ وما الغاية منه؟...إلخ، فهي أسئلة تعود -بحسب المصادر التاريخية- إلى اللحظة التي تم فيها تقعيد الفكر البشري نظريا في اليونان، لاسيما، مع الفيلسوف أرسطو الذي قام بتأسيس علم قائم بذاته مبتغاه اعتماد براهين معقولة نحو الأشياء، دون الوقوع في الزلل والغلط. لكن، هل يوجد فن أو صنعة أو علم يدعى بكلمة المنطق في فلسفة أرسطو؟

إن الناظر إلى كتابات أرسطو الفلسفية، لن يعثر على مبحث أو علم قائم بذاته يدعى باسم "المنطق" (The logic)، بل إن هذا المصطلح لم يظهر إلا مع شراح فلسفته، وهم: ثامسيطيوس، وأندرونيكوس الرودسي فورفوريوس، والاسكندر الأفروديسي، وجالينوس. وبهذا المعنى، يمكن الإشارة إلى أن أرسطو قد استعمل مصطلحا آخرا للدلالة على هذا المبحث، حيث أطلق عليه مفهوم "أنالوطيقا"؛ أي التحليل أو الفكر التحليلي .(La pensée analytique) وإذا كان الأمر كذلك، فمن أين أتت كلمة المنطق؟

يرجح، أن أقرب كلمة تم اشتقاق منها كلمة المنطق هي كلمة اللوغوس (Logos) اليونانية. وهي كلمة ترجمت إلى المنطوق العربي بمصطلحات عدة، كالعقل، والكلام، والفكر، واللغة، والخطاب، ...إلخ. لكن، ما علاقة كل هذه المصطلحات بالمنطق؟

نعلم بأن الكشف عن الكيفية التي يفكر بها المرء منطقيا، لا يمكن أن تتم إلا عبر النطق أو الكتابة. وبما أن كلمة اللوغوس تدل على الخطاب الذي يرقى إلى مستوى المعقولية المطابقة للواقع؛ أعني المعقولية المنطقية، فإنه تم ربط كلمة المنطق بالخطاب أو الكلام الذي منه نستشف ما إذا كانت القضايا التي يبوح بها المرء منطقية أم لا. والدليل في ذلك، هو ما نتوفر عليه من نصوص في الحضارة العربية الإسلامية التي ربطت كلمة المنطق بالنطق. لقد عرف ابن منظور في معجمه لسان العرب المنطق بالقول: «نطق الناطق ينطق نطقا، والمنطق هو الكلام» (ابن منظور، لسان العرب، مادة النطق، 14-188). بل إن هناك من سلك مسلك التمييز بين نوعان من النطق؛ النطق الظاهري الذي يشير إلى الكلام، والنطق الباطني الذي يشير إلى المعقولات ومحاولة إدراكها. يقول أبو الحسن عبد القادر الجرجاني في هذا الصدد ما يلي: «المنطق يدل على الظاهري وهو التكلم، وعلى الباطني، وهو إدراك المعقولات، وهذا الفن يقوي الأول، ويسلك بالثاني مسلك السداد» (أبو الحسن الجرجاني، التعريفات، مادة المنطق، ص. 127). وفي السياق نفسه، يقول محمد علي الفاروقي التهانوي (عالم هندي عاش في القرن 18 ما بين سنة 1745م و1770م) في كتابه "كشاف اصطلاحات الفنون" ما يلي: «وقد قالت العرب: نطقت الحمامة، والذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير، هو ما يفهم بعضه البعض من مقاصده وأغراضه، وإنما سمي بالمنطق لأن النطق يطلق على اللفظ، وعلى إدراك الكلمات، وعلى النفس الناطقة». هكذا، إن الملاحظ من هذه التحديدات أن العرب أرجعوا المنطق إلى جذره الاشتقاقي "اللوغوس"، لذلك، يتبين الربط بين الكلام أو النطق من جهة؛ وإدراك المعقولات من جهة أخرى.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - أستاذ مادة الفلسفة

المغرب

 

في المثقف اليوم