آراء
حسين علاوي: بين عزلة باروخ سبينوزا.. وإقامة السيد كمال الحيدري
في كل زمن، يولد مفكر يختار أن يفتح نوافذ العقل في بيتٍ أُغلقَت نوافذه خوفًا من الضوء.. وهو قدر من يقترب من الحقيقة؛ أن يدفع ثمنها عزلةً أو إقامةً جبرية.. فالفكر الحرّ، حين يخرج من دائرة المألوف، يتحوّل في نظر الجماعة إلى خطرٍ يجب احتواؤه، ولو في غرفةٍ ضيّقة أو في صمتٍ طويل..
كان باروخ سبينوزا ابنًا لطائفةٍ يهوديةٍ غارقةٍ في تقاليدها.. حين فتح الكتاب المقدس بعين العقل، لم يجد فيه معجزةً خارقة، بل حكمةً قابلةً للتأويل الإنساني.. فجعل من الله جوهر الوجود ذاته، لا شخصًا يسكن السماء وينزل إلى الأرض أو يتحكم في المصائر، كما موجود في الكتاب المقدس.. ومن هنا، بدأ صِدامه مع المؤسسة الدينية التي رأت في فكره خطرًا على سلطتها المقدسة.. فأصدرت عليه "الحرمان الأكبر" على مؤلفاته ومحاضراته، وحجزته في بيته.. فانقطعت عنه الجسور الاجتماعية، وبقي وحده في عزلةٍ صامتة، يصقل العدسات بيديه، ويصقل الحقيقة بعقله..
كانت عزلته فلسفية طوعية، لكنها تحوّلت إلى مختبرٍ للفكر الإنساني.. فمن عزلته وُلد كتاب "الأخلاق" الذي أعاد تعريف الله والحرية والعقل.. وكتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة" الذي أوَّلَ الكتاب المقدس تأويلاً فلسفياً وعقلياً..
وسبينوزا لم يتمرد على تعاليم الله تعالى.. بل على الذين احتكروا اسم الله.. فقد أراد أن يجعل الإيمان تجربةً عقلية، لا طاعةً موروثة.. ولذلك، عاش منفيًا في العالم، لكنه حرًّا في نفسه.. كأنه أراد أن يقول: لا عيب في العزلة إذا كانت طريقًا إلى النور..
وفي عصرٍ آخر، وفي مدينةٍ تجمع ما بين الديني والسياسي.. ظهر السيد كمال الحيدري.. رجلٌ قرأ التراث لا بوصفه ميراثًا مقدسًا، بل نصًا بشريًا تراكميًا يحتاج إلى مراجعةٍ ونقدٍ صريح..
دخل إلى مكتبات الحوزة، فأعاد فتح الكتب التي ظنّ الناس أنها مغلقة على الأبد.. فاكتشف فيها أخطاءً، وتناقضاتٍ، وتأويلاتٍ صنعت دينًا موازيًا للدين الذي جاء به القرآن الكريم.. وحين أعلن رؤيته، لم يُقابَل بالتحاور، بل بالإقصاء.. ففرضوا عليه إقامةً جبرية، لأن حرية فكره كسرت جدار الصمت الطويل..
لكنه، مثل سبينوزا، لم يكن معارضًا للدين، بل مخلصًا له في عمقه الإنساني.. وموحداً لله وحده.. أراد أن يُعيد الدين إلى مرجعه القرآني، وأن يطهّره من ترسبات العصبية المذهبية..
فقال: "ليس كل ما في التراث وحيًا.. ولا كل ما في الكتب حقًا.. بل الحقّ ما شهد به القرآن والعقل"..
هنا بدأ سجنه، لا لأنه تمرّد، بل لأنه أراد أن يُصلح.. فالإصلاح في العالم الديني يُعدُّ جريمةً مؤجلة، لا تُغتفر إلا بعد غياب صاحبها..
ورغم الفوارق الاجتماعية والدينية والجغرافية العزلتين.. إلّا أنَّ وحدة المصير واختلاف الطريق كان واحداً لكِلا الرجلين "سبينوزا والحيدري".. فالتقيا عند نقطةٍ واحدة.. وهي أن الحقيقة لا تُصاغ بالوراثة، بل بالوعي.. وإنَّ ما يكتبه الإنسان أيّاً كان، لن يصبح مقدّساً.. فالأول حرّر التوراة من اللاهوت.. والثاني حرّر الإسلام من عبء التراث.. لكن الفارق بينهما في طبيعة العزلة: سبينوزا اختارها ليحيا، والحيدري فُرضت عليه لأنه أحيا فكرًا راكدًا.. وكلاهما رأى أن الدين حين يتحول إلى سلطةٍ بشريةٍ يفقد جوهره الإلهي.. فالخطر ليس في النصوص، بل في الذين يحتكرون تفسيرها..
ومن هنا، كانت العزلة عندهما ليست هروبًا من الواقع، بل احتجاجًا عليه.. فالأول صمت في هولندا وصنع فلسفة الوجود، والآخر صمت في قم وصاغ فلسفة الإصلاح..
فالعزلة ليست نهاية المفكر، بل بدايته الحقيقية.. ففي صمته يتطهّر من ضجيج المريدين، وفي وحدته يسمع صدى الحقيقة.. وهكذا تحوّلت عزلة سبينوزا إلى حرية العقل الغربي.. وتحوّلت إقامة الحيدري إلى رمزٍ لميلاد نقدٍ دينيٍّ جديد في الفكر الإسلامي المعاصر.. وكلاهما يقول لنا اليوم: إن الطريق إلى الله لا يُرسم بالأوامر والنواهي، بل بالسؤال والوعي والصدق مع النفس.. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يدفع ضريبة النور في عالمٍ يعبد الخطأ ويتعبّد فيه..
وبين سبينوزا والحيدري مسافة ثلاثة قرون، لكن النداء واحد: أن الدين لا يُخدم بالتقليد، بل بالفهم.. ولا يُصان بالجمود، بل بالحركة.. ولا يُقدّس بالكلمات، بل بالإنسان الذي يعيش قِيَمه..
فإذا كانت عزلة سبينوزا هي عتبة التنوير الغربي.. فإن إقامة الحيدري قد تكون عتبة الإصلاح الإسلامي القادم.. حين يُصبح العقل شريكًا للوحي، لا تابعًا له..
إنَّ سكوت عدد من المفكرين والمثقفين آنذاك عن عزلة باروخ سبينوزا.. ونفس الخطأ يتكرر اليوم مع السيد كمال الحيدري في إقامته الجبرية.. هذه الظاهرة يمكن وصفها بأنها تراخي الضمير الفكري والثقافي -بشقّيه الديني والليبرالي- أمام لحظة الامتحان حين يُعزل المفكر أو المثقف..
والمؤسف أنّ البيئة الثقافية التي تدّعي في كتاباتها وأحاديثها، أنها مع حرية الرأي والفكر.. لا تستطيع حماية هذا المفكر أو الدفاع عنه.. لكن بعد رحيله يصبح رمزاً، وتنصب خيامها ونواحها على منصات التواصل الاجتماعي..!!
***
حسين علاوي






