قضايا
عبد الحليم لوكيلي: العلم بما هو جزئي (2): ابن الهيثم نموذجا

في مقابل هذه الرؤية البسيطة التي قمنا بتقديمها لنوضح ملامح النظر الفكري والمعرفي الذي طبع العصر الوسيط مع ابن خلدون (الجزء الأول من المقال الذي عنوانه "العلم بما هو جزئي: ابن خلدون نموذجا)، يمكن استدعاء تصور "الحسن ابن الهيثم" فيما يخص مسألة كيفية الإبصار. إذ ينطلق في سياق معالجته لهذه المسألة من الإشارة إلى كونها ليست من السهولة بمكان حدها، نظرا للطافة موضوعها وتشعبها واختلاف الآراء بخصوصها. سيما، وأنها موضوع تختلط فيه المجالات والعلوم، حيث يشترك في تناولها علمين جليلين هما؛ العلوم الطبيعية باعتبار العين من الحواس، والحواس من الأمور الطبيعية. ثم علوم التعاليم (الرياضيات) لكون البصر حينما ينقل ما يوجد حسيا، فهو لا ينقله إلا شكلا أو وضعا، وإما حركة أو سكونا[2].
إن ابن الهيثم قبل أن يقدم تصوره بخصوص مسألة الإبصار قام بإبراز خلاصات ونتائج أصحاب علوم التعاليم وعلم الطبيعة بخصوصها. لذلك، يشير إلى أن هناك نظريتين متعارضتين لمسألة الإبصار، نظرية أولى تعتبر أن الإبصار يتم اعتمادا على أشعة الضوء المنبعثة من العين وفق خطوط مستقيمة لها مركز هو نقطة التقائها في مركز العين، وأصحاب هذه النظرية هم أصحاب التعاليم (أي؛ أقليديس وبطليموس)، يقول ابن الهيثم في هذا الصدد: «فأصحاب التعاليم فإنهم عنوا بهذا العلم أكثر من عناية غيرهم (...) إلا أنهم على اختلاف طبقاتهم وتباعد أزمانهم وتفرق أرائهم متفقون بالجملة على أن الإبصار إنما يكون بشعاع يخرج من البصر إلى المبصر وبه يدرك البصر صورة المبصر، وأن هذا الشعاع يمتد على سموت خطوط مستقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وأن كل شعاع يدرك به مبصر من المبصرات فشكل جملته شكل مخروط رأسه مركز البصر وقاعدته سطح المبصر»[3]. ونظرية ثانية تعتبر أن دخول الضوء إلى العين يتم بصورة طبيعية، وهؤلاء هم أصحاب علم الطبيعة (الفيزياء)؛ يقول ابن الهيثم: «وقد بحث المتحققون بعلم الطبيعة عن حقيقة هذا المعنى بحسب صناعتهم واجتهدوا فيه بقدر طاقتهم، فاستقرت أراء المحصلين منهم على أن الإبصار إنما يكون من صورة ترد من المبصر إلى البصر منها يدرك البصر صورة المبصر»[4]. هكذا إذن، يبدو التعارض بين أصحاب علم الطبيعة وعلوم التعاليم في مسألة كيفية الإبصار. وعليه، فما هو تصور الحسن ابن الهيثم لهذه المسألة؟
يبتدئ ابن الهيثم بنوع من الانتقاد لما سبق ذكره، وبما أنه ليس المقام لتوسيع النظر في هذه المسألة هاهنا، فإنه يمكننا القول باختصار فيما يخص النظرية الأولى أنه لا يمكن أن تنطلق الأشعة من العينين إلى النجوم البعيدة بمجرد فتح أعيننا (نقد للنظرية الأولى)، إذ حتى طبيعة الخطوط فيها اختلاف بين أصحاب علوم التعاليم، إذ نجد «بعضهم يرى أن مخروط الشعاع جسم مصمت متصل ملتئم، وبعضهم يرى أن الشعاع خطوط مستقيمة هي أجسام دقاق أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وتمتد متفرقة حتى تنهي إلى المبصر، وأن ما وافق أطراف هذه الخطوط من سطح المبصر أدركه البصر وما حصل بين أطراف خطوط الشعاع من أجزاء المبصر لم يدركه البصر، ولذلك تخفى عن البصر الأجزاء التي في غاية الصغر والمسام التي في غاية الدقة التي تكون في سطوح المبصرات...»[5]. مما يعني أن أصحاب التعاليم أنفسهم مختلفون في كيفية صياغة تصور عن المسألة المطروحة، لكن علة المشكلة التي لم يصيبوا فيها، ليست اختلافهم المحمود، وإنما في الأساس النظري للمسألة، كما الحال بالنسبة لأصحاب علم الطبيعة الذين يجعلون من الحواس هي المدركة للمبصرات، بل هي المميزة لها، والحال أن الأمر غير ذلك.
