آراء
حاتم حميد محسن: صعود وسقوط العولمة (2-2)
لماذا سيكون الانهيار المالي القادم اكثر سوءاً عندما تبقى أمريكا على الهامش؟
للعولمة هناك دائما نقادها لكن هذه الانتقادات مؤخرا جاءت بشكل رئيسي من اليسار بدلا من اليمين. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، حينما نما الاقتصاد العالمي بسرعة تحت هيمنة الولايات المتحدة، جادل العديد من اليسار بان مكاسب العولمة لم تكن عادلة في التوزيع، زادت من اللامساواة في الدول الغنية بينما أجبرت الدول الفقيرة لتنفيذ سياسات السوق الحر مثل فتح أسواقها المالية وخصخصة صناعاتها الوطنية ورفض سياسات التوسع المالي لأجل تسديد الديون – جميعها صبت في مصلحة البنوك والشركات الامريكية.
لم يكن هذا قلقا جديدا. رجوعا الى عام 1841، جادل الاقتصادي الألماني فردريك لست Friedrich List بان التجارة الحرة صُممت لمنع تحدي الهيمنة البريطانية العالمية، مشيرا:
"عندما يحصل أي شخص على قمة العظمة، سيركل السلّم الذي يصعد به لكي يحرم الاخرين وراءه من وسائل التسلق.." وفي أعوام 1990، جادل منتقدو الرؤية الامريكية للنظام العالمي مثل الحائز على جائزة نوبل الاقتصادي جوزيف ستجلز ان العولمة في شكلها الحالي أفادت الولايات المتحدة على حساب الدول النامية والعمال – بينما المؤلف والناشط نعومي كلاين Naomi Klein ركز على النتائج البيئية والثقافية السلبية للتوسع المعولم للشركات المتعددة الجنسية.
اندلعت تظاهرات واسعة يقودها اليسار فعطلت الاجتماعات الاقتصادية العالمية التي من بينها اجتماع منظمة التجارة العالمية عام 1999. اثناء "معركة سياتل" هذه أدى العنف المتبادل بين المحتجين والشرطة الى منع بدء دورة جديدة للاجتماع حول التجارة التي كانت نالت الدعم من الرئيس الأمريكي بل كلينتون. بعد وقت قصير، بدا الائتلاف الواسع للنقابيين والبيئيين ومعارضو الرأسمالية مستعدا لتحدي المسار نحو عولمة أخرى – مع احتجاجات مناهضة للرأسمالية انتشرت حول العالم في اعقاب الازمة المالية لعام 2008.
في الولايات المتحدة، هناك انتقاد آخر للعولمة تركز على تأثيراتها المحلية على العمال الأمريكيين – اي، خسارة الوظائف وقلة الأجور – قادت للدعوة لمزيد من الحماية. وعلى الرغم من انها قادها في البدء النقابيون وبعض السياسيين الديموقراطيين، لكن هذا النقد تدريجيا اكتسب شعبية في حلقات اليمين الراديكالي الذين عارضوا إعطاء أي دور للمنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، على أساس انها تمس السيادة الامريكية. طبقا لهذه الرؤية فان وقف المنافسة الأجنبية التي خفضت أجور عمل العمال الأمريكيين ربما يؤدي الى استعادة الازدهار. الهجرة كانت هدف آخر.
في ظل إدارة ترامب الثانية للولايات المتحدة، هذه الانتقادات تحولت الى سياسات اجتماعية واقتصادية راديكالية مزعجة للغاية – مع تعريفات كمركية وحماية فان عمل كهذا، رغم عظمته في المسرح العالمي أكد ما كان واضحا منذ فترة طويلة لمراقبي السياسة الامريكية عن كثب: ان قرن أمريكا من الهيمنة العالمية ودولار كعملة رقم واحد، يقترب بسرعة من نهايته.
وحتى قبل دورة ترامب الأولى في السلطة عام 2017، بدأت أمريكا الانسحاب من دورها القيادي في المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية. الجزء الأقوى في اقتصادها، قطاع التكنلوجيا العالية، تحت ضغط مكثف من الصين التي اقتصادها هو سلفا اكبر من اقتصاد الولايات المتحدة بمقياس واحد أساسي هو الناتج المحلي الإجمالي GDP. في تلك الاثناء، غالبية المواطنين الأمريكيين يواجهون دخولا راكدة وأسعار عالية والمزيد من الوظائف المهددة بالزوال.
