آراء

رشيد الخيّون: "المماليك الإرث والأَثر".. تاريخ آخر

سيشغل المستعرض معرض «المماليك الإرث والأثر»، المقام في مُتحف لوفر أبوظبي، بمشاركة المكتبة الفرنسيَّة، ذهنه بالسُّؤال: هل هذا كلُّ ما تبقّى مِن القرون الثَّلاثة التي حكمها المماليك (1250-1517م)، بمصر وسورية وفلسطين والحِجاز، نفائس جُمعت مِن متاحف متفرقة، ومقتنيات مراكز وخزائن شخصيَّة؟ والجواب عند الجاحظ (ت: 255هج).

قال بعنوان «طمس آثار الأمم السَّالفة»: «والكتب بذلك أولى مِن بنيان الحجارة، وحيطان المدَر، لأنَّ من شأن الملوك أنْ يطمسوا على آثار مِن قَبلِهم، وأن يُميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السّبب أكثر المدن، وأكثر الحصون...» (الحيوان). غير أنَّ الجاحظ لم يعش عصر المكتبات، ليرى ما دمره المنتصرون مِن خزائن المهزومين، وتلك قصة طويلة.

طغى الاهتمام بالتّاريخ السّياسي، مِن تعاقب الممالك والحروب، على تاريخ الفنون، وما دُون في كتب المتأخرين، مَن فنون الأولين، ما هو إلا نتفٌ ومحاشٍ حُشيت بها كتب التّاريخ العام، ويبقى الأثر هو الشَّاهد الأقوى، وهذا ما ذهب إليه معروف الرُّصافيّ (ت: 1945) عندما قال: «فإن ذكروا النُّعمانَ يوماً فلا تثق/ بأكثرِ مما قال عنه الخوَرنقُ» (الدِّيوان، ضِلال التَّاريخ)، وقصرا النُّعمان: الخورق والسَّدير، أشهر مِن أنْ يُعرفا. هذا ما يوحي به عنوان ومضمون كتاب أبي الرّيحان البيرونيّ (ت: 440ه) «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، وكم هو الباقي مِن تلك القرون، قد لا يُعادل «عشر معشار» الواقع.

أليست عجيبةً أن يعلو الزَّمن بأسرى الحروب، والمباعين بأسواق النّخاسة، كعبيد خاصين، ويتربوا بلا أسماء آباء، تتدرّج بهم المراتب، ليكونوا سلاطين، يصدون أعتى الجيوش (المغول) في معركة «عين جالوت» (1260)، ويتسيّدون، حتى هزيمتهم في «مرج دابق» (1516) على يد قوى جديدة (العثمانيون)، هذا ما يُقرأ في معرض آثارهم؟

تروي الآثار المعروضة جانباً آخر مِن سلاطين المماليك، طسوتاً مزركشة مذهبة، ومباخرَ، وأباريقَ أنيقة، وسيوفاً، ودروعاً، تتعجب كيف كان المقاتلون بالسّيوف يتحملون وزن الحديد أو النّحاس وهم يلبسونه ثياباً، والخوذ الحديدة، يوم كانت الحروب تروي شجاعة الشّجعان، قبل الصَّواريخ والمسيرات، التي يطلقها المحارب وهو مُسترخٍ على أريكة، وسجاد تظن أنّ نقشه مطبوعٌ بالطابعات، لكنها فنون الأيدي المتناهية الدِّقة، حياكة السجاجيد والأقمشة، والحفر على الذَّهب والفضة والنُّخاس.

تكشف لك الآثار المعروضة الصِّلات بين الشّرق والغرب، تبادل الهدايا، ولوحات تُظهر لقاءات السياسة والتّجارة والمعرفة، بين البندقيّة والقاهرة ودِمشق، وحيث يمتد السُّلطان المملوكي.

نرى مخطوطة «النُّجوم الزّاهرة»، خُطت بعد وفاة مؤلفه بسنتين، ابن تغري بردي (ت: 874ه) أحد أبناء المماليك، لم يشغل منصباً كأبيه، فنشأ نشأة علميّة وصَنّف تاريخه الفاخر، ليصدر مطبوعاً بـ (16) مجلداً. كانت مخطوطة تاريخ ابن خلدون (ت: 808ه) إحدى المعروضات، الذي ضمنه مقدمته و«التعريف» (سيرته المثيرة). حوى المعرض مخطوطات تُعدّ مِن الطَّرائف ككتاب ابن حَجلة (ت: 776ه) «سُكر ذات السُّلطان» (وعاء شراب السُّلطان).

كان المماليك مِن العبيد الخاصين بالأيوبيين (569- 648هج)، ولما ترقّوا إلى قيادات عليا، انقلبوا عليهم، وأبقوا التقليد الأيوبي بوجود خليفة عباسي بلا صلاحيات، حتَّى جاء العثمانيون وقضوا عليهم وعلى الخلافة الشّكليَّة، لكن لم يتمكن الأيوبيون والمماليك والعثمانيون مِن إعلان الخلافة، لأنَّها قرشيَّة.

ظلت آثار المماليك تتداول في المزادات، قبل أن تضمها المَتاحف العالميّة، وأصبحت الآن خارج التّثمين. هذا ما سلم منها، وكم تُلف وسُرق. نستعين بأحمد شوقيّ (ت: 1932)، متحدثاً عن سرقة الآثار، ومَن أسسوا ثروات بها، قال ضمن نونيته العظيمة: «أَمَن سَرَقَ الخَليفَةَ وَهوَ حَيٌّ/ يَعِفُّ عَنِ المُلوكِ مُكَفَّنينا» (الهاشميُّ، جواهر الأدب).

ما نراه أن تُشجع مثل هذه المعارض، من تواريخ السَّلطنات كافة، أسلوباً آخر في قراءة التّاريخ، لا يؤخذ إرثها الفني والثّقافي بجريرة تاريخها السياسيّ، فما شاهدناه في لوفر أبوظبيّ لم يكن صُناعه السّاسة، إنما الحرفيون والمثقفون، لا يخص عقيدةً ولا ديناً ومذهباً، وكم منهم ظُلم وافترسه ساسة تلك العهود؟ إنه تاريخ آخر.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم