قضايا
عبّاس القسام: الحبّ أكبر من تصوّرنا له

بينما رأى أفلاطون أنّ الحبّ ارتقاء نحو الجمال الروحي، ورأى أرسطو أنّ الحبّ صداقة فاضلة قائمة على الفضيلة، ورأى فريدريك نيتشيه أنّ الحبّ إرادة قوّةٍ نابعة من الاِنجذاب الجنسي الغريزي، ورأى شوبنهاور أنّ الحبّ خداع نابع من إرادة الحياة لتحقيق غريزة البقاء، ورأى كيركيغور أنّ الحبّ نظرة روحانية عميقة تتجاوز النظرة الشهوانية، جاءَ دوستويفسكي ليختزل هذه المفاهيم بقول بيّنٍ وحادّ ليقودنا حيث تكمن الرؤية الواقعية، فيقول: "نحن لا نحب الآخرين كما هم، بل كما نُريدهم أن يكونوا، وهذا أصل كلّ خيبة". ويأتي سارتر ليعزّز هذا المفهوم بمنظور معاكس، إذ يعرّف الحبّ على أنّه "محاولة لجعل الآخر يرانا كما نريد أن نُرى".
ونلحظ من هذه التحجيمات التجريدية في توصيف الحبّ أنّ هناك شيء من الواقعية المجرّدة من المثاليات. فإما أن يكون الحبّ سعيًا لرؤية الآخرين فينا أو رؤيةَ أنفسنا في الآخرين. يصف إريك فروم هذا النوع من الحب بالأنانيّة، وربّما كان هذا الحب هو أشدّ أنواع الحبّ خداعا.
عندما تقول أنا أحب شخصًا معيّنا وتعلّل حبّك له بتعداد صفاته، فإنك لم تحبه، إنما أحببت نفسك فيه، فالصفات التي تختارها في شخص معين ما هي إلا رغبة في رؤية نفسك في شخص آخر، وإلا هناك من يحملون نفس الصفات -بل ربّما أفضل- ولم تحبّهم بنفس الشكل. فلو أحببت شخصا وبدأت في تغييره ليتناسب مع صفاتك وأفكارك ومعتقداتك فهذه قمّة الأنانية وحبّ النفس، ولا محال أن تبقى فاشلا في الحبّ مهما كثر الذين تحبّهم!
ولو خلعت الأنانية من نفسك وأحببت شخصًا لأنه "هو" لا لأجل صفات وجدتها فيه، كذلك أنت لم تحبّه إنما أحببت نفسك فيه؛ هذا لأنّك اِتبعت غريزتك الحيوانية التي قادتك لاِختياره دون غيره، وهذا يقودنا لمفهوم الأنيما والأنيموس لكارل يونغ، حيث أنّ اِختيار الآخرين بلا سبب ما هو إلا إسقاط لصفات متجذّرة في اللاوعي الجمعي، وبالأساس هي مواضع غريزية ناتجة عن تطوّر بيولوجي عبر آلاف السنين.
إذن ما الحبّ؟
سؤال من كلمتين لكنّ مضمونه متشعّب جدا، ولا يسعنا أن نقصر الحبّ بكلمات معيّنة، فنرى عَجْزَ الفلاسفة والمفكّرين بتحجيم الحبّ بتعريف أوحد. إلا أنّ المضمون الذي تتفق عليه جلّ التعريفات أنّ الحبّ هو "هبة بلا مقابل".
أن تهب الآخرين راحتهم، تهبهم السّلام والطمأنية، تهبهم العون والمساعدة، دون أن تنتظر منهم شيئًا. أن تحبّ الآخرين كما هم، لا كما تريدهم أنت، أن تريد لهم الخير حتى لو لم يعودوا لك، وأن ترى وجودهم قيمة بذاته، لا أداة لتحقيق ما تجد نفسك راغبًا فيه.
عندما نصل لأسمى درجات الحبّ نحتاج أن نصل إلى أسمى درجات الإنسانية، أن نحبّ كلّ الناس ونحبّ اِختلافهم واختلاف أعراقهم ودينهم وطوائفهم، وأن نصل لدرجة التضحية لمن لا يقدمون لنا شيئا، وهذا نهج الأنبياء والأئمة والصّالحين الذين ندّعي أننا نقتدي بهم، وننفر ممن عداهم ما إن نطّلع على عرقهم أو اِنتماءهم تاريخيّا ودينيّا!
ما أسهل أن نقول أننا نعتنق دين التعاون والإيثار ونحن نحارب ممن هم منّا ومن ديننا بسبب نزاعات تاريخية!
عندما نجتاز هذه المرحلة يمكن أن ننجح في حبّ الحياة وحبّ أنفسنا وحبّ النّاس كلّهم، فالحبّ يبدأ من داخلنا لا من الآخرين.
المحددات المسلّماتية ليست أنانيّةً في الاِختيار؛ لأنها نابعة من الوسيلة التي تميّزنا عن باقي الكائنات وهو "العقل".
أخصّ اِختيار صفات ثانويّة نابعة من موروثات ومعتقدات وإيدولوجيات وإقحام الآخر على الالتزام بها من باب إرادة المصلحة والمنفعة، وهذا في واقع الأمر شيء من السذاجة؛ لأنّ تحقق المصلحة والإفادة لكلّ إنسان أمر نسبيّ يعتمد على ارتباطنا بالآخرين.
ولأنّك تقدّم اِشتراطاتك على أنها تحقيق للسموّ والعقلانية والمطلقية، ولا تعترف بأنها نتاج موروثاتك ومعتقداتك وإيدولوجياتك وهي جزء من الاِختلاف الذي يجب أن نتقبّله كي نحقّق الحبّ بأبهى صورة فإنّك ستفشل فشلا ذريعًا في أن تحبّ الآخر كما تتصوّر.
لو جئنا بشخص عازبٍ ذي ثلاثين عاما وأبدلنا عائلته ومجتمعه بالكامل سوف يواجه مشاكلَ كثيرة، وربّما لا يستطيع التأقلم مهما حاول ذلك، حتّى وإن لم يتعرّض للأذى، لأنّه تطبّع لفترة طويلة على معتقدات وإيدولوجيات وسلوكيات مجتمعه، وربّما لا يرى أنّ ما يفعله الآخرون صحيح، فالصحيح ما ترعرع عليه وتعوّده، ولا طريق أمامه سوى أن يتقبّل الاِختلاف. وعليه فإنّ كلّ إنسان نتاج بيئته.
نفس الشيء في اِختيار الشريك، فإنّك مهما خصَصته في الحبّ، إذا لم تتقبل أنّه من عائلة ذات إيدولوجيات وسلوكيات وغرائز مختلفة بالتالي هو كذلك فلن تنجح في حبّك له.
إذن المشكلة ليست تمثيلا واقعيّا، إنما مشكلة كامنة في داخلك أو داخله، وهو قيد وهميّ يجب أن نبادر في كسره جميعنا!. الحبّ يعني التقبّل، ولكي تنجح في الحبّ يجب أن تبدأ بحبّ الذين تكرههم.
أمّا لو جئنا بصورة لا يمكن أن تخضع للتجريد، فإنك لو أردت تعلّم الحب يجب أن تمرّ بتجارب كثيرة، وهو ليس قول قطعيّ لأنّ هذا يعتمد على مدى فهمك للحبّ، ليس من المستحيل أن ينجح الإنسان في الحبّ من أوّل تجربة له؛ كونه صاحب مستوى عقليّ ناضج ومدرك لمعنى الحبّ الحقيقي، ولعمري أنه سعيد الحظ، لأنّ الحبّ الأوّل لا يُنسى أبدًا.
***
عبّاس القسام