في القرون السابقة، عندما وصلت فرنسا أولا وبريطانيا العظمى ثانيا الى نهاية عصرهما في الهيمنة على العالم، هذه التحولات كان لها تأثيرات مؤذية تتجاوز حدودهما. هذه المرة، ومع الاقتصاد المعولم المتكامل اكثر من أي وقت مضى ولا وجود لقوة مهيمنة واحدة في الكواليس تتولى زمام الأمور، فان التأثيرات يمكن ان تتسع اكثر وبأضرار كبيرة ان لم تكن كارثية.
لماذا لا احد مستعد لشغل مكان الولايات المتحدة؟
عندما يتعلق الامر بتولّي المسؤولية من الولايات المتحدة كأكبر قوة مهيمنة في العالم، فان المرشح الوحيد الحيوي ذو الاقتصاد الكبير بما يكفي هو اما الاتحاد الأوربي اوالصين. لكن هناك أسباب قوية للشك بقدرة أي منهما في تولي هذا الدور رغم حقيقة ان إستراتيجية جو بايدن للأمن القومي عام 2022 اعتبرت الصين: "المنافس الوحيد من حيث رغبتها بإعادة صياغة النظام الدولي والحجم المتزايد لقوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنلوجية للقيام بهذا".
خليفة بايدن،الرئيس ترامب بدا غيورا من جهود قادة الصين نحو اقتصادهم القومي، وحقيقة انهم لا يواجهون انتخابات وحدود لفترتهم في الحكم. لكن الحزب الواحد، ونظام سياسي توتاليتاري يفتقر لضوابط الفصل بين السلطات هو سبب رئيسي يجعل من الصعب للصين ان تحصل على الهيمنة الثقافية والسياسية بين الأمم الديمقراطية التي تشكل جزءا من تحقيق المركز الأول عالميا رغم النفوذ الذي استخدمته سلفا في أجزاء كبرى من اسيا وافريقيا.
لاتزال الصين تواجه تحديات اقتصادية كبيرة أيضا. وبينما هي سلفا قائد عالمي في البضائع المصنعة (تتحرك بسرعة نحو السلع ذات التكنلوجيا العالية) وهي اكبر مصدر عالمي، اقتصادها لايزال غير متوازن للغاية – قطاع استهلاكي اصغر، وسوق ملكية ضعيف، والعديد من الصناعات الحكومية غير الفعالة وذات المديونية العالية، وقطاع مالي صغير مقيد بملكية الدولة. ولا تمتلك الصين أيضا عملة عالمية رغم محاولاتها المحدودة لجعل الين عملة دولية.
وكما يشير الباحث الصحفي ستيفن في رحلة صحفية الى شنغهاي عام 2007 للتحقيق بتأثيرات العولمة، ان هناك أيضا اختلافات هائلة بين المدن الساحلية المزدهرة في الصين – التي تنافس نيويورك وباريس – والفقر النسبي في المناطق الداخلية وخاصة المناطق الحضرية. لكن تقريبا بعد عقدين من تلك الزيارة، انخفضت نسبة نمو البلاد والعديد من طلاب الجامعة الشباب هم أيضا يجدون من الصعب الان العثور على وظائف جيدة الأجور.
اما اوربا - المنافس الوحيد لشغل مكان الولايات المتحدة العالمي – هي منقسمة سياسيا بعمق، مع اقتصاديات اصغر واضعف في الشرق والجنوب ما يثير الشك كثيرا حول فوائد العولمة، فهي منقسمة باستمرار حول قضايا الهجرة وحرب أوكرانيا. التحديات هي في تحقيق اتفاق سياسي واسع بين كل الدول الأعضاء، ومشكلة منْ يستطيع التحدث عن اوربا، مما يجعل من غير المحتمل ان الاتحاد الأوربي حاليا يمكن ان يبدأ ويفرض نظام عالمي جديد بذاته.
ان النظام المالي للاتحاد الأوربي أيضا يفتقر لثقل الولايات المتحدة. رغم انه يمتلك عملة مشتركة (يورو) تدار من جانب البنك المركزي الأوربي، فان نظام الاتحاد المالي اكثر تشظيا. بنوك تُنظم قوميا، وكل بلد يصدر سنداته الحكومية الخاصة (رغم ان القليل من سندات اليور موجودة الان). هذا يجعل من الصعب لليورو استبدال الدولار كمخزن للقيمة، ويقلل الحوافز للأجانب للاحتفاظ بيورو كعملة احتياطية بديلة.
في هذه الاثناء، أي احتمالات مستقبلية لإعادة تجديد القيادة العالمية الامريكية تبدو أيضا غير واعدة. سياسة ترامب في خفض الضرائب مع زيادة حجم دين الحكومة الامريكية – الذي الان يقف عند 38 ترليون دولار امريكي، او 120% من الناتج المحلي الإجمالي – يهدد كل من استقرار الاقتصاد العالمي ومقدرة الولايات المتحدة على تمويل هذا العجز الكبير جدا والذي يصعب تصوره.
من الواضح ان إدارة ترامب تبيّن ان لا مصلحة لها في الإنعاش او حتى الانخراط في العديد من المؤسسات المالية الدولية التي سيطرت عليها أمريكا يوما ما، والتي صاغت انظام الاقتصادي العالمي – كما عبر عن ذلك جيميسون جرير Jamieson Greer الممثل التجاري للولايات المتحدة بازدراء في صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا:
"نظامنا العالمي الحالي الغير معروف، الذي تهيمن عليه منظمة التجارة العالمية والذي صُمم نظريا لتطبيق كفاءة اقتصادية وتنظيم السياسة التجارية لـ 166 بلدا من الدول الأعضاء، هو لا يمكن الدفاع عنه وغير مستدام. الولايات المتحدة دفعت لهذا النظام بخسارة الوظائف الصناعية والأمن الاقتصادي، والرابح الأكبر كان الصين."
وبينما لم تنسحب الولايات المتحدة من صندوق النقد الدولي حتى الان، فان إدارة ترامب جادلته ليدعو الصين لإدارة هذا الفائض التجاري الكبير، وتتخلى عن مخاوفها حول تقلبات المناخ. جرير استنتج ان الولايات المتحدة "اخضعت ضرورات امننا القومي والاقتصادي لأدنى قاسم مشترك للإجماع العالمي".
عالم بدون قطب مهيمن احادي
لكي نفهم الاخطار المحتملة امامنا يجب ان نعود لأكثر من قرن الى آخِر مرة لم تكن فيها هيمنة عالمية. في ذلك الوقت انتهت اول حرب عالمية رسميا بتوقيع معاهدة فرساي في حزيران 1919، وحينها انهار النظام الاقتصادي العالمي. بريطانيا قائد العالم في القرن السابق، لم تعد تمتلك نفوذا لفرض نسختها من العولمة.
الحكومة البريطانية كانت مثقلة بديون هائلة استخدمتها لتمويل الحرب، اُجبرت لعمل تخفيضات كبيرة في الانفاق العام. في عام 1931 واجهت الحكومة ازمة الباوند: الباوند كان يجب ان تُخفض قيمته عندما خرجت المملكة المتحدة من نظام الذهب على الرغم من الاستسلام لمطالب المصرفيين الدوليين في قطع مدفوعات البطالة. كانت هذه اخر إشارة بان بريطانيا فقدت موقعها المهيمن في النظام الاقتصادي العالمي.
كانت الثلاثينات 1930 زمن الاضطراب السياسي العميق في بريطانيا والعديد من الدول الأخرى. في عام 1936 نظّم العمال العاطلين في مدينة جارو في شمال شرق اتجلترا الذين بلغت نسبة البطالة بينهم 70% بعد غلق حوض السفن فيها، "مسيرة جوع" غير سياسية الى لندن أصبحت تُعرف بحملة جارو الصليبية. اكثر من 200 رجل ساروا بسلام لمسافة 200ميل، حصلوا على دعم كبير على طول الطريق. مع ذلك، عندما وصلوا الى لندن تجاهل رئيس الوزراء ستانلي بالدوين مطالبهم – وتم ابلاغ المحتجين ان أموالهم المستحقة سيتم خصمها لأنهم لم يكونوا جاهزين للعمل في الأسبوعين الماضيين.
اوربا أيضا كانت تواجه ازمة اقتصادية شديدة. بعد ان رفضت الحكومة الألمانية دفع التعويضات المتفق عليها في معاهدة فرساي عام 1919 قائلة انها ستؤدي الى اقلاس اقتصادها، احتل الجيش الفرنسي قلب المانيا الصناعية في روهر Ruhr والعمال الالمان خرجوا للاضراب مدعومين بحكومتهم. الصراع اللاحق غذى التضخم المفرط في المانيا. في شهر نوفمبر عام 1923 احتاج الناس الى 200 الف مليون مارك لشراء رغيف خبز، وقُضي على المدخرات وتقاعد الطبقة الوسطى من الالمان. في ذلك الشهر، عمل ادولف هتلر اول محاولة للسيطرة على الحكم في "انقلاب قاعة البيرة" الفاشل في ميونخ.
بالمقابل، وعبر الأطلسي، كانت الولايات المتحدة تستمتع بفترة ازدهار ما بعد الحرب، بسوق أوراق مالية مزدهر ونمو انفجاري في الصناعات الجديدة مثل صناعة السيارات. لكن رغم بروزها كقوة اقتصادية عالمية قوية، كونها موّلت الكثير لجهود حرب الحلفاء، كانت غير راغبة لتولّي زمام القيادة الاقتصادية العالمية.
جمهوريو لكونغرس الأمريكي، أغلقوا خطة الرئيس ودرو ويلسون لعصبة الأمم، بدلا من ذلك احتضنوا العزلة وغسلوا أيديهم من مشاكل اوربا. الولايات المتحدة رفضت الغاء او تقليل ديون الحرب المستحقة على دول التحالف، التي بالنهاية رفضت تسديد تلك الديون. وكرد فعل انتقامي، منع الكونغرس الأمريكي جميع البنوك الامريكية من اقراض نقود لأولئك الذين هم ضمن التحالف.
بعد ذلك، في عام 1929، توقف فجأة عصر موسيقى الجاز الأمريكي المزدهر مع انهيار سوق الأسهم الذي فقد نصف قيمته. فورد اكبر المصنعين في البلاد اغلق ابوابه لمدة سنة متخليا عن جميع عماله. ومع بطالة ربع السكان وطوابير طويلة للحصول على شوربة الدجاج التي لوحظت في كل مدينة، تجمّع أولئك الذين طُردوا في مخيمات حيثما استطاعوا – بما في ذلك الحديقة المركزية في نيويورك.
في المناطق الريفية كان انهيار الأسعار الزراعية يعني عدم استطاعة الفلاحين العيش، فلاحون مسلحون أوقفوا شاحنات الحليب والطعام وحطموا محتوياتها في محاولة عبثية لتقليل العرض ورفع الأسعار. وفي مارس 1933 عندما تسلّم الرئيس روزفلت السلطة، توقف تماما كل النظام المصرفي الأمريكي، ولا احد قادر على سحب نقود من حسابه المصرفي.
مع تركيزها على الكساد الكبير المدمر، رفضت الولايات المتحدة التورط في محاولات الشركات الاقتصادية الدولية. وبدون تحذير، انسحب الرئيس روزفلت من مؤتمر لندن عام 1933 الذي دعا لتأسيس عملات عالمية – مرسلا رسالة تشجب " الأوهام القديمة لما سمي بالمصرفيين الدوليين". ومع خروج الولايات المتحدة بعد بريطانيا من نظام الذهب، أدى ذلك الى حروب عملة فاقمت الازمة واضعفت مرة أخرى الاقتصادات الاوربية. وعندما عادت الدول الى السياسات التجارية للحماية وحروب التجارة، تقلصت التجارة العالمية بشكل دراماتيكي. الموقف في وسط اوربا اصبح أسوأ حيث ان انهيار بنك انستالت النمساوي عام 1931 كان له صدى في كل المنطقة. في المانيا ومع تصاعد البطالة الواسعة، تعرضت الأحزاب الوسطية للضغط واندلعت اعمال شغب مسلحة بين الشيوعيين وانصار الفاشية. عندما جاء النازيون الى السلطة ادخلوا سياسة الاكتفاء الذاتي فقطعوا الروابط مع الغرب لبناء ماكنتهم العسكرية.
مهدت المنافسات والخصومات الاقتصادية التي اضعفت الاقتصادات الغربية الطريق لصعود الفاشية في المانيا. وبمعنى ما، هتلر المعجب بالامبراطورية البريطانية كان يطمح ليكون القوة الاقتصادية والعسكرية المهيمنة القادمة، ليخلق امبراطوريته الخاصة عبر القوة والاستغلال القاسي لموارد بقية اوربا. وبعد قرن تقريبا، كانت هناك بعض التشابهات مع فترة ما بين الحربين تلك. مثلما أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى، يصر ترامب على ان الدول التي ساعدتها أمريكا عسكريا هي الان مدينة ويجب ان تدفع نقود مقابل هذه الحماية. هو يريد تشجيع حروب العملة عبر تخفيض قيمة الدولار ويضع عوائق حمائية لحماية الصناعة المحلية. في اعوام العشرينات 1920 قلصت الولايات المتحدة الهجرة بشدة على أسس تحسين النسل، لتسمح فقط للمهاجرين من دول شمال اوربا التي (جادل علماء تحسين النسل) انها سوف لن تلوث العرق الأبيض.
من الواضح، ان ترامب لا ينظر الى قلة التعاون الدولي الذي قد يعمق الاثار الاقتصادية الضارة لإنهيار سوق الأسهم والسندات كمشكلة يجب ان تنال اهتمامه. وفي عالم اليوم المضطرب، ونظرا لفشل الولايات المتحدة في الماضي كقائد عالمي، سيكون هذا الموقف مقلق للغاية.
كيف استجابت الولايات المتحدة للازمة المالية الأخيرة؟
مرة أخرى، تنهار قواعد النظام الدولي. بينما من الممكن ان لا يتم تبنّي اتجاه ترامب بالكامل من جانب خليفته في البيت الأبيض، فان الاتجاه في الولايات المتحدة سيبقى في النهاية مشكوكا فيه حول منافع العولمة، والدعم المحدود لأي قواعد اقتصادية او مبادرات عالمية. نحن نرى شك مشابه حول منافع العولمة يبرز في دول أخرى، وسط صعود أحزاب اليمين الشعبوي في معظم اوربا وجنوب أمريكا – التي نال العديد منها دعم ترامب. ان ما يغذي دعم هذه الأحزاب هو المخاوف المتزايدة بشان عدم المساواة في الدخل وبطء النمو والهجرة التي لم تُعالج من جانب النظام السياسي الحالي – وجميعها ستتفاقم في اول ازمة اقتصادية عالمية جديدة. مع اقتصاد معولم ونظام مالي اكبر من أي وقت مضى، فان ازمة جديدة ستكون أشد بكثير من ازمة عام 2008 عندما بقي العالم يتأرجح على حافة الانهيار بعد فشل النظام المصرفي.
ان حجم هذه الازمة كان غير مسبوق، لكن كبار المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين تحركوا بجرأة وبسرعة. كمراسل للبي بي سي في واشنطن يقول ستيف شيفير انه حضر جلسة استماع للجنة الخدمات المالية في مجلس النواب بعد ثلاثة أيام من افلاس بنك ليمان بروذر، وشل النظام المالي العالمي، لكي نجد جواب الإدارة. هو يتذكر الصورة الصادمة على وجه رئيس اللجنة بارني فرانك عندما سأل رئيس الخزانة الامريكية هانك بولسون ورئيس الاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي كم من النقود تحتاجون لإعادة الاستقرار:
أجاب ببرود "دعنا نبدأ بواحد ترليون دولار امريكي". "لكن نحن لدينا 2 ترليون دولار أخرى في ميزانيتنا لو احتجنا اليها".
بعد ذلك بوقت قصير، وافق الكونغرس الأمريكي على حزمة انقاذ بـ 700 بليون دولار بينما لم يخرج الاقتصاد العالمي بعد من هذه الازمة، وسيكون الموقف اكثر سوءا من الثلاثينات لو لم يحصل هذا التدخل.
الحكومات حول العالم انهت التعهد بـ 11 ترليون دولار لضمان سيولة نظامها المصرفي، حيث وضعت المملكة المتحدة مبلغ مساوي لناتجها المحلي الإجمالي السنوي. ولكن ليس فقط الحكومات. في قمة العشرين في لندن في ابريل 2009، تأسس تمويل جديد مقداره 1.1 ترليون دولار من جانب صندوق النقد الدولي لتهيئة نقود للدول التي تعاني من مشاكل مالية. قمة العشرين أيضا وافقت على فرض معايير تنظيمية اكثر صرامة على البنوك والمؤسسات المالية الأخرى التي تعمل على تطبيقها عالميا لتحل محل التنظيم المصرفي الضعيف الذي كان من اهم أسباب الازمة. يقول المراسل الاقتصادي في تلك القمة، انه يتذكر الاثارة الواسعة والتفاؤل في ان العالم بالنهاية عمل مجتمعا لمعالجة المشاكل العالمية بضيافة رئيس الوزراء جوردن براون، الذي كان يتألق كمنظم للقمة.
وخلف المسرح، كان الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أيضا يعمل لإحتواء الازمة بتمرير هادئ لمصارف مركزية أخرى قرابة 600 بليون دولار في "مقايضة للعملات" لضمان ان يكون لديهم الدولار الذي يحتاجونه لتمويل نظامهم المصرفي الخاص بهم. ان بنك إنجلترا اقرض سرا البنوك البريطانية 100 بليون باوند لضمان عدم انهيارها، رغم ان اثنين من بين أربعة مصارف كبرى ناتويست ولويدز كان لابد في النهاية من تأميمهما (بدرجات مختلفة) للإبقاء على استقرار النظام المالي.
مع ذلك، فان حزم الإنقاذ هذه للبنوك مع ان الحاجة اليها كبيرة لاستقرار الاقتصاد العالمي، لكنها لم تمتد للعديد من ضحايا الانهيار – مثل الـ 12 مليون رب منزل امريكي الذين تقدر حاليا قيمة بيوتهم بأقل من قيمة الرهن العقاري الذي تسلموه. او ان 40% من ارباب المنازل واجهوا اضطرابا ماليا اثناء فترة الـ 18 شهر بعد الانهيار. وان تداعيات الازمة كانت اكبر لأولئك الذين يعيشون في الدول النامية.
وبعد عدة شهور من بدء ازمة عام 2008 المالية، سافر الصحفي الى زامبيا البلد الافريقي المعتمد كليا على صادرات النحاس للحصول على الصرف الأجنبي. يقول انه زار منجم نحاس لوانشيا Luanshya قرب مدينة ندولا الذي يتوفر فيها حزام النحاس. مع انهيار الطلب على النحاس (يُستعمل بشكل رئيسي في البناء وصنع السيارات)، جميع مناجم النحاس أغلقت. عمالها ذوي الأجور الجيدة في زامبيا اجبروا على مغادرة أماكن عملهم المريحة والعودة للمشاركة مع أقاربهم في لوساكا بدون أجور. حكومة زامبيا أجبرت لإغلاق خطط تقليل الفقر التي كان يجب تمويلها من أرباح التعدين. ان انهيار الصادرات أيضا أضر بالعملة الزامبية التي انخفضت بشدة. هذا ضرب بشدة أفقر الناس في البلاد لأنه رفع أسعار الغذاء التي معظمها كان مستوردا.
يقول أيضا انه زار مزرعة زهور قرب لوساكا، وحيث يقيم مغتربان هولنديان انجيليلك وويز السينجا كانا يزرعان الزهور للتصدير لمدة تفوق العقد – يوظفان اكثر من 200 عامل مُنحوا إسكان وتعليم. ومع انهيار سوق ازهار يوم الحب، فان مصرفهما، باركلي جنوب افريقيا، فجأة أمرهم بدفع فوري لجميع قروضهم مجبرا اياهما لبيع مزرعتهما وطرد العمال. في النهاية، تطلب الامر استلام قرض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مقداره 3.9 بليون دولار لإعادة الاستقرار للاقتصاد الزامبي.
عندما تندلع ازمة مالية عالمية أخرى فمن الصعب رؤية إدارة ترامب او الإدارات اللاحقة تتعاطف مع الدول النامية، او السماح للاحتياطي الفيدرالي بإقراض مبالغ كبيرة للمصارف المركزية الأجنبية مالم تكن منسجمة سياسيا مع ترامب، مثل الارجنتين. ومن غير المحتمل أيضا ان يعمل ترامب مع دول أخرى لتطوير حزمة انقاذ عالمية بترليون دولار لمساعدة وحماية الاقتصاد العالمي. بدلا من ذلك، هناك قلق حقيقي بان أفعال متهورة من ترامب مع تنظيم عالمي ضعيف للأسواق المالية قد يشعل الازمة العالمية المالية القادمة.
ماذا يحدث لو انهار سوق السندات الامريكية؟
مؤرخو الاقتصاد يتفقون على ان الكوارث المالية شائعة في تاريخ الرأسمالية العالمية، وهي كانت تزداد باستمرار منذ "العولمة المفرطة" في السبعينات. بدءا من ازمة ديون أمريكا اللاتينية في الثمانينات الى ازمة العملة الاسيوية في أواخر التسعينات وانهيار سوق اسهم دوت كوم الأمريكي في بداية 2000، الازمات دمرت بانتظام الاقتصادات والبلدان حول العالم.
اليوم، المخاطرة الكبرى هي انهيار سوق سندات الخزانة الامريكية التي تدعم النظام المالي العالمي ومنخرطة في 70% من الإجراءات المالية العالمية مع البنوك والمؤسسات المالية الأخرى. هذه المؤسسات اعتبرت لوقت طويل ان سوق السندات الأمريكي قيمته 30 ترليون دولار كملاذ آمن لأن "سندات الدين" هذه مسنودة بالمصرف المركزي الأمريكي، (الاحتياطي الفيدرالي).
