قضايا

غالب المسعودي: الدلالة الاسترجاعية في السرديات التاريخية

السياقات الثقافية المختلفة تحمل ذكريات تاريخية متباينة، في مجتمعات شهدت حروبًا أو قمعًا، يستخدم الاسترجاع لتسليط الضوء على تجارب الألم والمعاناة التي يمكن أن تعكس كيف يتذكر المجتمع أحداثًا معينة، مما يؤثر على الهوية الجماعية ،تلعب القيم الثقافية والسياقات التاريخية دورًا مهما في كيفية تفسير الاسترجاع، في الثقافات التي تركز على العائلة والروابط الاجتماعية، يُسلط الضوء على الاسترجاع الذي يعكس العلاقات العائلية والتاريخ الشخصي اما في السياقات الثقافية العامة التي تشير الى المقاومة وردود الفعل والتجارب النفسية التي يمر بها الأفراد أو الجماعات في مواجهة الضغوط والقيود التي تفرضها السلطة،  يشعر الأفراد بالخوف من العقوبات أو الانتقام، مما يؤدي إلى شعورهم بالعجز  نتيجة الفشل في تحقيق التغيير يتعزز شعور الأفراد بالإحباط وفقدان الأمل ويمكن أن تؤدي هذه الارتجاعيات النفسية إلى تغييرات في القيم والمعتقدات ويسهم في تشكيل هوية مقاومة جديدة في مواجهة القيود، اذ يلجأ الأفراد إلى أساليب جديدة للتعبير عن آرائهم في مقاومة السلطة ،تتداخل هذه الارتجاعيات مع الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة، مما يجعل فهمها أمراً معقداً ومتنوعاً ،قد يستخدم الاسترجاع لتسليط الضوء على صراعات الأفراد في مواجهة التوقعات الاجتماعية أو التاريخية يشكل  السياق الثقافي اطارا يتم من خلاله تفسير الاسترجاع، مما يؤثر على دلالاته وعمقها، هذه العلاقة المعقدة بين الثقافة والسرد تفتح آفاقًا لفهم أعمق للتجربة الإنسانية عبر الزمن.

الاسترجاع مؤلم نفسيًا

استحضار الذكريات يؤدي إلى مشاعر الحزن أو الندم أو الفقد، مثل فقدان شخص عزيز أو تجربة صادمة، تذكّر الصراعات أو القرارات الصعبة يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالذنب أو الشك، الأشخاص الذين تعرضوا لصدمات نفسية قد يشعرون بألم شديد عند استرجاع ذكريات التجارب السلبية التي تؤثر على صورة الشخص عن نفسه وتعزز مشاعر العزلة أو عدم القيمة، لذا الاسترجاع يمكن أن يكون تجربة مؤلمة نفسيًا، خاصة عند استحضار ذكريات سلبية أو صعبة التجارب المؤلمة يمكن أن تؤدي إلى مجموعة متنوعة من ردود الفعل النفسية والجسدية قد يشعر الشخص بقلق مستمر أو توتر مرتبط بالتجربة المؤلمة يمكن أن تؤدي إلى مشاعر الحزن وفقدان الاهتمام بالأنشطة اليومية انخفاض الثقة بالنفس، يمكن أن تؤثر على ثقة الفرد بنفسه وقدرته على التعامل مع المواقف الاجتماعية.

