قضايا
إبراهيم أبو عواد: تفكيك الاستبداد بين عبد الرحمن الكواكبي وجورج أورويل
لَيْسَ الاستبدادُ حادثةً عابرةً في تاريخِ البَشَرِ، بَلْ بُنْيَة مُعَقَّدَة تَتكرَّر بأقنعةٍ مُختلفة، وَتُغَيِّر لُغَتَهَا دُونَ أنْ تُغيِّر جَوْهَرَها. إنَّه مَرَضُ السُّلطةِ حِينَ تنفصلُ عَن الإنسانِ، وَحِينَ يَتحوَّل الحُكْمُ مِنْ وَظيفةٍ لِخِدمةِ المُجتمعِ إلى آلَةٍ لإخضاعه.
بَيْنَ عبد الرَّحمن الكواكبي (1855 - 1902) المُفكِّر العربي الذي واجهَ الاستبدادَ مِنْ قَلْبِ الشَّرْقِ في أواخرِ القَرْنِ التاسعِ عَشَر، وَبَيْنَ جورج أورويل (1903 - 1950)، اسْمُه الحقيقي: إريك آرثر بلير، الروائي الغربي الذي حَذَّرَ مِنْ طُغيانِ الحَداثةِ السِّياسيةِ في القَرْنِ العِشْرين، تَتشكَّل خَريطةٌ فِكرية واحدة لِمَسارِ القَمْعِ، وإن اختلفت الجُغرافيا واللغةُ والأُسلوب.
الكواكبي لَمْ يَكْتُبْ عَن الاستبدادِ بِوَصْفِهِ فِكرة مُجرَّدة، بَلْ بِوَصْفِه تَجْرِبة مُعاشة. كانَ يَرى الطُّغيانَ مُتَغَلْغِلًا في تفاصيلِ الحَياةِ اليَوميةِ، في التَّعليمِ الذي يُفَرَّغُ مِنَ النَّقْدِ، في الثقافةِ حِينَ تُسْتَعْمَل أداةَ تَبريرٍ، في الاقتصادِ حِينَ يَتحوَّل إلى وسيلةِ إفقارٍ، في الأخلاقِ حِينَ تَمْدَحُ الطاعةَ العَمْيَاءَ، وَتَذُمُّ جُرْأةَ النَّقْدِ البَنَّاءِ.
في كِتاباتِه، لا يَبدو المُسْتَبِدُّ وَحْشًا أُسْطُورِيًّا، بَلْ إنسانًا عاديًّا تَضَخَّمَ ظِلُّهُ لأنَّ المُجتمعَ تَراجعَ. الاستبدادُ عِندَه عَلاقةٌ مُخْتَلَّةٌ بَيْنَ حَاكَمٍ يَخافُ شَعْبَه، وَشَعْبٍ يَخَافُ حَاكِمَه، والخَوْفُ هُوَ اللغةُ المُشترَكةُ التي تَضْبِطُ الإيقاعَ.
أورويل اختارَ طَريقَ السَّرْدِ لِيَكْشِفَ المَأساةَ نَفْسَها. في عَالَمِهِ الرِّوائيِّ، لا يَحتاجُ الطاغيةُ إلى سَوْطٍ دائم، يَكْفي أنْ يُعيدَ تَشكيلَ اللغةِ والذاكرةِ. السُّلطةُ هُنا لا تَكْتفي بالتَّحَكُّمِ في الحاضرِ، بَلْ تُعيدُ كِتابةَ الماضي لِتَصْنَعَ مُسْتَقْبَلًا بِلا مُقَاوَمَةٍ. والقَمْعُ يُصْبحُ نِظامًا فِكريًّا مُتَكَامِلًا، حَيْثُ يُرَاقَبُ الجَسَدُ،وَيُعَاد تَشكيلُ العَقْلِ، وَتُفَرَّغُ الكَلِمَاتُ مِنْ مَعْناها حتى تَفْقِدَ قُدْرَتَهَا على الاعتراضِ. وأورويل لا يَصِفُ الاستبدادَ كَما هُوَ فَقَط، بَلْ أيضًا كَما يُمكِن أنْ يَصِيرَ إذا تُرِكَ بِلا مُسَاءَلَةٍ.
الكواكبي وأورويل يَلْتقيان عِندَ نُقْطَةٍ جَوهرية: الاستبدادُ لا يَعيشُ بالقُوَّةِ وَحْدَها، بَلْ بالتَّوَاطُؤ. الكواكبي يَرى أنَّ الجَهْلَ هُوَ التُّربةُ الخِصْبَةُ للطُّغْيان، وأنَّ المُسْتَبِدَّ يَخَافُ مِنَ الشَّعْبِ الواعي. وأورويل يَذهَبُ أبْعَد، فَيُظْهِر كَيْفَ يُمكِن للوَعْيِ نَفْسِه أنْ يُخْتَرَقَ، وكَيْفَ يُصْبحُ الإنسانُ شريكًا في قَمْعِ ذَاتِه، حِينَ يَقْبَلُ الأكاذيبَ المُرِيحةَ، ويَتخلَّى عَن الأسئلةِ الصَّعْبة. في الحَالَتَيْن، الاستبدادُ لَيْسَ غَريبًا عَن المُجتمعِ، بَلْ يَخْرُجُ مِنْ هَشَاشته.
الكواكبي يَستخدمُ لُغَةً تحليلية مُبَاشِرَة أقرب إلى التَّشريحِ الاجتماعيِّ، كأنَّه يَضَعُ الاستبدادَ على طاولةِ الفَحْصِ، وَيُشرِّح أعضاءه واحدًا واحدًا: الخَوْف، الفَسَاد، تَقْديس الطاغية، تَحطيم الفَرْد.
أورويل، في المُقَابِلِ، يَتْرُكُ القارئَ يعيشُ التَّجْرِبَةَ، وَيَخْتنق معَ أبطالِه، ويَشْعُر بِثِقَلِ الرَّقَابة، وَيَرى كَيْفَ تَتحوَّل الشِّعاراتُ إلى قُيودٍ. الأوَّلُ يُخَاطِبُ العَقلَ، والثاني يُخَاطِبُ الوِجْدَانَ، لكنَّ النتيجة واحدة: كَشْف القُبْحِ المُسْتَتِرِ خَلْفَ خِطَابِ نِظَامِ الطاغيةِ.
في فِكْرِ الكواكبي، التَّحَرُّرُ يَبْدأ مِنَ الوَعْي، ويَنمو بالتَّعليم، ويَكتمِل بِكَسْرِ هَيْبَةِ المُسْتَبِدِّ الوَهْمِيِّةِ، هُوَ لا يَدعو إلى فَوضى، بَلْ إلى إعادةِ التوازنِ بَيْنَ السُّلطةِ والمُجتمعِ. أمَّا أورويل، فَيُقَدِّم تَحذيرًا قاتمًا: إنْ لَمْ يُحْمَ هذا التوازن، فإنَّ التكنولوجيا والبيروقراطية قادرتان على إنتاج طُغْيان أشد قَسْوَةً مِنْ أيِّ استبدادٍ تَقليديٍّ، هُنا يُصْبحُ الإنسانُ رَقْمًا، وَتَتحوَّل الحقيقةُ إلى قَرارٍ إداريٍّ.
رَغْمَ الفارقِ الزَّمنيِّ والثقافيِّ، فإنَّ قِراءةَ الكواكبي وأورويل معًا تَكْشِفُ أنَّ الاستبدادَ ظاهرةٌ كَوْنِيَّة، تتجاوزُ الشَّرْقَ والغَرْبَ. إنَّه يَتكيَّف معَ السِّياقِ، وَيَسْتعيرُ مِنَ الثقافةِ أدواتِها، وَمِنَ اللغةِ أقْنِعَتَهَا. مَرَّةً يَتحدَّث بِاسْمِ العاداتِ والتقاليدِ، وَمَرَّةً بِاسْمِ الأمْنِ والأمَانِ، وَمَرَّةً بِاسْمِ التَّقَدُّمِ والازدهارِ. لكنَّ جَوْهَرَه ثابتٌ: إلغاء الإنسانِ بِوَصْفِه ذَاتًا حُرَّةً.
تَفكيكُ الاستبدادِ لَيْسَ مُهِمَّةً سِيَاسِيَّةً فَقَط، بَلْ هُوَ أيضًا مَشروعٌ ثقافيٌّ طويل، يَبدأ مِنْ إعادةِ الاعتبارِ للعقلِ النَّقْدِيِّ، وَحِمايةِ اللغةِ مِنَ التَّزْييفِ، وَتَرميمِ العَلاقةِ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجتمعِ على أساسِ الكَرامةِ لا الخَوْفِ. الكَواكبي يُوضِّح أنَّ الطُّغْيانَ يَنهارُ حِينَ يُسَمَّى بِاسْمِه، وأورويل يُذكِّر بأنَّ الصَّمْتَ عَن الكَذِبِ هُوَ أوَّلُ أشكالِ الهَزيمةِ.
بَيْنَ تَحليلِ الكواكبي وَسَرْدِ أورويل، تَتكوَّن مِرْآةٌ مُزْدَوَجَةٌ يَرى فيها القارئُ وَجْهَ الاستبدادِ بِوُضوحٍ مُخِيفٍ. مِرْآةٌ تَقُولُ إنَّ الحُرِّية لا تُمنَح، بَلْ تُبنَى، وإنَّ أخطرَ مَا في الطُّغْيانِ أنَّه يُقْنِعُ ضَحَاياه بأنَّه قَدَرٌ لا يُرَدُّ. وفي هذا الوَعْيِ تَحديدًا يَبْدأ التَّفكيكُ، وتَبْدأ أُولَى خُطُواتِ الخَلاصِ.
تَفكيكُ الاستبدادِ لَيْسَ حِكْرًا على ثقافةٍ ولا زَمَنٍ، بَلْ هُوَ هَاجِسٌ إنسانيٌّ يَتجدَّد كُلَّما تَغَيَّرَتْ أقنعةُ الطُّغْيانِ. الكواكبي، وَهُوَ يَكْتُبُ مِنْ قَلْبِ الشَّرْقِ الجَريحِ، واجهَ الاستبدادَ بِوَصْفِهِ عِلَّةً أخلاقية وفِكرية، تُفْسِدُ الدِّينَ والعقلَ والمُجتمعَ، فكانَ خِطَابُهُ مُبَاشِرًا إصلاحيًّا، يُرَاهِنُ عَلى وَعْيِ الأُمَّةِ واستعادةِ إرادتها. أمَّا أورويل، ابْنُ التَّجْرِبَةِ الغربيةِ الحديثةِ، فَقَد اختارَ طَريقَ الرَّمْزِ والتَّخْييلِ، كاشفًا كَيْفَ يَتحوَّل الاستبدادُ إلى مَنظومةٍ شاملة تُسَيْطِر على اللغةِ والذاكرةِ والحقيقةِ نَفْسِها، حَتَّى يَغْدُوَ القَمْعُ غَيْرَ مَرئيٍّ، لكنَّه أشدُّ فَتْكًا.
***
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن






