قضايا

عدي البلداوي: الثقافة العربية المعاصرة ومشاريع الذكاء الإصطناعي

إستكمالاً لما قد بدأناه في مقال سابق حمل العنوان نفسه.. تخبرنا التوقعات عن امكانية تقنية الذكاء الاصطناعي في عام 2030م في تزييف 90% من الفديوهات الموجودة. هذا يعني ان كل شيء يمكن دحضه مستقبلاً.!

حين يصل الحال بالناس الى مرحلة عدم القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، سيكون الضوء الأخضر قد اذن بدخول الآلات الذكية الى حياتنا ومشاركتنا فيها والتحكم بها حد تقرير المصير كما يذهب الى ذلك بعض الاختصاصيين في مجال التقنية ومشاريع الذكاء الاصطناعي.

وقد يستحيل الواقع اكذوبة يمكن التلاعب بها تقنياً ببرامج الذكاء الاصطناعي التوليدي بحيث يمكن خداع الناس العاديين وربما حتى المختصين منهم.

ان استمرار مشاريع الذكاء الاصطناعي في تطوير قدرات الآلة الذكية سيوصله الى حال يكون فيه الروبوت كفأ لعدد قليل من المبدعين الحقيقيين، اما بقية الناس فسيبدون أقل ذكاءً من الآلة الذكية، وهنا سيحدث التحكم الآلي بالبشر وستتعقد على الثقافة العربية مهمة التوثيق، فبعد دخولنا القرن الواحد والعشرين حيث التطور التقني المتسارع وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، اصبح التوثيق امراً مشاعاً، ومع اشاعته ظهرت غايات واجندات لها مشاريع تستهدف نوعاً معيناً من التوثيق يقفز في كثير من الأحيان على الواقع وعلى حقيقة ما حدث ويحدث. لا يراد من هذا التزييف التلاعب بأحداث المرحلة التي يتم فيها عملية التزييف العميق، وانما يراد منه توجيه مرحلة مستقبلية هي في حدود عقد او عقدين أو أكثر. اظهرت إحصائيات حديثة إن غالبية شباب اليوم يعتمدون على الانترنت اعتماداً كلياً في استحصال الخبر والمعلومة، وهنا تأتي الخطورة، حيث سيقدم لجيل المستقبل وثائق الكترونية عن احداث مر عليها الزمن، لن يكون بوسع ثقافة هذا الجيل ان تسعفه في ادراك ما اذا كانت هذه الوثائق مطابقة للواقع ام هي مزيفة تم اعادة انتاجها ببرامج تقنية رقمية ذكية تخدم اهدافاً واغراضاً معينة.

لذلك يبدو ان من بين المشاكل التي ستواجهها الثقافة العربية المعاصرة هي ان سنوات عمر الجيل الجديد لن يسعها ان تعينه على استيعاب وفهم تاريخ ثقافة الأمة في زمن التسارع المذهل للتطور العلمي والتقني. كما ان سنوات عمر جيل الآباء الموجودين على قيد الحياة لن يسعها ان تعينهم على تقديم فهم واضح يساعد على استيعاب هذا التاريخ الثقافي للجيل الشاب، لأسباب عدّة، منها ظهور شعور نفسي بوجود فاصل زمني تقني بين الآباء والأبناء سببه تمكن جيل الشباب من أدوات التقنية المتطورة التي هي اليوم مصدر للثقافة، يقابله ضعف في تمكن جيل الآباء من هذه التقنية. من شأن هذا التفاوت ان يعرقل تحرك جيل الآباء لمد يد العون لجيل الأبناء في تكوين فهم واضح نافع لثقافة المجتمع العربي، فهماً لا يحرم جيل الشباب من شعور التواصل مع الماضي، ولا يتسبب في شعور جيل الاباء بالقلق على مستقبل ثقافة الأمة بعد ان هيأت تطبيقات الذكاء الإصطناعي تقديم كل ما يحتاجه المستخدم من مادة ثقافية تصل عند بعضهم حد تزويد الذكاء الاصطناعي بنص لأحد الكتاب القدماء وربما حتى المعاصرين، ثم يطلب من chatGBT مثلاً ان يقدم له نصّاً قريباً في محتواه ومعناه من النص الأصلي. في ثوان قليلة سيقدم الذكاء الاصطناعي نصّاً جديداً بمفردات وتعبيرات قريبة جداً من محتوى النص الأصلي قد يتعذر كشف هذا التلاعب الحاصل. حتى وان حصل اكتشافه من قبل مثقف حاذق، وناقد متمرس، فقد لا يسعه نقد ذلك خوفاً مما يمكن ان يلحقه من اذى بسبب غياب روح الثقافة في عصر المادة ولغة الارقام والمصالح وهيمنة الانفعالات. ولعل هذا ما جعل كثيراً من مثقفي جيل الآباء يفضلون جواً هادئاً من النشاط الثقافي، تتحرك فيه الموضوعات التقليدية التي لا يرتفع فيها ضغط الكلمات، كي لا ينبض قلب الفكرة بالوعي المتدفق فتتحرك منظومة الجسم المبتلاة بأمراض العمر المزمنة وعاهات ما بعد الفوضى السياسية والامنية في اغلب بلدان العالم العربي من بداية القران الواحد والعشرين حتى يومنا هذا.

من خلال متابعة حسابات بعض مستخدمي (الفيسبوك) ممن يضعون عنوانات ثقافية لحساباتهم الرقمية. رصدت حالات ظهر فيها عدد من الكتاب وهم يستعيرون نصوصاً ليست لهم، ينشرونها على حساباتهم الخاصة في مواقع التواصل الإجتماعي من دون الإشارة الى اسم صاحب النص الأصلي، وكنت قد طلبت من احدهم ان يستخدم (التنصيص) وهو يضمن منشوراته كلاماً لغيره. شكرني على ملاحظتي، لكنه لم يلتزم بها، ومضى في منشوراته اللاحقة على المنوال نفسه.

ومن مشكلات الثقافة المعاصرة في عالم المال والاعمال، ان المثقف الحقيقي الذي يعمل من اجل انسنة الوجود البشري، سيخضع لمضاربات السوق، فقد يهبط مستوى اسهم قبوله كمثقف ايجابي، فيتم تداوله كمثقف سلبي عبر التشهير والتزييف العميق لاقواله والتسقيط والتقليل من شأن افكاره وطروحاته ورؤاه.

لعلنا في عصر المال والاعمال بحاجة الى عملة ثقافية يمكن استخدامها في مساحة كبيرة كعملة صعبة، فإن لم تكن عملة عالمية، فالأولى بنا إيجاد عملة ثقافية لها من المعاصرة ما يتيح استخدامها في كل الاوساط العربية الاسلامية، وفي كل مجالات الحياة الثقافية والتجارية والاجتماعية والصناعية والسياسية.

مثلما هناك توظيف سلبي للذكاء الاصطناعي من قبل بعضهم. هناك جانب ايجابي يتمثل في استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي من قبل الذكاء الطبيعي بهدف اظهار فكرة خلاقة تمنحها تقنية الذكاء الاصطناعي حضوراً لافتاً. خصوصاً في زمن اخذ فيه كثير من الناس يبتعدون عن قراءة الكتاب. فبواسطة تقنية الذكاء الاصطناعي يستطيع الذكاء الانساني ان يحوّل فكرته الى تطبيق الكتروني مصوّر بتقنيات الشاشة والالوان والمؤثرات، ليتم بذلك اختصار موضوع وتلخيص كتاب بعدد قليل من دقائق التشويق والفائدة التي تصل بالمشاهد والمستمع الى إثارة وعيه الذاتي وتوسيع مداركه، من خلال انبهاره بتقنية الذكاء الاصطناعي وانبهاره بفكرة العقل البشري الذي نجح في استثمار التطور التقني لصالح ذكائه.

إذا كان الحضور الثقافي للكتاب الورقي قد تراجع في عصر ظهور الكتاب الالكتروني وخدمة رفع الكتب مجاناً وبأعداد كبيرة على شبكة الانترنت. فإن ذلك لم يقلل من قيمة الكتاب كمصدر، لكن المشكلة الجديدة التي ترافق ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي هي ان كتباً رقمية ستظهر على يد آدميين لم يقدر لهم ان يكونوا على نصيب كافٍ من التثقيف الذاتي، ثم اصبحوا لظرف ما في حاجة نفسية الى ان يقدموا انفسهم للمجتمع على انهم مثقفين، فوجدوا في تطبيقات الذكاء الاصطناعي ما يساعدهم على ذلك، فبمساعدة chatGBT مثلاً يمكن اعداد كتاب في مجال يتم تحديده من قبل المستخدم. ثم تأتي مرحلة تقديم هذا الكتاب على انه من بنات اعمال ذلك الشخص. وفي زحمة مشاغل ومشاكل الناس المعاصرة وتسارع الزمن، سيختلط الأمر على المتلقين ولن ينتبهوا ولعلهم لن يبالوا ما اذا كان هذا الكتاب من ابداع الذكاء الانساني ام هو من انتاج الذكاء الاصطناعي. في هذه الحالة سيمرّ الكتاب بمرحلة قلقة تقلّ فيها قيمته كمصدر موثوق.

من بين محاولات مواجهة هذه المشكلة، ينبغي تفعيل قانون موحد لحماية الملكية الفكرية حول العالم، وتمكين العقل العربي من وضع آلية تقنية بمهارة عقلية وخبرة معرفية تكشف التزييف في التأليف.

لقد بدأت تظهر هنا وهناك صحف ومجلات وكتب الكترونية ومطبوعات ورقية تحوم حولها كثير من الشكوك بأنها ليست ابداعاً انسانياً بقدر ما هي انجاز آلي ذكي، قامت بها برامج وتطبيقات ذكية وظفها المؤلف او الكاتب من اجل ان يقال عنه انه شخص مثقف.

هناك مشكلة اخرى هي توظيف الذكاء الاصطناعي في استغلال السمة الثقافية للابداع الادبي والفني من اجل كسب المال. فيصبح مثلاً بمقدور مسؤول اداري في مؤسسة ثقافية رسمية ان يصطنع شعراء فضائيين أو مثقفين افتراضيين بمعنى إضفاء صفات أدبية وثقافية على أشخاص لا علاقة لهم بالثقافة، فيطلب من الجهات ذات العلاقة منحهم سمات دخول لحضور مهرجان شعري او مهرجان ثقافي مزمع اقامته في البلاد، وصرف المستحقات المالية اللازمة لذلك.. ولكي لا يفتضح الامر، يوكل للذكاء الاصطناعي اعداد سير ذاتية لكل واحد من هؤلاء المثقفين الافتراضيين او الوهميين او الفضائيين، تتضمن نماذج من انتاجاتهم الأدبية أو الفنية أو..

وهناك مشكلة معقدة تواجه الثقافة العربية المعاصرة في ظل مشاريع الذكاء الاصطناعي سببها كثرة انتشار اجهزة التقنية الحديثة، وسهولة استخدامها من قبل الجميع على اختلاف المستويات الثقافية والاعمار والاتجاهات والميول النفسية والايديولوجية في مجتمع تغلب فيه الثقافة الشعبية على ثقافة النخبة من حيث التأثر والتأثير، ومن حيث دخول العصبية القبلية والعصبية المذهبية عنصرين مهمين في تشكيل الهوية الاجتماعية للفرد وللمجتمع. الامر الذي حمل بعض الاجندات السياسية والطائفية وبعض المشاريع الموجهة، على استثمار هذه المزايا التقنية المتطورة في اجهزة الموبايل والحاسوب الشخصي والانترنت من اجل اثارة البعد القبلي والبعد الطائفي في ثقافة المجتمع الشعبية لتوسيع الفجوة بين التراث والمعاصرة، من خلال حث الجيل الجديد على عدم الأخذ بما يتقاطع من مواد التراث الادبي والفني والتاريخي مع التوجهات الطائفية والمذهبية. فقد نجد مثلاً مثقفاً سنياً رفض ان يمر في رصيده الثقافي شعر الشريف الرضي لأنه شيعي. وكذلك الحال مع المثقف الشيعي. ان وضع هكذا فواصل بين مصنفات التراث الادبي والتاريخي للمجتمع العربي، سيعرض ثقافة الجيل الجديد الى التجزئة التي من شأنها ان تقوده في ظل الوضع العام القلق عالمياً، الى التحجيم الثقافي، الذي سينتج عنه عقم فكري، وتراجع حاد في حركة الابداع. وقد يجد هكذا حال قبولاً عقائدياً تطمئن له النفس المحصورة بين مطرقة الاعتقاد التقليدي وسندان الحداثة القلقة. او يجد نفوراً من قبل النفس المتعطشة الى حرية التفكير، التي لكي ترتوي ترى ان عليها ان تسعى وراء التغريب الثقافي او ترضى بالتهجين الثقافي ظناً منها انه ماء بينا هو في واقع الحال سراب. ولعل هذا ما جعل بعض المثقفين العرب يتخذون من الظرف الاقتصادي التقني المتسارع والظرف الاجتماعي الثقافي المتراجع رأس مالٍ يحرّكون به تجارتهم، فنراهم يروجون لأفكار من قبيل ان التراث لم يعد قادراً على الوقوف على رجليه في عصر القطارات التي تسابق سرعة الضوء، والسيارات ذاتية القيادة، والطائرات المسيرة والحواسيب الجبارة القادرة على انجاز مليون مليار عملية خوارزمية في وقت قصير جداً يفوق وقت قراءة معلقة لشاعر جاهلي، أو قصيدة لشاعر اسلامي مر عليها الف عام.

وللحديث بقية

***

عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم