قضايا

مراد غريبي: محنة المثقف العربي بين عوراته وتحديات الاستقلالية والتجديد

"النجاح ليس في ألا تخطئ، بل في ألا تكرر نفس الخطأ مرتين." جورج برنارد شو

مفتتح: عندما نناقش حال الثقافة العربية راهنا، نحن في الحقيقة نلاحق واقع المثقف، أو أولئك الذين يعيشون تأنيب الضمير أحيانا والنكوص أحيانا أخرى أو الانفصام الجزئي او التام عن ماهية الثقافة في شخصياتهم...في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، ظل المثقف محط الاستهزاء، وأحياناً محطّ نقد حاد، ليس فقط بسبب محتوى فكره وأطروحاته وتقلباته التي لا تنتهي بين فصول الواقع، وإنما بسبب "العورات" الفاضحة في واقع معاصر يعصف بالقيم والتقاليد والمفاهيم. هذه العورات ليست مجرد نواقص سطحية أو زلات سلوكية أو نزوات ما بعد الثلاثينيات، بل تشكل عقداً مركبة من التصدعات البنيوية في رمزية المثقف التي تحبس المثقف في دائرة مغلقة من التبعية، الانعزال، التجزئة، فقدان المصداقية والنكوص، مع إغراءات عابرة للسطحية والابتذال.

لذا خصصت هذه السطور لمقاربة قراءة عابرة تكتشف جذور هذه العورات التي جعلت المثقف وهما في مخيال الإنسان العربي، مع محاولة تقديم تصور استراتيجي لإنقاذ المثقف العربي من سوءاته ونكساته ورهاناته النابعة من نرجسيته المرضية، حتى يستعيد قوته لإحداث نقلة حضارية حقيقية، عبر خطاب ثقافي منفتح على الواقع ومدرك لحيثياته ومتطلع لمستقبل مشرق للإنسان العربي المتعطش للكرامة والعدالة.

أولى عورات المثقف في المجال العربي، هي التبعية التي لطالما غذت تقوقع المثقف في أطر صلبة لا تسمح له بالتحرر بنفسه من رهانات السلطات المستحكمة في واقع مجتمعه وعالمه الكوني، مما أثر على استقلالية آرائه، حيث يتجنب المثقف الاصطدام مع الخطوط الحمراء حفاظًا على مصالح شخصية أو مركز اجتماعي. هذا التواطؤ أنتج خطابات عقيمة بعيدة عن النقد البنّاء.. تحكمها علاقات معقدة بمراكز النفوذ، حيث يتنازل المثقف عن استقلالية فكره مقابل حماية مصالحه الشخصية أو مكانته الاجتماعية، لذلك المدخل هنا هو التحرر الداخلي الذي لا يكون إلا استناداً إلى قوة من الداخل، قوة تمثل التزاماً حقيقياً بالقيم والمعايير الفكرية التي يؤمن بها، وليس التي يتاجر بها. المثقف العربي اليوم مطالب بأن يعيد تأسيس مركز ثقته الذاتية بعيداً عن حسابات التفاهة والهشّاشة التي تتقلب بتقلب الأهواء الأيديولوجية وهذا ما نجده في تمثلات المثقف عند ادوارد سعيد و"المثقف والسلطة" عند كل من ماكس فيبر وميشال فوكو أو كما يرى أنطونيو غرامشي، بأن خطورة المثقف تكمن حين يكون أداة في يد الطبقات المهيمنة لتثبيت أيديولوجيتها و"الهيمنة" عبر التعليم، الإعلام، والدين، وليس فقط عبر السياسة المباشرة. المثقف العضوي في المقابل، هو الذي يرتبط بحركة اجتماعية تغييرية ويناضل من داخل المجتمع لبلورة فكر نقدي يُحدث قطيعة مع "الحس المشترك" الساذج والمتناقض، ويعيد للمجتمع وعيه الموحد"1.

تصوف المثقف:

كلما انعزل المثقف عن مجتمعه، وانسحب نحو صومعته الزجاجية لا يمكن له أن يؤثر في حلحلة هموم الواقع المعاش. هذه العزلة هي التي أنتجت في سبعينيات القرن الماضي خطابا نخبويا منفعل نرجسي ولا تزال تعيد انتاجه الى يومنا هذا، مما اوقعها في مأزق سوء الفهم وعدم القدرة على التواصل مع الجماهير على طول العالم العربي خصوصا مع شباب مفعم بالسرعة والنقد والنانو واقعية، فأصبحت أفكار المثقف كرسائل في زجاجة في بحر واسع لا تُلتقط إلا نادراً وبعد فوات الاوان. لذلك على المثقف أن يخطو خطوات مباشرة نحو الناس، أن ينفتح على تجربتهم، يستوعب لغتهم، ويجعل من فكره جسراً حياً يربط النظرية بالتطبيق والخطاب بجدليات الواقع والوعي بالمستقبل والرؤية بالقيم، وتجديد نظراته الأكاديمية لتقترب من هموم الناس وتفكك شفرات الأزمات، لابد للمثقف أن ينعزل عن أبواق الأيديولوجيات، سواء كانت يسارية أو يمينية أو دينية أو ليبرالية وليس عن مجتمعه وطبقاته الهشة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، لان الاستغراق في اروقة الادلجة يفقد المثقف موضوعيته وقدرته على إنتاج خطاب نقدي مستقل، وينشغل في معارك اصطفاف أيديولوجي بدل خوض المواجهات الفلسفية والفكرية الهادئة والخلاقة للمعنى الحضاري. المثقف المتصوِّف الذي يلوذ بالعزلة—زاهدًا في الواقع، عازفًا عن التجديد—يترك جماهيره تتخبط في العتمة بلا دليل. وإذا ما جمد تفكيره النقدي، وأغلق نوافذ روحه على رياح العصر ومتغيراته، صار خطابه طقسًا باهتًا في معبد مهجور. تصوف المثقف إذًا ليس صفاءً، بل انسحابٌ عقيم من معركة الوعي، وحرمان المجتمع من بوصلة كان يؤمل أن تهديه إلى حقه في الفهم والمعرفة، وتجدد حياته في لحظة عطش لمياه الكرامة والعدالة.

عليه ان ينزل من صومعته ليسترجع دوره كمرآة تفضح الأخطاء وتتبنى الإصلاح دون الوقوع في مطبات النضال الأيديولوجي وصراعاته الوهمية. لأن النقد الحقيقي لا يأتي من خلف خطوط الانتماءات المغلقة، بل من مواقف إنسانية وفكرية رصينة.

العُجب الإعلامي للمثقف

بورصة الإعلام المعاصر تتغذى على إدمان الشهرة كمخدر للوعي والأدوار والإصلاحات، لأن معظمه مؤدلج، المثقف هو الهدف الأول بالنسبة لوسائل الاعلام كسلطة عبر الرأي العام، حيث تحولت القضية الفكرية للمثقف عبر العالم العربي إلى ميدان صراع للحصول على التريندات والمتابعات والاعجابات، فاستصغرت الأفكار عميقة المحتوى أمام بريق السطحية والاستعراض والتفاهة. هذا ما حمل المثقف على التخلي عن عمقه وموثوقيته مقابل إشباع رغبة نفسية عابرة في التقدير الاجتماعي الفوري كراقصة أفكار في ملهى سفهاء القوم. هكذا في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، طغى الاستعراض على العمق، وأصبح المثقف أسير للرغبة في الشهرة والترند، وصارت كتابات وخطابات أشباه المثقف سلعة سريعة الاستهلاك تفتقد الأصالة والتحليل المعمق، وقايض المثقف جرأته مقابل إعجابات أو متابعات، لقد تم استغواء المثقف لينزلق في مستنقع الشهرة السطحية والعجب المميت وحتى يستعيد هيبته الفلسفية وحجمه التأثيري ومناعته القيمية عليه أن يتجاوز نرجسيته ويتخلص من أغلال العجب الإشهاري لوسائل الاعلام ليتمكن من فك التناقضات التي اوقعته في أوحال الزعم بلا أثر..

مأزق التجديد عند المثقف

المثقف عندنا أصبح عصابي أسير عوراته التي جعلته حبيس الصدمة (كما يعبر بعضهم عن نكسة 1968م بينما النكسة تعود لما بعد الموحدين أو قبل ذلك بكثير)، في قلب هذه العورات تكمن قضية عبر عنها شارل بيبان في كتابه الأخير بعنوان " العيش مع ماضينا"2 أنه بإمكاننا أن نقيم علاقة حرة وخلاقة مع موروثنا، بدلا من الحداد المرضي البارز في ازدواجية الفكر والممارسة، حيث يرى المجتمع تناقضات صارخة بين دعوات المثقف القيمية وممارساته التي غالباً ما تكون نقيضة لها تماما، مما أفقده كرامته ومصداقيته وجعله حبيس أعراضه النفسية والاجتماعية التي عطلت مسار حياته الذاتي والوظيفي كمؤثر في حاضر مجتمعه ومستقبله. هذا المثقف الذي يظل أسير مقولات آبائه الفكريين أو لخطابات تقليدية عفا عنها الزمن، ولا يواكب التحولات المذهلة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية الرقمية، ليس بمقدوره مخاطبة الأجيال الجديدة بلغة مفهومة أو حلول عملية، فالواقع العربي لا يمكنه أن يتجدد ما لم يبدأ المثقف بالتجديد بنفسه قبل مخاطبة الآخرين، يحتكم للفعل قبل القول، فتصير كلماته جسوراً لا نيازك قادمة من ماضيه الفكري لتهدم لا لتطور او تجدد الرؤية والمنهج والآفاق.

فقدان القدرة على التنوير نابعة من جمود التجديد في حقبة زمنية من الفكر الإنساني، فالخطابات الفكرية بعمومها لدى المثقف العربي، ظلت سجينة لنماذج وأفكار سابقة تفتقد إلى المرونة التي تسمح بمواكبة التحولات الاجتماعية والتكنولوجية والثقافية الراهنة. الخطاب الثقافي للمثقف لا يمكنه التألق والحضور الفعلي ما لم يعكس استشراف المستقبل بفهم شامل للواقع ومخاطبة حقيقية لاحتياجات الإنسان العربي المتجددة، كما عبر عنها مالك بن نبي في كتابته النقدية بخصوص مشكلة الثقافة وأيضا البروفسور مهدي منجرة والدكتور عبد الوهاب المسيري... وغيرهم من العرب الذين لم يتوقفوا عن التحذير من انفلات الصدمة واغتراب المثقف عن دوره في كل زمن قادم..

عورات المثقف في ذاته هي أساس الإصلاح والتجديد، باعتراف المثقف بهذه العورات المخزية، والعمل على مراجعة الذات، وتجديد روح النقد واستقلال الموقف وصدق الفعل ليستعيد المثقف مكانته كضمير للمجتمع الحي وناقدًا يُصلح لا يُبرر، وإلا سيفقد المثقف مسؤوليته الحضارية وكرامته وعدالته الاجتماعية للأبد، ويدفع الناس للتشكيك بدور الثقافة في الإصلاح الاجتماعي والتنوير الفكري.. وعليه لإرساء قواعد ثقافة ومشروع خطاب جديد يتجاوز هذه العورات، لا بد من تبني النقاط الآتية:

- استعادة المثقف لطبيعته المستقلة: عبر تأسيس مؤسسات ثقافية وأكاديمية مستقلة تحمي الحرية الفكرية وتدعم البحث النقدي المستقل بعيداً عن الضغوط السياسية والاقتصادية.

- خلق فضاءات تواصل مع المجتمع: بإعتماد أساليب تواصل حديثة وجذرية بين المثقف والفئات الشعبية، من خلال تعليم الثقافة اللغوية والرقمية والمدنية، وإشراك المثقف في مشاريع مجتمع مدني تلامس الواقع.

- هجران الأيديولوجيات المستبدة: تشجيع حوار تعددي بين مختلف الاتجاهات الفكرية، بعيدا عن تبنّي أصطفافات جامدة، مع التركيز على القضايا الإنسانية الكبرى التي تجمع دون تفرقة.

- ضبط الاسهام الإعلامي: بدعم مبادرات إعلامية ثقافية تقدم محتوى معمق وموضوعي دون الانزلاق للسوقية والبحث عن الشهرة الزائفة.

- تفعيل مبدأ الإحسان ودور الابداع: عبر برامج ممارسات التفكير النقدي للمثقف حول إيجاد أوجه القصور في سلوكه.

- تجديد التفكير النقدي المستدام: على المثقف العربي الاعتراف بأنه عبر التحول المتسارع في استخدام الأدوات الرقمية، أصبح الوعي الإنساني مترابطا بشكل غير مسبوق مع العالم التكنولوجي، حيث أثرت الأجهزة الذكية، والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي على طريقة تفكيرنا وتفاعلنا مع العالم من حولنا. يمكن تقسيم تأثير التكنولوجيا على الوعي إلى مستويين: مستوى الوعي الفردي ومستوى الوعي الجماعي3. مما يستدعي تجديد يواكب تسارع التحولات والرهانات بخصوص دور ومسؤولية المثقف كمفكر ناقد بشكل دينامي مستدام..

هذه النقاط بمثابة دعوة للمثقف العربي نحو سبيل إنعاش الوعي الثقافي العربي وترك بصمة تنويرية تليق بتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا. سبيل الارتقاء يبدأ عبر تحرير المثقف من عوراته الذاتية والتاريخية، ليكون أداة فعالة في بناء مجتمع عربي يحترم التعدد الثقافي، يضمن الكرامة لكل أفراده، ويحتضن الأمل في غدٍ أفضل من خلال خطاب ثقافي واقعي وحيوي ينبض بالكرامة والعدالة.

***

مراد غريبي

.................

1- من مقال "المثقفون" لأنطونيو غرامشي .

2- ترجمة الدكتور مصطفى حجازي، الصادر عن المركز الثقافي العربي سنة 2024م.

3- الوعي في العصر الرقمي، البروفسور فارس البياتي، ص59، سنة 2024م

في المثقف اليوم