التحيز التأكيدي

التحيز التأكيدي هو ميل الأفراد للبحث عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم الحالية وتجاهل ما يتعارض معها ويساعد في تعميق التمسك بالمعتقدات ، مما يمكن من إدراك كيف تؤثر هذه المعتقدات على تقييم المعلومات و يساعد في التعرف على مصادر الاسترجاع عند كتابة السرد التاريخي، استخدام الوعي لفحص المصادر والأدلة بشكل أكثر موضوعية يُعزز القدرة على التعامل مع الآراء المختلفة وتقبلها بدلاً من تجاهلها، أن السعي لتضمين وجهات نظر متنوعة بدلاً من الاعتماد على المعلومات التي تؤكد التحيز يشجع على قبول النقد البناء والملاحظات من الآخرين كما يساعد في تحسين السرد من خلال التعلم من الأخطاء وتجنب التحيزات في المستقبل ، الوعي الذاتي له دور مهم في المساهمة في تجنب التحيز التأكيدي من خلال تعزيز الفهم الشخصي، وتحفيز التفكير النقدي، والمساهمة في جعل الأفراد اكثر تقبلا لوجهات نظر متنوعة كما ويُسهم في تقديم معلومات أكثر موضوعية ودقة في السرد التاريخي . يمكن أن يؤثر التحيز التأكيدي على كيفية تذكر المجتمعات لأحداث معينة، مما يؤدي إلى سرد تاريخي قد لا يعكس الوقائع بشكل دقيق حيث يتمسك كل جانب بروايته الخاصة التي تدعم مشاعره وتجربته، فهم التحيز التأكيدي يمكن أن يساعد في معالجة التجارب المؤلمة بطريقة أكثر توازنًا وشمولية

السرديات التاريخية والارتجاع النفسي

السرديات التاريخية تستخدم الارتجاع النفسي لتقديم الشخصيات بشكل أعمق وتفسير سلوكياتهم. استخدام الارتجاع النفسي قد لا يساهم في تعزيز مصداقية السرد التاريخي التي توضح تجارب الشخصيات التاريخية التي تحاول ان  تجعل تصرفاتهم ودوافعهم أكثر منطقية ومقنعة وتوضح كيف أن الأحداث التاريخية تؤثر على الشخصيات، في محاولة لإضافة بُعدًا إنسانيًا للسرد من خلال استرجاع ذكريات معينة، و تقديم معلومات إضافية حول السياق التاريخي قد يعزز فهم القارئ للأحداث ويساعد في ربط الأحداث الحالية بتجارب اثرت في الماضي لإظهار كيف أثرت الحروب أو الكوارث على الأفراد والمجتمعات، مما يعكس الجوانب النفسية للتاريخ وتوضح كيفية تشكيل التجارب التاريخية لهوية الشخصيات، مما يعزز مصداقية رواية الأحداث واستخدام الارتجاعيات النفسية تجعل الفرد يتعاطف مع الشخصيات، مما يزيد من تفاعلهم مع النص ويجعل الأحداث التاريخية أكثر تأثيرًا ،تعكس الارتجاعيات النفسية تجارب جماعية تعيشها المجتمعات تاريخيا، مما يعزز الإحساس بالمصداقية من خلال دمج الارتجاعيات النفسية مع الأحداث التاريخية، يمكن الحفاظ على توازن بين السرد الواقعي والخيالي، مما يعزز مصداقية الوهمية للنص ، الارتجاعيات النفسية ليست مجرد تقنية سردية، بل أداة قوية لتعزيز مصداقية السرد التاريخي الوهمي  من خلال تقديم عمق إنساني وتجربة عاطفية غنية.

حدود الارتجاعيات النفسية

تؤدي الارتجاعيات النفسية إلى تحريف الأحداث التاريخية إذا لم تُستخدم بحذر، مما يضعف مصداقية السرد وفقدان الوضوح، الإفراط في الاستخدام يجعل السرد معقدًا وصعب الفهم، مما يؤدي إلى تشويش القارئ حول تسلسل الأحداث، تجاهل السياق التاريخي والتركيز المفرط على الجوانب النفسية يعزز من الطابع الشخصي على حساب التفاصيل التاريخية، مما يقلل من فعالية السرد التاريخي، الانعزال عن الأحداث التاريخية والاعتماد الكبير على الارتجاعيات النفسية يؤدي إلى إغفال السياقات الاجتماعية والسياسية الأوسع وتصوير الشخصيات بشكل مبالغ فيه مما يقلل من واقعية السرد ، تفسر الارتجاعيات النفسية بطرق متعددة من قبل القراء، مما يؤدي إلى تباين في فهم الرسالة الأصلية ،يجب أن يُستخدم التوازن الزمني والذكريات بشكل مناسب لتفادي تشتت القارئ بين الأزمنة وفقدان الأثر إذا تم الاستخدام بشكل متكرر لأنها تفقد تأثيرها العاطفي وتصبح نمطية ، يجب أن تكون الارتجاعيات النفسية أداة تدعم السرد التاريخي بدلاً من أن تكون وسيلة تشتت أو تحريف.

الخيال والارتجاعيات النفسية

يمكن للخيال أن يوسّع من فهم الأحداث التاريخية من خلال إضافة أبعاد جديدة للتجارب النفسية، مما يساعد القارئ على استيعاب العواطف والدوافع وراء القرارات ويمنح الشخصيات خلفيات غنية ومعقدة، مما يجعل الارتجاعيات النفسية أكثر واقعية ،يمكن للخيال أن يساعد في تصوير التجارب النفسية بشكل مبدع، مثل الألم أو الفرح، مما يعزز من تأثير الارتجاعيات على القارئ من خلال الخيال، ان تحويل الذاكرة الى عنصر ديناميكي يربط بين الأزمنة، يجعل الارتجاعيات النفسية أكثر تفاعلًا مع الأحداث الحالية ،كما يمكن للخيال أن يوفر تفسيرات بديلة للأحداث التاريخية، مما يتيح للقارئ فهمًا أعمق للأسباب النفسية وراء تصرفات الشخصيات، يساعد الخيال في جعل الشخصيات أكثر إنسانية، مما يعزز التعاطف مع تجاربهم ويزيد من مصداقية الارتجاعيات، يمكن للخيال أن يوفر خلفيات اجتماعية أو ثقافية جديدة، مما يساعد في تفسير الارتجاعيات النفسية بشكل أكثر فعالية.

دقة المعلومات التاريخية وجمالية الخيال

ان تحديد نطاق الخيال كي يكون واضحًا بشأن ما هو خيالي وما هو تاريخي، واستخدامه لتطوير الأحداث مع الالتزام بالحقائق الأساسية والتوازن في التقديم وان هذا التوازن يجب ان يكون مناسبا بينهما ، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر في استكشاف العواطف ويستخدم لتجسيد المشاعر والتجارب الإنسانية، يجعل الأحداث التاريخية أكثر واقعية وجاذبية ،ان  احترام الحقائق هو احترم للشخصيات والأحداث التاريخية، وكذلك تجنب التحريف الذي يؤثر سلبًا على الفهم العام و يعزز التجربة و استخدام اللغة بأسلوب سردي يجمع بين الوضوح والجمال، ويجعل المعلومات التاريخية أكثر جاذبية ويمكن إنشاء سرد يجمع بين دقة المعلومات التاريخية وجمالية الخيال، مما يعزز من التجربة السردية ويعطي قيمة للعمل. الأشخاص الذين عاشوا تحت أنظمة قمعية قد يركزون على تجاربهم السلبية، مما يؤدي إلى تشكيل رؤية محددة عن النظام والتاريخ كذلك الأفراد من مجتمعات تعرضت للتمييز أو الإبادة قد يكون لديهم تحيز تأكيدي تجاه سرد تاريخي يدعم معاناتهم وحقوقهم، مما يعزز شعورهم بالهوية الجماعية. الأشخاص الذين عاشوا تحت أنظمة قمعية قد يركزون على تجاربهم السلبية، مما يؤدي إلى تشكيل رؤية محددة عن النظام والتاريخ كذلك الأفراد من مجتمعات تعرضت للتمييز أو الإبادة قد يكون لديهم تحيز تأكيدي تجاه سرد تاريخي يدعم معاناتهم وحقوقهم، مما يعزز شعورهم بالهوية الجماعية.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

في المثقف اليوم