باستمرار، ان "نظام الظل المصرفي" غير المنظم – قطاع يشكل حاليا اكبر من المصارف العالمية المنظمة – هو مشترك بعمق في سوق السندات. المؤسسات من غير البنوك المالية مثل الأسهم الخاصة وصناديق التحوط وراس المال الاستثماري وصناديق التقاعد هي غير منظمة وخلافا للبنوك، غير مطلوب منها الاحتفاظ باحتياطي. توترات سوق السندات هو سلفا يقلق الأسواق المالية العالمية والتي قد يؤدي تفككها الى اندلاع ازمة مصرفية بحجم ازمة عام 2008 – في معاملات اقراض كبيرة من جانب هذه المؤسسات المالية غير المصرفية مما يجعلها عرضة للخطر.
مشترو السندات الامريكية هم أيضا اصابهم الخوف من خطط إدارة ترامب في زيادة العجز الأمريكي الى حجم اكبر لدفع تخفيضات الضرائب – مع دين وطني الان يُتوقع ان يرتفع الى 134% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2035، صعودا من 120% عام 2025. عندما يقود هذا الى رفض واسع لشراء المزيد من السندات الامريكية بين المستثمرين القلقين، فان قيمتها سوف تنهار وسوف ترتفع جدا أسعار الفائدة في كل من الولايات المتحدة والعالم.
حاكم بنك إنجلترا، اندريه بالي، حذر مؤخرا من ان الموقف له صدى مزعج لأزمة عام 2008"، بينما رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جور جيفا قالت ان خوفها من انهيار أسواق الائتمان الخاص يجعلها لا تنام الليل.
الموقف السيء يتحول الى أسوأ عندما تفاقم مشاكل سوق السندات الهبوط الحاد في قيمة الدولار. العملة العالمية المثبت فيها سعر الصرف "anchor currency"لم تعد مخزن آمن للقيمة الامر الذي يقود الى مزيد من سحوبات المال من سوق سندات الخزينة الامريكية، حيث تحتفظ العديد من الحكومات الأجنبية باحتياطياتها فيه.
الدولار الضعيف سيجعل أيضا السلع المستوردة باهضة جدا للمستهلكين الأمريكيين بينما يرفع من صادرات البلاد. هذا بالضبط المسار الذي دعا له ستيفن ميران رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس ترامب والذي يبدو أراده ترامب ان يكون الرئيس القادم للاحتياطي الفيدرالي.
احد الأمثلة عن ما سيحدث عندما يصبح سوق السندات غير مستقر حدث عندما أعلنت رئيسة وزراء بريطانيا ليز تروس (في اقصر فترة حكم لرئيس وزراء بريطاني) خفض هائل في الضرائب غير الممولة في ميزانية عام 2022، مما سبب انخفاض في قيمة سندات الحكومة البريطانية (المقابل لسندات الخزينة الامريكية) عندما ارتفعت أسعار الفائدة. وخلال أيام اُجبر بنك إنجلترا لوضع 60 بليون باوند كتمويل انقاذ لتجنب انهيار صناديق التقاعد البريطانية الكبيرة.
وفي حالة انهيار سوق سندات الخزينة الامريكية هناك مخاوف متصاعدة بان الحكومة الامريكية ستكون غير قادرة او غير راغبة للعمل لتخفيف هكذا ضرر.
عصر جديد من الفوضى المالية
ان الخوف من انهيار سندات الخزانة الامريكية هو انها وفق المستويات التاريخية حاليا مبالغ جدا في قيمتها. الزيادة الأخيرة الهائلة في القيمة الكلية لسوق السندات الامريكية جاءت كليا بواسطة الشركات "السبع الرائعة" للتكنلوجيا التي لوحدها تشكل ثلث القيمة الكليه للسوق. اذا كان رهان الشركات الكبير على الذكاء الصناعي ليس مربحا كما يدّعون، او طغى عليها نجاح أنظمة الذكاء الصناعي الصينية، فان انحدارا حادا مشابها لانهيار دوت كوم لعام 2000-2002 سيحدث أيضا.
جيمي ديمون رئيس اكبر بنك امريكي جي بي مورغان تشيس قال انه "خائف اكثر من الخبراء الاخرين حول تصحيح خطير للسوق قد يأتي في الستة اشهر او السنتين القادمة.
مدراء التكنلوجيا الكبار كانوا شديدي التفاؤل في السابق. يتحدثون من وادي السليكون عام 2001 عندما كانت دوت كوم تنفجر. علاوة على ذلك، التقييمات العالية لاسهم شركاتهم سمحت لهم بشراء منافسيهم، وبهذا يقلصون المنافسة – تماما مثل شركات جوجل وميتا (فيسبوك) استعملت أسهمها العالية القيمة لشراء أصول بارزة ومنافسين محتملين مثل يوتيوب، واتساب، انستجرام، وديب مايند. التاريخ يشير الى ان هذا دائما سيء للاقتصاد في المدى الطويل.
وفي ظل وجود الشركات والعالم المالي الشديد الترابط حاليا، ليس فقط ازدادت الازمات المالية في النصف الأخير من القرن، وانما كل ازمة أصبحت اكثر ترابطا. ان ازمة عام 2008 بيّنت مدى خطورة ذلك: ازمة المصارف العالمية حفزت سقوط سوق الأسهم وانهيار في قيمة العملات الضعيفة، وأزمة ديون في الأقطار النامية - وفي النهاية، ركود عالمي اخذ سنينا قبل الخروج منه.
آخر تقرير لصندوق النقد الدولي عن الاستقرار المالي لخص الموقف بعبارات مخيفة، مسلطا الضوء على زيادة مخاطر الاستقرار كنتيجة "لتقييم مبالغ فيه للأصول، وزيادة الضغط في سوق السندات السيادية، وزيادة دور المؤسسات المالية غير المصرفية. وبالرغم من سيولتها الكبيرة، فان أسواق الصرف الأجنبي العالمية تبقى حساسة لعدم اليقين المالي الكلي".
يُعتقد اننا ربما دخلنا عصر جديد من فوضى مالية مستديمة نُثرت فيها بذور موت العولمة وان استجابة ترامب لها في النهاية تحطم النظام السياسي والاقتصادي العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. تعريفات ترامب الكمركية والمطبقة بشكل متقطع والتي كانت تستهدف الصين بقوة جعلت سلفا من الصعب إعادة تشكيل سلاسل التوريد. وما هو اكثر اثارة للخوف ربما الصراع على التحكم بالمواد الخام الاستراتيجية مثل المناجم النادرة المطلوبة للصناعات عالية التكنلوجيا، ومنع الصين لصادراتها وتهديد الولايات المتحدة بالمقابل بفرض 100% تعريفة كمركية (بالإضافة الى الامل باحتلال غرينلاند بما فيها من معادن غير مستغلة حتى الان).
هذا الصراع على المناطق النادرة، حيوي لشرائح الكومبيوتر المطلوبة للذكاء الصناعي، ربما أيضا يهدد القيمة السوقية لأسهم التكنلوجيات العالية مثل نفيدا Nvidia اول شركة تتجاوز قيمتها 4 ترليون دولار. ان المعركة للسيطرة على المواد الخام الحيوية قد تتصاعد. هناك خطر في بعض الحالات، ان تصبح حروب التجارة حروبا واقعية – مثلما حصل في العصر السابق للتجارية. العديد من الصراعات الإقليمية الحالية والحديثة من حرب العراق الأولى التي سعت للسيطرة على حقول النفط في الكويت، الى الحرب الاهلية في السودان للسيطرة على مناجم الذهب في البلاد، تتجذر في الصراعات الاقتصادية.
ان تاريخ العولمة في القرون الأربعة الماضية يشير الى ان حضور القوة العظمى العالمية مع كل جوانبها السلبية جلب درجة من الاستقرار الاقتصادي في عالم غير مؤكد. بالمقابل، الدرس الأهم من التاريخ هو ان العودة الى سياسات التجارية – دول تتصارع للسيطرة على الموارد الطبيعية لنفسها وانكار حق الاخرين بها – من المحتمل جدا ان تكون وصفة لصراع دائم. ولكن في هذه المرة، في عالم مليء بعشرة الاف سلاح نووي، فان سوء التقدير قد يكون مميتا اذا تم تقويض الثقة واليقين. التحديات المقبلة هائلة، وان ضعف المؤسسات الدولية، والرؤية المحدودة لمعظم الحكومات وعزلة العديد من مواطنيها ليست إشارات للتفاؤل.
***
حاتم حميد محسن
......................
The conversation, October 29, The rise and fall of globalization: why the world’s next financial meltdown could be much worse with the US on the sidelines.






