قضايا
فؤاد الجشي: وعيٌ مؤجّل

عندما وُجدنا في هذه الحياة، كنّا خارج دائرة الوعي مجرّد أجرام صغيرة تنبض بالحياة دون إدراك معناها، نشرب من ثدي أمهاتنا، نغلق أعيننا في استراحة مؤقتة من ضجيج الولادة، ننتظر مكتسباتنا التي لم تولد بعد. كانت ابتسامتنا الأولى سببًا في بكاء الفرح، لا لأننا وعيناها، بل لأنّ من حولنا أرادوا أن ينسجوا لها معنى. نولد بدين أو مذهب أو لسان لم نختره، في بيئة لم نستشر في دخولها، تنمو أغصاننا من جذع يتجذر كلّ يوم في طبيعة الحياة القادمة، دون أن نعي بعد أنّ الجذور قد لا تكون اختيارًا، بل قدرًا متخفّيًا.
يومًا بعد يوم، نحاط بدائرة المجتمع والعائلة، نخوض أول أشكال "التنشئة القسرية"، لا بالضرب، بل بالحب المشروط، بالكلمات المتكررة: لا تفعل، افعل، هذا خطأ، هذا صواب، حتى تصبح هذه العبارات مادة أولى في بناء وعينا.
نولد أحيانًا بجين معيّن قد يتحكم في مزاجنا، أو يحرّك كيمياء أدمغتنا، أو يضع فوقنا ستارة من الحزن دون سبب، أو يهبنا خفة الروح والذكاء دون تدريب. ربما نولد هادئين، أو شجعانًا، أو قلقين ومكتئبين. بعضنا يرث صفات جسدية أو أمراضًا لا ذنب له فيها، لكنه يُحاسب عليها اجتماعيًا ضمنيًا، أو يُنظر إليه من خلالها كما لو كانت سمة أخلاقية.
لكنّ الإنسان ليس عبدًا لجيناته، فثمة حريّة تنبثق من وسط القيود، كمن يشعل عود ثقاب في كهف مغلق. هناك، في أعمق نقطة من وعينا، نكتشف أننا لسنا فقط مَن نولد، بل أيضًا من يخلقون أنفسهم لحظة بلحظة، كمن ينقّح وجوده باستمرار دون إذنٍ من ماضيه. فكلّ فكرة نعيد التفكير فيها، كلّ سلوك نرفضه رغم تعوّدنا عليه، كلّ قرار نأخذه ضدّ الوراثة والبيئة، هو إعلان ضمني: أنا حيّ باختياري، لا ببرمجتي.
ثم، يأتي "القدر". لا ذاك الذي ننتظره في الكتب أو الأدعية، بل القدر الذي يتوجه إليك في محنة، في حادث مفاجئ، أو خسارة موجعة، أو سؤال يهزّ أساسك. هنا، يستيقظ فيك شيء نائم منذ زمن بعيد، لا توقظه النعمة بل الشدّة. القدر هنا ليس عقوبة، بل دعوة لتغيير الجلد. هناك، حيث تشعر أنك تحترق، تولد إنسانًا جديدًا.
ولكن، إن لم تستجب لهذا القدر، قد تسقط في فخ الدوغمائية، فتصبح أسير بنية ذهنية مغلقة. ترفض كلّ تساؤل، وتطرد كلّ اختلاف، فتبني لنفسك قبرًا من الطمأنينة المزيفة. مع ذلك، حتى هذا الإنسان "المنغلق" له دور، رغم قسوته، فهو يخلق تصادمًا ضروريًا يولّد الأسئلة، ويحفّز النمو البشري، ويجعل الفكر يتقدّم، لا بالاتفاق بل بالاختلاف.
في منتصف الطريق، نبدأ نفهم أنّ الحياة ليست سلسلة من النجاحات، بل مسرحًا مليء بالإخفاقات. نتأمل وجوه من حولنا، نلاحظ من غادر قبل أن يقول كلّ شيء، ومن بقي رغم كلّ شيء. يبدأ الصمت يتكاثر فينا، لا لأننا مللنا الحديث، بل لأننا أدركنا أنّ أكثر الأشياء عمقًا لا تُقال.
نحاول أن نفهم: لماذا نشعر بالضيق رغم كلّ "النِعم"؟ لماذا نغضب رغم وعينا التام أنّ الغضب لا يغيّر شيئًا؟ لأنّ الصبر له حدود، ليس إلهيًا، بل بشريًا. نُبتلى ليس فقط بالأقدار، بل بحيرتنا تجاهها. لا ندري أحيانًا إن كنّا نُختبر، أم نُعاقب، أم فقط نُجرِّب بصمت.
نصل إلى مرحلة "البانوراما"، حيث تبدأ الذاكرة بعرض مشاهد حالمة: لحظات الطفولة، أول قبلة، ضحكة أم، خذلان صديق، صمت حبيب. لحظات لا نفهم قيمتها حين نعيشها، لكنها تتحول إلى "مقدسات شخصية" حين تُعرض على شاشة الوداع. هنا، ندرك فجأة أننا لم نكن نعيش، بل نُستهلك في محاولة العيش.
تبدو الحياة مثل رحلة طويلة داخل متاهة، كلّ باب يفتح على سؤال، وكلّ جواب يولّد خيبة أو أملًا مؤقتًا. نحيا بين الحنين والخوف، بين العقل الذي يطالبنا بالحذر، والقلب الذي يحرّضنا على المغامرة. نحب ونتألم، نجرّب ونخسر، ونواصل الطريق رغم فقدان الخريطة.
وها نحن نصل إلى النهاية. لا تأتي غالبًا كما نرغب، بل كما تشاء الحياة. قد تكون لحظة هدوء، أو لحظة فزع. قد تكون بعد مرض طويل، أو مفاجأة برق في سماء زرقاء. لكن كلّ النهايات تشترك في شيء واحد: الصمت العميق.
في تلك اللحظة، تُعرض أمامك حياتك كلّها في ومضة. لا كفلم، بل كشعور كثيف. تدرك فجأة أنّ كلّ ما كنت تخافه لم يكن حقيقيًا، وأنّ كلّ ما كنت تؤجله لم يكن ينتظرك.
وها هي المفاجأة الكبرى: أنت لم تكن أنت.
لقد كنتَ انعكاسًا لتوقعات الآخرين، صورة مرآة للقبول، نتيجة جيناتٍ وأوامر تربوية وقرارات لم تراجعها. لكن الآن فقط، وأنت تودّع هذا الجسد، تُدرك أنّ الحياة الحقيقية تبدأ بعد الموت الرمزي، لا الفيزيائي. تموت الشخصيات وتولد الحقيقة.
ربما كانت الحياة كلّها مجرّد سؤال طرحه عليك الوجود:
"هل كنت ذاتك… أم نسخة صامتة مما أرادوه لك؟"
وهنا، وحده الصمت يجيب.
***
فؤاد الجشي