قضايا

إبراهيم الجميلي: تحليل فلسفي - ثقافي للشخصية الفهلوية

في ضوء أطروحات حسن حنفي وصادق جلال العظم

في مجتمعنا، وفي المجتمعات العربية، كثيراً ما نسمع مصطلح "الفهلوي" في السياقات العربية الشعبية والثقافية لوصف شخص بارع في الخداع، وماهر في المراوغة، ويتصرف بمكر، يمزج بين الذكاء والانتهازية. في الوعي العربي الجمعي، الفهلوي هو من "يعرف من أين يستخرج أفضل ما لديك"، لكن لا يمكن الاعتماد عليه في المواقف الحرجة التي تتطلب ثباتاً أخلاقياً أو التزاماً مبدئياً. وقد ترسخ هذا النموذج كمرادف لـ"البطولة الزائفة"، التي تختبئ بالمكر في وجه واقع لا يكافئ الصدق، بل يشجع على المراوغة.

حيث يرى حنفي أن أزمة الذات العربية تكمن في تمزّقها بين التراث من جهة، والحداثة الغربية من جهة أخرى. وقد أدت محاولات التوفيق غير النقدي بين هذين القطبين إلى ظهور نوع من "الوعي المزدوج"، وعي لا ينتمي كليًا إلى الماضي ولا إلى الحاضر، بل يتأرجح بينهما بصعوبة. يقول حنفي في مقدمة كتابه "التراث والتجديد": "نحن لا نعيش في واقعنا، بل نرتدي أقنعة متعددة. ظاهريًا نقف مع الحداثة، بينما باطنينا مرتبطة بالماضي، ونفتقر إلى مشروع متماسك للتحرر" (حنفي، ١٩٨١، ص ٢٢).

من هذا المنظور يُعتبر الفهلوي ابن هذا الوعي المنقسم، يعيش بوجهين: وجه يُظهر التدين أو الالتزام الأخلاقي، وآخر براغماتي، بارع في التلاعب بالمواقف والرموز والمصالح. إنه نسخة فردية من معضلة جماعية تتمثل في عجز الثقافة العربية عن بناء علاقة نقدية مع تراثها من جهة، ومع الحداثة من جهة أخرى. ولأن الحنفي يُصر على ضرورة "تثوير التراث من الداخل"، تُمثل الفهلوية انحرافًا عن هذه الثورة، إذ تُبقي التراث في موضع استعباد واستغلال، بدلًا من أن يكون فعالًا ومبادرًا. من هذا المنظور، تُقوّض الفهلوية العلاقة الصادقة مع التراث، إذ لا تتعامل معه كمشروع تجديد، بل كمستودع للاستخدام الانتقائي. إنه شكل من أشكال "الاغتراب الثقافي الداخلي"، حيث يُصبح الانتماء إلى التراث مجرد شعار يخدم السلطة أو المصلحة الذاتية، بدلًا من أن يكون مساحة للالتزام الأخلاقي أو التحرر.

مع ذلك، يرى صادق جلال العظم أن من مظاهر التخلف الثقافي في العالم العربي غياب الانسجام بين الخطاب والممارسة، بين ما يُعلن في النصوص وما يُمارس فعليًا. ويرى العظم أن هذا التناقض يُنتج شخصية "زائفة" تميل إلى التظاهر لا إلى تمثيل حقيقي للقيم. ولذلك، يقول في نقده للفكر الديني: "إن استبداد الخطاب الدعوي الخالي من الفعل جعل من التدين قناعًا اجتماعيًا لا تجربة وجودية" (العظم، ١٩٦٩، ص ٤٥).

وفي هذا الإطار فإن الفهلوية هي الشخصية التي تتقن تقمّص الأقنعة، وتلعب على تناقضات الخطابات الرسمية، وتستغل المناطق الرمادية في القوانين، وهي – بتعبير العظم – نتاج مباشر "لثقافة التحريم" التي تمنع النقد وتكافئ التملق. فالفهلوي ليس مناهضًا للنظام، بل هو نتاجه الأصيل؛ فهو بارع في التكيف؛ متلون في المواقف، ويعيش وفق منطق "الضرورة السياسية" و"المصلحة الاجتماعية".

وفي كتابه ذهنية التحريم، يحلل العظم هذه الذهنية بوصفها معادية للعقل النقدي، وتقوم على القمع الرمزي. وهنا تظهر الفهلوية كاستراتيجية دفاعية للفرد في بيئة لا تمنح فرصًا متكافئة، بل تفتح المجال أمام الانتهازيين الذين يحسنون "اللعب تحت الطاولة". الشخصية الفهلوية، إذن، هي الشكل الفردي لثقافة القهر الجماعي.

وهنا يمكن الاستفادة من مفاهيم علم الاجتماع النقدي، كما طرحها بيير بورديو، خصوصًا في حديثه عن "العنف الرمزي" و"الهابيتوس". فالفهلوية ليست خيارًا فرديًا واعيًا بالضرورة، بل هي جزء من "الهابيتوس الثقافي" الذي يتكون لدى الأفراد في بيئة اجتماعية تشرعن المراوغة وتكافئ الخضوع الذكي. وبحسب بورديو: "يميل الإنسان إلى التطبيع مع البنى الاجتماعية القهرية حين تتلبّس هذه البنى شكل العادات والذوق الاجتماعي"  (Bourdieu, 1990, p. 5)

وبالعودة إلى الثقافة العربية، فإن الفهلوي هو من تربى على أن يقول ما لا يفكر فيه، وأن يُظهر غير ما يبطن، وأن يكون ماهرًا في استغلال الرموز الدينية أو القومية لتحقيق مكاسب آنية. إنه نموذج للإنسان "ما بعد الصادق"، الذي اختفى فيه الفرق بين النية والسلوك، وتحول فيه الفكر إلى أداة للشرعنة لا للتحرير. ولكسر هيمنة الشخصية الفهلوية، لا بد من مشروع ثقافي نقدي يعيد الاعتبار لثلاث قيم مركزية:

1.  الصدق الفكري: وهو ما دعا إليه العظم، من خلال تفكيك التناقضات في الخطاب السائد وفضح الازدواجية.

2.  التحرر من التراث السلبي: كما طالب به حنفي، عبر إعادة قراءة التراث من الداخل بوصفه أداة مقاومة لا عبودية.

3.  المسؤولية الأخلاقية: أي التحول من الانتهازية إلى الالتزام، ومن الذكاء الماكر إلى الذكاء الواعي.

أي إن الفهلوية لا تزول بقرار فردي، بل بتغيير البنية الثقافية والسياسية التي تفرزها، وهذا يستدعي ثورة معرفية تبدأ من المدرسة والجامعة، ولا تنتهي إلا بخلق نموذج جديد للمثقف والمواطن، يتجاوز فيه الازدواجية، ويستعيد صلته بالأصالة دون أن يتخلى عن روح الحداثة.

وختماً لما تقدم ذكره نرى إن الشخصية الفهلوية ليست مجرد ظاهرة اجتماعية معزولة، بل هي نتيجة مركبة لانفصام الوعي، وهيمنة الخطاب الوعظي، وقمع الحرية، وغياب المشروع الثقافي التحرري، وقد أضاء نقد كل من حسن حنفي وصادق جلال العظم على جوانبها المتعددة، من خلال نقدهما الجذري للثقافة العربية المعاصرة. الفهلوية، وفي النهاية هي مأساة الذات عندما تفقد أصالتها، وتُرغم على التلون لتنجو. وكسر هذه الحلقة لا يكون إلا بخلق فضاء ثقافي نقدي يعيد الاعتبار إلى الحقيقة، لا إلى الحيلة.

***

الدكتور: إبراهيم أحمد شعير الجميلي / كركوك - العراق

....................

المراجع

1. حسن حنفي، التراث والتجديد، بيروت: دار التنوير، 1981.

2. صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، بيروت: دار الطليعة، 1969.

3. صادق جلال العظم، ذهنية التحريم، عمان: دار بترا، 1992.

4.  Pierre Bourdieu, The Logic of Practice, Stanford University Press, 1990.

5. محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1982.

6. علي حرب، نقد النص، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993.

في المثقف اليوم