ونظرا لهذا التباين بين العلوم المهتمة بمسألة الابصار، بل والخلاف الملتبس بينهما، وجب استئناف نجد «النظر في مبادئه ومقدماته، ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، ونميز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس (...) ونصل بالتدرج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين.»[6]. انطلاقا من هذا النص يتضح بالملموس أن الطريق الذي هو مسلك النظر في مسألة الإبصار عند ابن الهيثم مختلف تماما عن الأقدمين، إذ الاهتمام بجزئيات الإبصار وعناصره واستقراء ما يخصه بكيفية تتخللها التدقيق في خواص الجزئيات، وجزئيات الجزئيات، يوحي لنا بشكل ابستمولوجي التغير الذي حصل في بنية التفكير العلمي في المسائل العلمية في العصر الوسيط.
إن العين -وهذا هو الأساس في نظرية الإبصار الهيثمية- لا تبصر شيئا وإن كانت تبصر كل شيء، بمعنى أن ما تبصره العين ليس إلا صورا أتت من الأشعة الضاغطة على العين من الكائن المرئي، ومن تم فالعين لا تبصر الصور إلا إذا كان لها حجم مقتدر، حيث ليس في مقدور البصر أن يدرك ما كان في غاية الصغر. غير أن المفيد في هذا السياق هو تأكيده على فكرة هامة تتمثل في أن «الأبعاد التي يصح أن يدرك منها البصر المبصرات تكون بحسب الأضواء التي في المبصرات، وما كان من المبصرات أشد إضاءة فقد يدركه البصر من بعد قد تخفى من مثله المبصرات المساوية لذلك المبصر في العظم إذا كانت الأضواء التي فيها أضعف من الضوء الذي في ذلك المبصر»[7]. إن لهذا القول دلالة فلسفية كبرى في نظرية المعرفة الحديثة، إذ الموضوعات التي يكون لنا اهتمام بها في الواقع، هي المواضيع التي تثيرنا وتجعلنا نبذل جهدا تجاهها، وبحسب ابن الهيثم فكل جسم هو مضيء من ذاته وفق خطوط مستقيمة كما نلحظها في تمثيل الفوتوغرافي حينما يلتقط صورة، لذلك، فإن الجسم الأكثر إضاءة هو الجسم الأكثر إثارة لنفوسنا من حيث طلب الاهتمام به.
حاصل القول إن ما نريد التأكيد عليه مع ابن الهيثم هو أنه إذا كان العقل يدرك المعقولات، والحس يدرك المحسوسات عند فلاسفة اليونان (أفلاطون وأرسطو)، فإن الحس عند ابن الهيثم ليس سوى ناقل لعملية الصور الساطعة من أشعة الكائنات نحو العقل، ومن تم تمييزها وإدراكها بواسطته، وتصنيفها وفق نوعها. وبذلك، يشكل ابن الهيثم حلقة أساسية في تاريخ الفكر النظري العلمي من حيث تميز نظرته بخصوص عملية الإبصار، وهي حلقة توضح بالبيان الناصح التوجه الجديد للعلم الذي اتجه نحو الاهتمام بدقاق الأمور وأعراضها، لا بمبادئها الكلية.
***
د. لوكيلي عبدالحليم باحث في الفلسفة-المغرب
.................................
[2] الحسن ابن الهيثم، كتاب المناظر، المقالات 1-2-3 في الإبصار على الاستقامة، حققها وراجعها على الترجمة اللاتينية عبد الحميد صبره، مكتبة الإسكندرية، ط.1، 1983، ص. 60.
[3] المصدر عينه، ص. 20.
[4] المصدر عينه، ص. 20.
[5] المصدر عينه، ص. 21.
[6] المصدر عينه، ص. 22.
[7] المصدر عينه، ص. 27.